آخر أنفاس الفساد..ستخنقنا !!

آخر أنفاس الفساد..ستخنقنا !!

الأزمنة

الاثنين، ٢١ ديسمبر ٢٠١٥

الأزمنة – مجد سليم عبيسي

علناً، بات الموظف يقول لك: إن لم يعجبك فاذهب واشتك.. وهو يفتح كفه بلا خجل وعينه وقحة تطالب بالرشوة.. كلمة الرشوة التي وجد لها المجتمع السوري عدة مرادفات كالمعلوم.. والسكرة.. والحلوان.. والإكرامية.. لم يغط حقيقتها السوداء التي التهمت القلوب أي مصطلح حتى باتت علنية لا تهاب إلهاً ولا قانوناً ولا وازعاً من ضمير. ويمكن القول إن جميع أخبار الحكومة اليومية وإنجازاتها اللا واضحة تصبح مهمشة أمام خبر ملفق كموظف تنتابه حالة استشرافية ضميرية في إحدى الدوائر! أو موظف يحلف يمين طلاق لن يرتشي بعد اليوم. لأننا نقف اليوم أمام حقيقة أننا بتنا نتنفس الفساد ونستحم به.. لأننا استمرأناه!!.
 
أولاً.. الرشوة وعدم المحاسبة:
 
قبل الحفر للدخول إلى أم شجرة الفساد، لا بد من تعرية أغصان تلك الشجرة الكثة من أوراق الرشوة المتكاثفة.. فهي في الحقيقة إكسير الفساد وغطاؤه الذي تتشعب تحته سوق وجذور الاختلاس وتشويه القضاء وغسيل الأموال.. وتكاثف هذا الأمر حين سكتت المحاسبة القانونية عنه، وتطور من عمل مظلم يتم في الخفاء إلى أوراق عريضة تتحدى صدر شمس الحق.
ولم تخف عن القانون أساليب الرشوة التي كانت متبعة منذ سنوات، ولكن العصابات المنظمة المستفيدة في مختلف المرافق هي التي صارت تغض الطرف عن ممارساته وتمرره من وراء ظهر القانون.
أبسط أساليب الرشوة هي تلك التي يمارسها الموظف البسيط المحتك مع مراجعين ليس لديهم مطلب سوى توقيع روتيني على ورقة ما. عبر الابتسامة والتوقيع بلياقة وكلمات معسولة تستجدي ذوق المواطن لينقده "إكرامية".
طريقة أخرى هي عبر استغلال الطابع المالي أو الورقة المجانية لطلب ما حيث إن كانت تكلفة الطلب مع طوابعه 200 ليرة سورية، يأخذ الموظف 325 ليرة !! ولدى مراجعته يقول بأن فرق المبلغ هو سعر الورقة علماً أنك تقرأ بوضوح على الطلب كلمة "توزع مجاناً".. وترمق الموظف وهو يسجل على سجله ويحرر لنفسه إيصالاً إنه قبض منك 200 ليرة سورية فقط لا غير!.
والأساليب تتعدد وتتغير ولكن أدهى ما يمارسه موظف هو أن يبتز المواطن كما يفعل أغلب موظفي الدوائر الرسمية اليوم. موظفة في مؤسسة الكهرباء كانت "تلعب شدة" على حاسبها، أعطيتها معاملة لإجراء اللازم فقالت:
- ارجع غداً..
-لماذا؟!
-هكذا القانون..
وبعد جملة من عبارات التهديد بالشكوى أخذت الورقة بانزعاج وقالت:
-سأمشيك الآن فقط لأنك صحفي..
وافتعلت شحطاً صغيراً بزاوية الورقة بقلمها من دون ختم أو أي شيء وأعطتني إياها قائلةً: "خالصة" وهنا كدت أنفجر: لأجل هذا تؤجلين الناس أياماً؟!
ثم فهمت أنه أسلوبها هي وأغلب الموظفين لابتزاز المواطن ليدفع مقابل كل ضربة قلم من أيدي هؤلاء الموظفين، أو فلينتظر.. فسياسة "دع المواطن يستوي ويختمر" هي المتبعة !!
هذا عدا الفساد الكبير واستغلال المناصب والقبض مقابل القفز فوق القوانين والاتفاق على نهب أموال الدولة؟!
 
ترتيبنا بالفساد.. وعصابات التهام الخيرات:
 
وفق تقارير منظمة الشفافية الدولية فإن سورية تفوقت في الفساد وباتت تحرز مراكز متقدمة فيه، حيث تطور ترتيبها من 115 عام 2006 ثم 105 عام 2007 ثم 70 عام 2009 وفي عام 2014 حصلت سورية على مرتبة متقدمة حيث كانت من أكثر وأفسد عشر دول بالعالم وهكذا ترتفع رتبة سورية في الفساد على مر الزمن ولربما مع بداية 2016 سنحرز المركز الأول!!
قدر حجم الفساد الذي دب في كل مفاصل الدولة وفق دراسات قرابة 200 مليار ليرة سنوياً. وهذا الرقم يحوي بين طياته استنزافاً سنوياً لموارد الدولة وإهداراً لجميع الطاقات المبذولة عبر الاختلاس والرشوة والتحايل على القوانين! وبالمقابل كل ما يبذل من جهد وعمل في سبيل دفع عجلة التطور في البلد قدماً يتم ابتزازه وامتصاصه من قبل عصابات التهام خيرات الوطن وتحقيق مكاسب شخصية على حساب المصلحة العامة..
وفى الواقع يختلف المهتمون بدراسة ظاهرة الفساد حول تعريفهم للفساد إلا أن المفهوم الاصطلاحي يمكن اشتقاقه من منظمة الشفافية الدولية على أساس أنه إساءة استخدام السلطة المخولة لتحقيق مكاسب خاصة على حساب مصلحة المجتمع ككل. وللفساد صور متعددة تتراوح بين الرشوة والمحسوبية والإثراء غير المشروع والاستيلاء على المال العام وغسيل الأموال.. أما نتائجه التي لمسناها في الفترة السابقة فهي التي كانت سبباً من الأسباب الرئيسية لإطالة أمد الأزمة، والتي باتت لها عصابات مقننة بطريقة شيطانية وعمل منظم يدار بتوجيهات رؤساء تلك العصابات التي أغلبها محمية بمظلة حصانة قانونية!!
 
أسباب :
 
لعل الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء تفشي تلك الظاهرة يمكن إجمالها فيما يلي :
1 - سقوط هيبة الذراع التنفيذية للرقابة وغياب سيادة القانون، فقد شرعت قوانين لخدمة فئات معينة على حساب المجتمع ككل فضلا عن أن تنفيذ تلك القوانين لم يخضع لمبدأ العدالة بل خضع لاعتبارات سياسية ومالية، عدا المماطلات في محاكمات الفاسدين والتي أدت لهروبهم للخارج قبل محاكماتهم.. باتفاقية بين الشيطان والفساد ضد القانون. هذا غير أن القانون لم يوفر الحماية الكافية للشهود في قضايا الفساد المختلفة ما أدى إلى هروب الشهود من سلطة الفاسدين.. وهروب الفاسدين كذلك – خصوصاً من هم في أعلى الهرم الوظيفي للدولة – من العقاب الرادع.
 -2 الفساد أصبح أسلوب حياة للسوريين حتى ألفوه وأصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية في صورة إكراميات وشاي وقهوة وسكاكر..الخ من المسميات تحت بند الرشوة.. كما أصبحت التعيينات في الشرطة والقضاء والسلك الدبلوماسي ومعظم شركات القطاع العام والخاص خاضعة لاعتبارات المحسوبية والوساطة والرشوة !
-3  ضعف الجهاز الإداري بالدولة وتفشي البيروقراطية وانخفاض الأجور والمرتبات مقارنة بالغلاء المتنامي، أدى إلى إفساح المجال للفساد أن يعمل فيها وبقوة، ناهيك عن عدم وضوح الهدف والرؤية وتنازع الاختصاصات وضعف الأجهزة الرقابية للدولة أدى إلى أن بعض المؤسسات لا تتعاون مع تلك الأجهزة معها وعلى رأسها وزارة الداخلية بالرغم من أن القانون يخول الحق للأجهزة الرقابية بالضبطية القضائية إلا أن وزارة الداخلية لم تتعاون بل منعت الخبراء من القيام بدورهم الرقابي. والقانون نفسه جعل الأجهزة الرقابية خاضعة للسلطة التنفيذية فأضعفها بل أوصل رسالة للسوريين مفادها أن الحكومة نفسها فاسدة وتتستر على الفساد ما كسر روابط الثقة بين المواطن والحكومة، وهمشت دور الصحافة في فضح الفساد للمحاسبة وجعلت من عمله حبراً على ورق ليس إلا.
4 - مجموعة أسباب تتعلق بالموازنة العامة للدولة وبسياسات حكومية استفزازية للموظف محدود الدخل أولاً.. وللمواطن ثانياً: فالإنفاق الحكومي البذخي والسيارات الحكومية الكثيرة / 7 سيارات للوزير / وارتفاع عدد المستشارين ورواتبهم وغياب الصناديق الخاصة عن الموازنة وعدم خضوعها للرقابة والفساد في تسعير منتجات الثروة المعدنية وعلى رأسها الغاز والدعم الذي لا يوجه لمستحقيه وتصفية القطاع العام تحت دعوة الخصخصة والتوسع في منح القروض من دون ضابط ولا رابط.. كل هذه الأمور كانت أبواباً مفتوحة لولوج الفساد في الحياة الاقتصادية في سورية.
 
آمال.. و10 من الحلول :
 
بما أن المرض بات معروفاً.. فأعتقد أن أي مواطن يمكنه أن يصدق على جملة العلاجات التالية :
-1 توافر الإرادة السياسية لمكافحة الفساد وهذا بالفعل موجود في توجهات سيادة الرئيس الدكتور بشار الأسد منذ أول يوم تولى به الرئاسة حيث وضع أمامه ملفين لهما الأولوية في التصدي وهما: الأمن ومكافحة الفساد.
-2 توافر الأذرع السلطوية والتنفيذية غير المستفيدة لتنفيذ رغبة الإرادة السياسية والتكاتف ضد عصابات الفساد ورفع الحصانة عمن هم في قمة الهرم الوظيفي للحكومة والدولة.
-3 الشفافية ودور أجهزة الدولة في مواجهة الشعب بالحقائق من دون مواربة أو تزيين أو تزييف فالشعب أصبح جزءاً لا يتجزأ من المعادلة السياسية بل أصبح القائد والداعم لأي عملية تنموية إصلاحية تحدث في البلاد.
-4 تهيئة الإطار القانوني الموائم الذي يكفل تعظيم دور الأجهزة الرقابية في الرقابة وتخويلها كل السلطات اللازمة التي تكفل عملها على أعلى مستوى من الكفاءة والفعالية مع ضرورة فصلها عن السلطة التنفيذية ولا سيما تجميعها بالكامل تحت وزارة مستقلة.
-5 منح سلطات عليا للقضاء الممثل لقانون الدولة، فلا أحد فوق القضاء أو بمنأى عن الحساب.
-6 العمل على خلق منظومة تشريعات قانونية جديدة تسترجع هيبة وسيادة القانون مرة أخرى وتسد المنافذ في وجه الفساد والمفسدين.
-7 تحقيق العدالة السريعة والصرامة في المحاسبة لكي يتوافر عنصر الردع لأي شخص تسول له نفسه أن يقترب من الفساد.
-8 تحسين الوضع المعيشي لمحدودي الدخل بدراسات موضوعية ومطابقة للواقع والتنفيذ السريع بما يواكب تقلبات الأسعار.
-9 رفع درجة الوعي والثقافة العامة بظاهرة الفساد من خلال مؤسسات الإعلام والتعليم والمؤسسات الدينية.
-10 الإصلاح المالي والاقتصادي بضبط الموازنة العامة للدولة والرقابة على الائتمان الممنوح.
 
الرشوة في القانون السوري:
 
لقد عالج المشرع السوري جريمة الرشوة وملحقاتها في المواد 340 حتى 346 من قانون العقوبات العام، فميز بين قبول الرشوة من الموظف للقيام بعمل من أعمال وظيفته وهنا يكون الجرم جنحوي الوصف والعقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة أقلها ضعفا قيمة ما أخذ أو قبل، أما إذا التمس الموظف العام أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو وعداً أو أي منفعة أخرى ليعمل عملاً منافياً لوظيفته أو ليهمل أو يؤخر ما كان عمله واجباً عليه فالجرم هنا جنائي الوصف والعقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة وبغرامة لا تنقص عن ثلاثة أمثال قيمة ما أخذ أو قبل.
والمشرع السوري عاقب الراشي (الشخص الذي يقدم أو يعرض الرشوة على الموظف) حتى وإن لم يلق عرضه قبولاً عند الموظف وعقوبته تكون الحبس ثلاثة أشهر على الأقل وبغرامة لا تنقص عن ضعفي قيمة الشيء المعروض أو الموعود، وفي نطاق السياسة الجنائية للمشرع السوري فقد أعفى الراشي والمتدخل من العقوبة إذا باحا بالأمر للسلطات أو اعترفا به قبل إحالة القضية للمحكمة.
كما حدد المشرع في المادة 346 جرماً يطلق عليه الاجتهاد القضائي التماس أجر غير واجب ويتكون هذا الجرم عندما يقبل الموظف بأجر غير واجب عن عمل سبق له إجراؤه من أعمال وظيفته أو مهمته والعقوبة هنا الحبس من شهر لسنة والغرامة أقلها ضعفا قيمة ما قبل به. من الجدير ذكره أن المشرع عاقب على جرم الرشوة بعقوبات مشددة في قانون العقوبات الاقتصادي وذلك في المادتين 25 و22منه.
بشكل عام لا يمكن فصل الرشوة كجرم عن بقية أنواع الجرائم، فالجريمة بشكل عام ليست ظاهرة إنسانية عامة فحسب وإنما هي أساساً ظاهرة طبيعية لأنها تتلازم مع الحياة حيث وجدت، وبإسقاط ذلك على مفهوم الرشوة نجد مردها إلى تطور الحياة الاجتماعية وظهور المؤسسات والدوائر العامة التي تقدم الخدمات للمواطنين، وإلى البنية الوظيفية المعقدة وتركيباتها ولاسيما في الأنظمة الإدارية التي يحكمها الروتين والبيروقراطية كما هي الحال في سورية، وهذا هو تعليل تفشي ظاهرة الرشوة في القطاع العام أكثر منه في الخاص الذي تسوده غالباً روح التنافسية والتعاون وتكون فيه مصلحة الشركة والعمل مقدسة أكثر من أي شيء آخر ما يقلل من مظاهر الرشوة.