بين روسيا وسورية.. تركيا ضاعت..! الأخلاقيات كانت أولاً.. ثم الاقتصاد

بين روسيا وسورية.. تركيا ضاعت..! الأخلاقيات كانت أولاً.. ثم الاقتصاد

الأزمنة

الأحد، ١٣ ديسمبر ٢٠١٥

الأزمنة – مجد سليم عبيسي
شريك الأمس.. عدو اليوم، من المفارقات الغريبة في عالم الاقتصاد وسياسات المصالح، ولا يمكن الحكم على الطرف الآخر وأخلاقيات تعامله من خلال حجم التبادل التجاري ومدى انفتاحه على اقتصادات الطرف المقابل.. وأي دليل أوضح من تركيا "الجارة" التي ألغينا في فترة من فترات القرن تأشيرة العابرين عبر الحدود بمبادرة حسن نية وتلاطف مع الجوار تجاوزت من قبلنا حدود التعاملات التجارية والمحاصصة. وتبسمنا بتودد رغم حقنا المشروع بالمطالبة بما سلبت سلطنتهم العثمانية في سالف الزمن!!
يمكن أن نقول: إن العكس صحيح في حال كانت الأخلاقيات والصداقة القائمة عميقة، عندها فالموازين التجارية والعلاقات الاقتصادية وأي انفتاحات ستتم بعد ذلك ستكون مثمرة وليست.. كما تركيا !!
 
تركيا.. إتقان دس السم:
حين وقعت سورية وتركيا اتفاقية التجارة الحرة في عام 2005، والتي دخلت حيز التنفيذ في بداية عام 2007، توهم الشعب السوري أن إسهام ذلك في تطور حجم التبادل التجاري وتضاعفه ليصل إلى ملياري دولار في عام 2009، سيعود عليهم بالخير والرفاهية؛ وهنا كان السم المدسوس في العسل؛ حيث تمت سيطرة تركيا شبه الكاملة على المناطق الصناعية في سورية، ما ساعد على نهب وتفكيك ونقل وسرقة المصانع نحو 1700 مصنع سوري، وتخريب وتدمير وحرق أغلبية المصانع المتبقية.
على الرغم من أن اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بين سورية وتركيا عام 2004 صيغت بأسلوب الاتفاقيات العالمية المعتادة في تحرير التجارة بين الدول، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لضمان نجاحها وتحقيق علاقات اقتصادية متكافئة.
فقد وجدت سورية بعد مضي قرابة أربع سنوات على دخول الاتفاقية حيز التنفيذ في عام 2007 تأثيرها السلبي على الاقتصاد المحلي، بعد فتح السوق أمام المنتجات التركية من دون ضوابط، وعدم مقدرة الصناعة الوطنية على منافستها.
ذلك ما دعا مجلس الوزراء السوري في شهر 10 من عام2011، لإعداد مذكرة تقتضي تعليق العمل بهذه الاتفاقية بعد مشاورات مع قطاع الأعمال السوري، والذي أبدى تضرره من هذه الاتفاقية.
إلا أن بعض المحلّلين الاقتصاديين ورجال الأعمال وجدوا أن قرار التعليق سيلحق مزيداً من الضرر بالاقتصاد وسيؤثر على مكانته عالمياً، مقترحين تعديل بعض بنود الاتفاقية بشكل يضمن حصول المنتج السوري على مزايا تفضيلية تمكنه من المنافسة المتوازنة مع المنتج التركي.
ومع تطبيق الاتفاقية على أرض الواقع بدأ الصناع وبعض التجار بالمطالبة بإيقاف العمل بهذه الاتفاقية بعد تعرض المنتجات السورية للإغراق والمنافسة غير المتساوية مع المنتجات التركية.
ورغم أن الصادرات السورية تضاعفت ثلاثة أضعاف بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين سورية وتركيا، فإن الميزان التجاري السوري خسر بنسبة كبيرة، كما أن الاستثمار التركي يعدّ صاحب الحصة الأكبر في سورية، حيث أكدت دراسة أعدتها وزارة الاقتصاد والتجارة وجود 41 مشروعاً في سورية يقع 15 منها في مدينة حلب، التي يلعب قربها عنصر جذب إضافي للمستثمرين الأتراك بعد المدينة الصناعية.
وذكرت الدراسة أن الصادرات السورية حققت نمواً ملحوظاً حتى عام 2009، وقيمة الصادرات في هذا العام أقل مما كانت عليه عام 2006 علماً أن أكبر معدل نمو كان في السنة الأولى من تطبيق الاتفاقية، ففي عام 2006-2007 كان معدل نمو الصادرات السورية أفضل من السابق لكن في عامي 2008- 2009 ارتفع معدل نمو الصادرات السورية إلى العالم أكثر مما كان عليه الوضع مع تركيا، في دلالة على أن دخول الاتفاقية موضع التنفيذ لم ينعكس على تحسن نمو الصادرات السورية، ما يعني أن الميزان التجاري يعود لمصلحة تركيا.
 
تركيا آذتنا.. ألبستنا وحبوبنا.. ومصانعنا:
 
فيما غابت بعض النقاط وضعف تنفيذ نقاط أخرى على الاتفاقية التي كبلت سورية، فمثلاً نصت الفقرة الثانية من المادة الأولى على تسهيل انسياب المنتجات بما فيها الزراعية بين البلدين، بينما تؤكد بعض الشكاوى من المصدرين وجود عوائق ورسوم أحياناً على المنتجات السورية المصدرة إلى تركيا، كما أن تركيا تطبق روزنامة زراعية من دون معاملة بالمثل من جانب سورية، ما يعيق دخول المنتجات الزراعية السورية إلى السوق التركية في بعض أوقات السنة، ويحظر حسب المادة 17 الدعم على منتجات البلدين بينما يؤكد الكثير من المنتجين السوريين وجود دعم على بعض المنتجات التركية لاسيما الزراعية والألبسة.
وصناعات أخرى سورية مهمة تضرّرت بشكل واضح من توقيع هذه الاتفاقية، حيث أكدت هذه الدراسة أن صناعة الحبوب تعد أكثر الصناعات تضرراً بعد إغلاق ما يقارب 40% معملاً سورياً بسبب انخفاض أسعار الحبوب التركية قياساً بالمنتجات السورية، وتعرضت صناعة المفروشات والموبيليا لمنافسة غير مسبوقة أدت لإغلاق 20% من المنشآت، كما تراجعت صناعة الألبسة والنسيج تراجعاً كبيراً خلال السنوات الفائتة بسبب جودة المنتج التركي وسعره المنافس.
على الرغم من أن المنتجات الأجنبية أغلى سعراً وأقل جودة من المنتجات المحلية إلا أن المستهلك السوري يفضل شراءها بسبب التصميم الجميل والتسويق الفني المدروس الذي يجذب الزبائن إليها، فإغراق السوق بالمنتجات التركية دفع بعض صغار الصناع إلى عرض ورشهم للبيع بعد تعرّضهم لخسائر كبيرة، تحت وطأة فرض ضرائب كبيرة على أصحاب الورش.
وتعد كافة الاتفاقيات التجارية والصناعية بين سورية وتركيا اتفاقيات فاشلة ولم تؤمن الدعم للصناعات السورية ولم يكن هناك رقابة على المستوردات من تركيا ما جعلها تغرق السوق السوري بمنتجاتها.
 
استهداف تركيا الصناعة السورية مع بداية الأزمة:
 
لا يوجد مدينة في الوطن العربي تمتلك ما تمتلكه حلب صناعياً، فيها 44 منطقة صناعية و35 ألف منشأة صناعية، لذا فقد تم التركيز عليها في عملية التدمير التركي الممنهج للصناعة وسرقتها المخططة سلفاً. حيث تم تعطيل 70% من مصانع هذه المدينة؛ وتفكيك 1500 منشأة صناعية، وسُرقت محتوياتها ونُقلت إلى تركيا كخردة، فيما هي في أوج صالحيتها؛ كما تم إحراق الكثير من المعامل بيد ما سموه الجيش الحُر والتي وقعت مدينة حلب تحت قبضته عنوةً، ولم يتبق سوى25% إلى 30 % من باقي المنشآت الصناعية في حلب تعمل ولكن بإنتاج أقل وليس بفعالية كاملة.
ورغم أن جميع المدن الصناعية في سورية قد تعرضت للتخريب والسرقة، كما تعرض عمالها للخطف، فإن مدينة الشيخ نجار الصناعية في حلب – تحديداً (وهي المنطقة التي تقع فيها المدينة الصناعية) - كانت الخاسر الأكبر؛ حيث يوجد بها ألف منشأة صناعية عاملة، و3 آلاف منشأة قيد البناء؛ وببنية تحتية ضخمة، إلى جانب وجود شبكة من خطوط النقل تتفرع منها إلى داخل وخارج سورية ذهاباً وإياباً، الأمر الذي أدى إلى إغراء المسلحين لنهشها والتمركز فيها واتخاذها مقراً لهم، وخصوصاً أن المنشآت الصناعية الضخمة الموجودة في الشيخ نجار تتبع لها منشآت سكنية، ما جعل المسلحين يتخذونها نقطة استقرار ومركز قيادة لعملياتهم.
وهذه المنطقة من المناطق المشتعلة، كما أن طريق الوصول إليها غير آمن، ويمر بالعديد من المناطق المشتعلة أيضاً والتي تشكل محوراً، وفي هذه المنطقة، جاء الأتراك بأنفسهم وقاموا بفك تلك المعامل وترحيلها إلى تركيا كخردة، وكان هناك من ينتظرهم في مكاتب افتتحت خصيصاً لهذه الغاية، حيث كانوا يطلبون المعمل بالاسم؛ وكما أن هناك معامل تم تفكيكها بطريقة فنية وخبيرة.
وحسب الإحصائيات الرسمية فمن المتوقع أن تحتاج الشركات السورية لأكثر من 20 ألف فرصة عمل فور انتهاء الأزمة خلال السنة الأولى فقط.
واليوم يطلق على أردوغان ومن معه "لصوص حلب"، ولم تقف الأمور عند هذا الحد وإنما تخطت إلى حرق موسم القطن وموسم الحبوب.
لقد أضرت تركيا اليوم بالاقتصاد الوطني السوري، وجعلوا سورية تحيا باقتصاد حرب.
 
الهزة الارتدادية على تركيا:
 
كل ما فعلته حكومة أردوغان كان رد فعل السوق التركي عليه إيجابياً، ولكن تصاعد التوترات بين أنقرة وموسكو بعد إسقاط سلاح الجو التركي مقاتلة روسية من طراز "سوخوي 24" في سورية، كان له أثر سلبي في المجمل على معنويات المستثمرين في تركيا.
اليوم، تشهد العملة التركية الليرة أكبر هبوط سنوي لها منذ عام 2008، وتقترب من تسجيل مستويات دنيا جديدة، تزامناً مع استمرار مغادرة الاستثمارات الأجنبية تركيا.
تشير وكالة "بلومبرغ" الأمريكية إلى أن المستثمرين من الخارج قد سحبوا نحو 7.6 مليارات دولار من الأصول خلال هذا العام، بما فيها 1.4 مليار دولار خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، الذي تمكن فيه حزب العدالة والتنمية استعادة أغلبيته المطلقة في البرلمان بعد ثاني انتخابات برلمانية في تركيا.
وعلى خلفية الحادث فرضت روسيا عدة تدابير وقيود اقتصادية ضد تركيا، شملت حظر استيراد بعض الأغذية من تركيا ووقف الرحلات السياحية إلى هذا البلد، وهو ما يعتبر ضربة كبيرة لقطاع السياحة التركي الذي يبلغ دخله السنوي 35 مليار دولار.
ويرى وليام جاكسون كبير الاقتصاديين للأسواق الناشئة في "كابيتال إيكونوميكس" للأبحاث أن الديون الخارجية الكبيرة لدى تركيا تجعلها عرضة للتحولات بسبب التوترات التي تسيطر على المستثمر الأجنبي.
وفي وقت توقع فيه محللون للأسواق هبوط الليرة التركية مقابل الدولار في شهر كانون الأول بنحو 3.7%، ليصل سعر صرف الدولار إلى ثلاث ليرات. فقد سجل الدولار من تعاملات يوم الإثنين 7 كانون الأول، قراءة سريعة منذ بداية الشهر تنذر بانخفاض أكثر لليرة التركية، إذ بلغت 2.91 ليرة تركية للدولار الواحد.
 
نمو الصادرات السورية والعلاقات الروسية:
 
وفي الوقت الذي ينهار فيه الاقتصاد التركي تدريجياً.. تتجه أنظار السوريين نحو توصيد العلاقات الاقتصادية مع روسيا عبر عدة مسارات ستسهم بنمو الاقتصاد السوري وتعافيه مجدداً..
فقد كشف "إيهاب اسمندر" المدير العام لـ"هيئة تنمية وترويج الصادرات السورية" أن الحكومة السورية تستورد 20 ضعف ما تصدره لروسيا، وأن "حجم كل الصادرات يفوق الـ 2 مليار دولار خلال هذا العام، مقارنة مع 1.8 مليار دولار خلال 2014".
 
كما أعلن، أن "حجم الصادرات من الألبسة والمنسوجات، يتجاوز النصف مليار دولار خلال العام الجاري"، مشيراً في الإطار ذاته، إلى أن عام 2010 حقق نحو 12 مليار دولار كحجم صادرات، وانخفض الحجم بنسبة 90 في المئة جراء الظروف التي تعيشها البلاد.
 ووفقا لبيان صحافي لوزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية فقد تم إطلاق فعاليات أعمال " قرية الصادرات والواردات السورية الروسية" في سورية. وهي عبارة عن تجمع لعدد من الشركات الروسية المهتمة بالتصدير والاستيراد والتي ستقوم بشراء السلع والمنتجات السورية وتصديرها لروسيا وتستورد بضائع يحتاجها السوق السوري.
 وبالتأكيد بالاتفاقيات مع دولة صديقة كروسيا وذات تصنيف ائتماني طويل المدى ومستقر كما أكدت وكالة "موديز" ‎الدولية للتصنيف الائتماني نظراً لحجم الدين الحكومي المنخفض نسبياً والميزانية المتوازنة للدولة الروسية. فإن الاتفاقيات القادمة تبشر بالالتزام ومصداقية وتعافي للاقتصاد السوري.. فالأخلاقيات أولاً ثم الاقتصاديات.