أمام مفرزات الحرب..

أمام مفرزات الحرب.."قد حالو"..هل لا تزال تنطبق على السوريين؟! أين نحن من فجوات النفقات والدخل؟!

الأزمنة

السبت، ٧ نوفمبر ٢٠١٥

الأزمنة – مجد سليم عبيسي
يتفق العدو والصديق على مقولة واحدة وهي أن السوري "قد حالو" وأن السوريين خارج بلادهم متميزون ولماحون وعباقرة وأثرياء، وهذه العبارات ليست من آل بيت السوريين، وإنما من كلام الجيران والأجانب..
"جانيت" صديقة إنكليزية قالت لي مرة بفخر اعتراني: أنتم السوريون مميزون عن غيركم في بلادنا، أنتم لستم كالهنود تعتمدون ثاني اثنين.. إما الشهادات العليا وإما العمالة الرخيصة، بل تمتازون بالمرونة والديناميكية وإتقانكم للعديد من المصالح والعمل في مختلف المراكز عدا حيازتكم لشهادات عليا، ولديكم تفاعل مع جميع المسائل ببساطة نستغربها فيكم!!
و"ألبودو" أيضاً صديق من قارة إفريقيا قال لي ذات يوم: لمَ لا تسافر بلادي؟! فالسوريون هناك من أثرى الأثرياء.. ويعملون في جميع المجالات.. وأكمل ضاحكاً.. أظن أن اقتصاد بلادي يحكمه السوريون؟!
والحقيقة الملموسة تقول إن السوري يملك كل تلك المواهب باتفاق كل من اغترب أو ساح، ولكن ما السر وراء هذه الظاهرة الموحدة السائدة في أقاليم متمايزة تضمها حدود سورية؟!
معاناة:
المعاناة والضغط هما أساس تكوين العقل المتميز لدى السوري، كيف؟! الجواب ببساطة يبدأ منذ بدايات الحياة، فالمواطن السوري يفتح عينيه على الحياة العملية وهي تحطم الدخل النقدي الذي ما رفع رأسه يوماً أمام النفقات منذ أكثر من 50 عاماً، فالأسعار دوماً لا تتناسب مع الدخل الوظيفي مهما فعل الموظف، في أحيان كانت النفقات تساوي ضعفي المرتب.. وفي أخرى ساوت عشرة أضعاف المرتب.. وحالياً تساوي أكثر وأكثر!! ولكن رغم ذلك فالسوريون عاشوا ودرسوا وتجاوزوا أجيالاً متتالية وما زالوا مستمرين بعزم، إذا كيف المعادلة؟!
أرقام من 60 حتى 2000:
سنتطرق بالمقارنة للموظف الحكومي أو الخاص "سيان" بحكم أنه محكوم بدخله، ويعد من الحلقات الأولى في الدورة النقدية للمال في المجتمع.
في الستينيات من القرن الماضي كان العامل البسيط (الحمال) لو كسب في اليوم خمس ليرات سورية (تعادل دولاراً وربع الدولار) تكفيه لأسرة متوسطة العدد، هذا في المدينة، أما أسرة القرية فيكفيها دخل ألف وخمسمئة ليرة سورية (400) دولار فقط، في العام كله، لتعيش حياة مرفهة لأن معظم غذائها من إنتاجها.
أما الموظف خريج الجامعة الأعزب فكان راتبه أربعمئة ليرة سورية (مئة دولار) وخلال خمس سنوات على الأكثر يتزوج ويمتلك شقة سكنية من توفير مرتبه.
المدرس كان أفضل إذ يصل مرتبه إلى خمسمئة ليرة سورية على الأقل، وكان هناك موظفون في أماكن أخرى تتطلب بدل طبيعة عمل بإمكانهم شراء البيت والزواج بعد سنتين فقط من التوفير.
مع بداية الثمانينات وإثر تبعات الحروب والعقوبات.. برزت الفجوات بين الدخل والنفقات وأخذت بالاتساع تارة بهدوء وتارة بطريقة سرطانية !! حتى صار كل موظف أو مدرس يعمل عملاً آخر بعد الدوام لمحاولة سد هذه الفجوة، ما استدعى انضغاط المواطن السوري والدأب على العمل بأكثر من مصلحة أو وظيفة بغرض الوصول الآمن من ضفة الدخل إلى ضفة النفقات في آخر الشهر.
في التسعينيات اتسعت الهوة أكثر.. وبات راتب الموظف لا يكفيه سوى 10 أيام في أحسن الأحوال، طبعاً صار الموظف بحاجة إلى ثلاثة أضعاف دخله "يعني ثلاثة مرتبات" فانتشرت عندها أساليب اللف والدوران في كسب العيش وسميت "شطارة"، وسحقت في ذلك الزمان طبقة المدرسين والمعلمين التي لا تجد رشوة ولا سرقة، وصاروا يعملون بأقسى الأعمال بعد دوامهم المدرسي بقصد الأجر المجزي (كحفر الأقنية عند البلدية بالفأس، وهو من الأعمال الشاقة التي يدفع عليها أجر مغرٍ).
 
الدخل 3 مقابل 13 نفقات !!
أجمع السوريون على أن مصروف الأسرة المتوسطة للطعام والشراب والثياب والأحذية، في تلك الفترة وحتى أواخر عام 2000 كانت خمسة عشر ألف ليرة سورية شهرياً، أي إن الراتب والذي كان يقارب /5000/ ليرة سورية يحتاج ثلاثة أمثاله ليسد حاجات أسرته.
ومن الملاحظ أن الهوة كانت تتسع كلما هبطت قيمة الليرة السورية مقابل الدولار جراء العقوبات الاقتصادية التي فرضت على القطر، وصار راتب الموظف السوري يذوب في ارتفاعات الأسعار كما يذوب الملح في الماء:
جدول يبين سعر الدولار مقارنة بالليرة السورية:
قيمة الدولار بالليرة السورية العام
3,90 ل.س 1970 م
4,10 ل.س 1980 م
12 ل.س 1986 م
48 ل.س 1990 م
52 ل.س 1995 م
يمكن الملاحظة من الجدول أن قيمة الليرة السورية قبل 1995 بخمسة عشر عاماً كانت تعادل ثلاثة عشر ضعفاً من قيمتها. أي إن ثلاثة عشر ألف ليرة سورية عام (1995) تعادل ألف ليرة سورية عام (1980).
 
جدول يبين رواتب الموظفين في سورية عام (1995 م)
الوظيفــــــــة المرتــــب
طبيب "خريج" أربعة آلاف ليرة سورية
مهندس "خريج" ثلاثة آلاف ليرة سورية
مدرس "خريج" ألفان وخمسمئة ليرة سورية
خريج معاهد متوسطة ألفا ليرة سورية
عامل موظف لدى الدولة ألف وخمسمئة ليرة سورية
كان الموظف بحاجة إلى رفع مرتبه بنفس النسبة حتى يبقى في مستوى قيمة الليرة السورية، لكن راتب الموظف نستطيع القول إنه تضاعف ثلاثة أضعاف في أحسن الأحوال فقط، فالمدرس كان مرتبه (1500) ل.س عام (1980) صار مرتبه (4500) ل.س عام (1995) فقط لا غير!!.. أي إن المواطن كان يحاول باستماتة سد فجوة أكبر من قدرات الإنسان العادي على التحمل.. ولكنه كان ينجح باحترافية مشهودة!!.
 
انتعاش الـ 2000:
مع ثبات بدل الدولار في عقد الـ 2000 على الـ 50 ليرة سورية تقريباً، بدأ الوضع الاقتصادي بالنمو شيئاً فشيئاً، وبعد اعتماد خطة السوق الاجتماعي المفتوح "بغض النظر عن ثغراتها" انخفضت نفقات المعيشة مقارنة بالدخل حتى باتت النفقات تساوي 75% من الدخل الشهري للموظف، وعادت مرحلة من الانتعاش والانفتاح لم تكن قد شهدتها البلاد منذ فترة طويلة.
وعاشت الناس في دعة وباتت الأحلام التي لم تكن بالمتناول في السنوات السابقة كالبيت الملك، والسيارة، وفكرة السفر للقيام بسياحة خارجية، باتت جميعاً بمتناول يد المواطن العادي وأصحاب الدخل المحدود، وهنا بدأ المواطن السوري يفقد مهاراته بسد الفجوات وعبور الضفاف باحترافيته المعهودة حتى..

الشرخ العظيم:
بعد دخول سورية أزمة الحرب منذ قرابة خمس سنوات حدثت الهوة الأعظم بين الدخل والنفقات لم تشهدها سورية. وأعادت للمواطن ذكريات قديمة بقدرات دفينة حملها في جيناته جيلاً بعد جيل.. وهي الوثب فوق الشروخ وتجاوز الهوات العظيمة.
بدراسة أجرتها الوكالة الدولية السورية وبالاعتماد على نموذج أسرة سورية مكونة من خمسة أشخاص: “أب موظف براتب 30000 ألف ليرة سورية وزوجة وثلاثة أولاد”، تصل نفقات الطعام إلى ما يقارب 45000 ليرة سورية للأسرة، أي بما يعادل 300 ل.س يومياً للشخص حسب معايير الأمم المتحدة للغذاء المتوازن، إضافة إلى مبلغ 25000 ليرة سورية بدل إيجار كحد وسطي، عدا أجور المواصلات لأب موظف مع وجود أحد الأبناء في مدرسة أو جامعة ويحتاج إلى مصروف يومي، فكانت نفقات المواصلات 10,500 شهرياً، ويمكن حساب احتياج الأسرة إلى الدواء في الحالات الطبيعية بقيمة 1500 ليرة سورية، ونفقات اللباس 9000 ليرة سورية كحد وسطي بدل لباس، وبالوصول إلى نفقات التدفئة، فحاجة العائلة تزيد على 500 لتر مازوت، أو ما يعادلها من الطاقة الكهربائية في ظل عدم توافر مادة المازوت وبيعها بالأسعار الاحتكارية غير المدعومة أسعار السوق السوداء، فتكون نتيجة هذه المعادلة 500 لتر بسعر 300 ليرة في السوق السوداء، فتكون النتيجة 150.000 ليرة سورية أي ما يعادل 12500 ليرة نفقة التدفئة شهرياً، إضافة إلى قيمة فواتير متنوعة من هاتف وكهرباء وماء بما يعادل 15000 ل.س وسطياً، وبينت الدراسة في حساب كافة النفقات الشهرية لتكون ما يقارب 118500 ليرة سورية بينما دخل الأسرة هو 30000 ليرة سورية، لتخلص الدراسة بالإشارة إلى عجز الأسرة المادي بما يقارب 88000 ليرة سورية!!.
 
"الشطارة" لم تعد تنفع.. والحكومة صمام الأمان؟!
اتساع الفجوة بين مستوى الدخل والإنفاق، رفع نسبة الفقراء في سورية إلى أكثر من 65 بالمئة، منهم ستة ملايين تحت خط الفقر، بناء على بيانات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "إسكوا".
ومن مسببات الفجوة الكبيرة رفع الدعم الحكومي، فأسعار المازوت ارتفعت بمعدل 80 بالمئة، مما كان له دور واضح في التضخم المحلي، إذ شهد سعر المادة ارتفاعات متتالية خلال السنوات الماضية، من 25 ليرة لليتر الواحد إلى 80 ليرة.
 
وكانت الزيادة الأكبر التي حرر بموجبها سعر المادة، إذ أصبح بـ 135 ليرة، وما تبعها بعدها من زيادة.. كل ذلك انعكس على كل القطاعات الاقتصادية والزراعية والمعيشية. كذلك ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز، وأنواع الوقود الأخرى، بنحو 118 بالمئة، ما أدى إلى رفع كلفة النقل بنحو 105 بالمئة، وفقاً لبيانات المكتب المركزي للإحصاء.
انخفاض سعر الليرة السورية من جانب، ورفع الدعم الحكومي من الجانب الآخر كان أكبر من تحمل البعض الذي لم تعد تنفع أساليب التحايل على الفجوات والعمل الإضافي بسدها، وأصبحت "الشطارة" من نوع خاص -للأسف- هي المنجى من دون الوقوع في عتبات الفقر، أو فالهجرة إلى الخارج كانت هي البديل للكثيرين!!
الخاتمة:
صحيح أن الكثير من السوريين اختاروا السفر والعيش في الخارج لعدم قدرتهم على التأقلم من دون شطارة ملتوية.. وعلى الرغم من العجز الكبير الذي لم يسبق له مثيل في موازنة الدخل والنفقات للأسرة السورية، إلا أن الكثير من السوريين استطاعوا التأقلم وإيجاد الحلول والبدائل. وبمهارة عالية تمكنوا من تجاوز هذه الهوة السحيقة، لا بل مع الحصول على فوائض للبعض والبدء بتكوين ثروات لم يكونوا يحلمون بها قبل الأزمة.. وطبعاً معظمهم "بالشطارة" المعروفة باستفاضتها لدينا، ومن لم يستطع استحضار شطارته هاهنا نظراً للمنافسة الشرسة والاقتتال على المراكز الأولى، "طفش" إلى البلاد البعيدة وبدأ بعرض عضلات شطارته الناجمة عن تدريب شاق دام سنوات في بلد الإعداد الأصيل.. ليثبتوا للعالم الصورة الذهنية المعروفة عن السوريين بأنهم متميزون ولمَّاحون وعباقرة ومن ثمَّ.. أثرياء.