إنها الماء كتبت فيها القصائد وغنتها المواويل

إنها الماء كتبت فيها القصائد وغنتها المواويل

الأزمنة

السبت، ٢٨ نوفمبر ٢٠١٥

زهير جبور
قديمة هي حكايات الإنسان مع الماء، ولولاها لما عاش واستمر وتطور، وهو منذ البداية بحث عن مصادرها، مقترباً منها، مفتشاً عنها، ومن المعروف أن ثمة علاقة بينه وبينها لم تستطع الأحقاب الزمنية إبعاده أو هجرانه إلا من أجل البحث عنها، وأطلق عليها فيما بعد هجرة الماء والمراعي، وهما إيحاء عضوي بتواجد الخبز ووفرة الطعام، وثمة حضارة عرفها نهر الكبير الشمالي في ريف اللاذقية بفضله وعلى ضفتيه ظهرت أدوات الإنسان الأول، ورويت أساطير لم تتجه الأقلام المختصة لتثبيتها وتجميعها، فبقيت متناثرة البعض منها في الذاكرة الشعبية التي تنسى مع الزمن، يحذف منها أو يضاف إليها، وكذلك حضارة نهر العاصي، والفرات، وغيرها، وينبغي أن نؤكد بأن مصادر خيال تلك الحضارات كانت المياه، وإذا توقفنا عند سهل جبلة فسوف ندرك أن لنبع السن الذي يغذي اليوم اللاذقية وطرطوس الفضل الكبير في تشكل الحياة الاجتماعية، وهو المتسرب من أعالي الجبال، ليتدفق غزيراً في المنحدر الجبلي القريب من شاطئ البحر وغيره الكثير في جبالنا الساحلية، التي عرفت بتدفق ينابيعها وغزارتها، وتقديم الماء النقي لأبناء المنطقة، وكما يقال فإن وجود الماء يعني بالضرورة الخضرة، وجذر الشجر، وغنى الثمر.
منذ البداية أدرك الإنسان هذه المعادلة الطبيعية وعاشها، وارتبطت بحياته، فالعشق بأريافنا كان يبتدئ من نبع الماء، والفارس الداخل إلى القرية صادفها وهي تملأ جرتها فعشقها من النظرة الأولى، وأكد جدارة فروسية كي يتقرب منها ويتزوجها، والمرأة تفضل الشجاع، يشعرها بالأمان والحماية، وكانت تحديات الشباب أن من يصل إلى النبع المتواجد في الوادي ويملأ منه الماء ليلاً هو الذي يخترق عالم الجنيات وبطش المارد، ومصارعة الضباع، ومواجهة الأصوات المختلفة المفزعة التي سيجتازها في طريقه للوصول إلى غايته، وترمز بحد ذاتها إلى الإقدام والبطولة.
 إذاً هي الماء كتبت عنها القصائد التي لا تحصى، وغنيت من أجلها المواويل القصيرة والطويلة، والأوف والميجانا، وكانت تشرب من رأس النبع، وتنقل إلى البيوت سواء بواسطة الحيوانات أو عبر حمل الجرار على الأكتاف، وهذه اشتهرت كلوحات فنية خلدت الصورة وربطتها بواقع البيئة المعيشة، (حاملات الجرار)، ولا ننسى غسيل الثياب في ممر النبع، أو على ضفة سرير النهر، والحديث يطول حول ذلك، وكله يصب في مفهوم واحد، الإنسان والماء (ومنها كل شيء حي) بعد أن عبثت يد الإنسان بالطبيعة، ودمرت فيها، في ساحلنا السوري مثلاً جفت ينابيع كانت تستمر في العطاء صيفاً وشتاءً، ومنها من جف نهائياً ولا شيء يوحي الآن بوجوده القديم، سوى بقايا من أحجار أو مسلك غير نابض يفتقر إلى شريانه الحيوي الذي افتقده، وهكذا فإن تراجع الماء يبعث على القلق الدائم، والجفاف كارثة تهدد البشرية، يسمونها الأمن المائي مضيفين والغذائي حروب المياه وغيرها من التحليلات التي تبحث عن حلول.
•    السن والماء
كما ذكرت كنا ننعم بتوافر المياه، ومن المؤسف أننا اليوم وبسبب الظروف المأساوية التي تعيشها بلادنا الحبيبة خسرنا الكثير من مصادرها، وافتقدنا ينابيع دمرتها آلة القتل التي لا تفرق بين إنسان وحجر، الآن تغيب المياه عن منازلنا عدة أيام متتالية، وأكثر ما أمقت هو طلب زوجتي الصعود إلى سطح البناء لتفقد خزان المياه ومدى الكمية المتبقية بداخله، وبناء عليه يتم الاسترشاد في الإنفاق، وإلغاء بعض الضروريات كالحمام مثلاً، وتفقد الخزان المعني عادة دخلت حياتنا بعد انقطاع المياه المتكرر، في المدينة ليومين أو ثلاثة أيام، وفي البلدات والقرى لعشرة أيام، وكانت ينابيعها تغطي احتياجاتها، يعتبر نبع السن الذي تشرب منه اللاذقية من أهم مصادر المياه في حوض المتوسط، تصريفه يصل إلى /13000/ ليتر في الثانية، وشتاء /24000/ ليتر، وينخفض في فصل الصيف إلى /6000/ ليتر، ومن الرحمة أن النبع سريع الاستجابة لمياه الأمطار ويلاحظ ارتفاع تدفقه بعدها مباشرة، ولهذا الموضوع دراسة علمية متعلقة بمصدر المياه من الأصل وتدفقها، والمراحل التي تمر بها وصولاً إلى موقع النبع، عام 1971 بوشر باستثمار مشروع إرواء مدينة اللاذقية، التي كانت تشرب من قبله من ينابيع قريبة (مياه ديفة) وبعض الآبار الأخرى، وقبل المشروع المهم والحيوي، تسربت مياه البحر إلى المياه العذبة التي بدأت تعطي طعم الملوحة، ولم تكن في حينها عبوات المياه (عين الفيجة) (دريكيش) كي تساهم بحل المشكلة في الشرب وصناعة الطعام، فعانت اللاذقية من ذلك لتصلها مياه المشروع بعد وضعه في التشغيل بطاقة 380 ليتراً في الثانية، ثم مع ازدياد عدد السكان تم التطوير عام 1994 ليصل إلى 2044 ليتراً وتتوقع مصادر الدراسات التي أجريت قبل الأزمة إنه في عام 2025 سيصل إلى 4000 ليتر، والطبيعة تجود بكرمها، طبعاً اختلفت ظروف استهلاك المياه بعد تضاعف عدد السكان، واستقبال الإخوة الوافدين من المحافظات االساخنة، وبالمناسبة لم يصدر في موضوع الهدر بالمياه تلك القوانين الصارمة التي تحد من انتشار الظاهرة، ولعل العامل الأول فيها هو عدم الوعي، وتساهل الجهات المختصة بتنفيذ عقوبات وغرامات، وما زلنا نرى ذلك الأنبوب الموصول بصنبور الماء لغسيل العربات، ورش الأرض، وسقاية الحديقة، وحين تتوقف المياه في الصنابير ويغيب تدفقها المعهود نتلظى بحثاً عنها، ووصل الحال فينا إلى استجلاب صهاريج لإملاء الخزانات، من دون أن نتعظ، وربما التقيد الآن يعود بسبب أسعارها ذات الكلفة، وفي حال تدفقها بالصنابير ننسى ما يجب فعله ونعاود الهدر، وثمة أسباب لموضوع المياه كما ذكرت منها انقطاع التيار الكهربائي، حين يعود تعمل المضخات ولا تكاد تغطي أجزاء قليلة حتى تنقطع مجدداً، وكمية المياه التي تضخ لا تصل بكاملها، لأسباب تكلس الأنابيب التي يعود زمنها إلى عام 1971 ويظهر أن الإهمال شملها ولم تجر عليها الصيانات اللازمة، وتدفقها غير المكتمل يحتاج لمولد مساعد ركب في معظم البيوت اعتباراً من الطابق الأول وما فوق، وهم يعملون حالياً في موضوع المعالجة، وأثناء لقاء مع السيد محافظ اللاذقية أظهر قطعتين من حجر متواجد في أنابيب الضخ، وفي الرأي العلمي أن مثل ذلك من العوامل غير المرغوبة بالماء وتمنحها صفة العسرة، وهذا نتيجة تفاعل كالسيوم الماء مع المغنيزيوم، وهي أيضاً تحتاج لتفسير علمي يطول شرحه، ليست خطرة على الصحة العامة لكنها تؤدي إلى تراكم الترسبات بالمواسير وإلى ضعف التدفق، والمعروف أن المياه النقية لا طعم لها أو لون ورائحة، وحين تتحرك بين الصخور تحلل كميات من المعادن لتدخل في تركيبها، فتصبح بعد ذلك قساوة أو عسرة وتزداد نسبة الكالسيوم والمغنيزيوم، وأكد السيد المحافظ أن العمل جار في المشروع بإضافة خط جديد، ومعالجة الخطوط القديمة، وهذا نأمل الإسراع في إنجازه.
•    الوفاء للإنسان
مهما كانت الطبيعة قاسية فهي أرحم من الإنسان على الإنسان، على الأقل هي لا تفرز وحشيتها كما يفرزها لو بقينا نشرب من ماء النبع، ونأكل من خير الأرض، ونتدفأ ونطهو بالحطب، ونتدبر شؤوننا ببساطة ما، كان ذلك بالنسبة لعيشنا أفضل مما نحن عليه اليوم، حضارة لم نتقن مفرداتها، وصلتنا لتنسف حضورنا وقيمنا، وسيرد أصحاب نظرية ما بعد الحداثة، ماذا تقول.. وأي متخلف أنت، وأجيب كان بإمكاننا أن نكون حداثويين وما بعد لو أننا تمكنا من خلق الإنسان أولاً، هو فشلنا الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، ومن خلاله لم تكن لتخترقنا أي مؤامرة صغرت أو كبرت، لو أننا أوجدنا الإنسان لحافظنا على ينابيع المياه وحرصنا عليها، وحصّنا مشاريعنا وإنجازاتنا من الفساد والمفسدين، ولسيّجنا الوطن قبل أن يجرح ويصاب وينزف، ولمنعنا عنه أي أذية، لو كنا مخلصين بحق لكان علينا ألا نقفز فوق الماضي والحاضر ونتجرد منهما بل الاستفادة ونحن نصنع المستقبل ولا نندم على ما فات.
وصلنا متأخرين ودفعنا الثمن، فهل سنستفيق؟ وإن لم نفعل فمن يعيد إعمار البلاد؟ وينقذها من الأشرار وهم يهدمون فيها؟ ويجففون الأرض وينابيعها والسماء وأمطارها.. ومنا من لم يشعر بعد بهول المصاب.