مبادرات فردية إنسانية روت ظمأ العطشى..حفر الآبار لتخفيف أزمة المياه مالها وما عليها

مبادرات فردية إنسانية روت ظمأ العطشى..حفر الآبار لتخفيف أزمة المياه مالها وما عليها

الأزمنة

الثلاثاء، ٢٢ ديسمبر ٢٠١٥

 الأزمنة| مصطفى رستم
أخذت الطفلة "غادة " تراقب بعيونها نزول آخر قطرات الماء المتدفقة من صنبور الماء قبل أن يتوقف نهائياً عن التدفق وهي ممسكة بوعاء صغير بالكاد جسدها الغض يستطيع حمله، هي تعيش كفرد من عائلة مؤلفة من سبعة أفراد، الطفلة غادة التي فقدت والدتها ووالدها بالحرب، تركتها الحياة تنازع حتى لتأمين كوب ماء ولا يهم إن كان يصلح للشرب أم لا، فهي بعمر عشر سنوات ولا تعلم عن المدرسة والصف والكتاب والدفتر المدرسي أي شيء بألم وحسرة وبانكسار شديدين التقطت ما استطاعت تعبئته لتخرج منكسرة الخاطر وسط زحمة الناس المتجمهرين لتعبئة المياه أمام عدد من الصنابير، ستعود إلى منزل عمها من دون ماء هذه المرة.
تمشي متثاقلة الخطا لبيتها، ورغم قسوة الحياة وما تسلبها منها إلا أن براءة الطفولة أبت إلا أن تكون بادية على محياها، ورغم يأسها إلا أن الأمل يأبى إلا أن يكون له مكان، وللون الأبيض مساحته مهما اتسعت رقعة السواد، غادة غيرت طريق منزلها ولم تضيعه بل أخذت طريقها لأقرب بئر حفر حديثاً في الحي التي تقطن فيه، وركضت هي وأخواها الصغيران اللذان أتيا ليساعداها في نقل الماء، وأمسكا بيديها راكضين جميعا للبحث عن بئر آخر.
هي إرادة الحياة "عزيزي القارئ " أن تدفع غادة وإخوتها للبحث عن الماء والبحث دون توقف عن مصدر الحياة، ،" الماء " وماء الشرب، فكم من طفلة تشبه "غادة " في حلب تلك المدينة التي يؤرقها أكثر المعضلات والمشكلات صعوبة دون حل جذري في مدينة حلب التي لا تعطش، وهي التي كان سكانها يشربون من نهر الفرات العذب.
تسقي العطاش:
ولكن.. البئر الذي خرج للنور حديثاً في الحي لم يُخرج الماء للأهالي فقط بل أخرج الناس من معاناة يومية ومن حالة اليأس إلى فرحة عارمة لم ترو ظمأهم فقط بل أثلجت قلوبهم، وخففت من عذابات أناس يلتقطون بأيديهم أوعية فارغة ويتنقلون من بئر ماء إلى بئر آخر لكي يحصلوا على قطرة ماء ترويهم.
قطرة الماء تلك كانت وما زالت حتى كتابة هذه السطور مشكلة تؤرق المواطنين بل وتستنزف مدخراتهم وأموالهم التي تذهب ثمن - صهاريج مياه -، هي بنفس الوقت جعلت جيوب تجار ومستغلي الأزمة أكثر تخمة، ولم يعد بمقدور الحلبي ذلك المواطن الذي أرهقته سنوات الحرب بقدرته أن يحتمل هذا الكم الكبير من الضغوط والاستغلال من تجار الأزمات فهو يدفع نفقات إضافية وتكاليف لم تكن بالحسبان من قبل حتى اعتادها، من تكاليف المولدات الكهربائية – الأمبير- الذي يتحكم به تجار الأزمة تقريباً – 5000- ليرة سورية كمعدل اشتراك شهري للأمبير الواحد، وصولاً لـصهريج الماء الذي وصل سعره في ظل هذه الظروف إلى 2000 ليرة سورية في الأيام العادية، ويرتفع السعر في أوقات الذروة والطلب الشديد، ليصل سعر الألف ليتر إلى ما يقارب (4000) ليرة سورية.
 أسعار صهاريج المياه أشبه ببورصة مسعورة، وسوق سوداء لبيع مياه غير صالحة للشرب، وماء مجهولة المصدر، وتعبأ من آبار من دون مراقبة، واستغلال بشع لمواطن مسكين واستغلال لحاجته، بالإضافة لمزاجية أصحاب وتجار المياه بأبشع صورة يعرفها جيداً أهالي حلب.
حال المواطن الحلبي كحال النبي – أيوب - بصبره وجلده على الأزمات والمصائب والكوارث المتلاحقة ونقص بالخدمات، في ظل حرب مستعرة الوطيس هذا ما يقوله أحد المواطنين الذي يقف بجانب صهريج مياه ولسان حاله "شويلي جابرك على المر"، ، "أبو قاسم" يردف قائلاً:
"الحياة بالنسبة إلينا قطرة ماء للشرب فقط لا نريد غير ذلك، ورغم ذلك لا تجدها، وإن وجدتها فعليك أن تدفع ثمنها لمستغلي الأزمة ومصاصي الماء والدماء، علي أن أدفع 4000 ليرة سورية لصاحب هذا الصهريج مقابل ألفي ليتر ماء بعد مراعاة هل من المعقول ذلك، هو يعبئ المياه من مناهل ماء وآبار بالمجان، ويضع تكاليف توصيل بسيطة وبأرخص الأثمان وعلينا أن ندفع من جيوبنا ثمن الماء الذي لا يكفينا لعائلة لأربعة أيام، متى ستنتهي أزمة المياه ؟؟؟!! وإن كانت الأزمة بعيدة عن الحل فلماذا لا تقوم المحافظة بحساب دقيق لسعر وتكاليف الصهريج وتحاسب كل من يرفع التسعيرة ؟!!).
مبادرات فردية:
دوام الحال من المحال بهذه المقولة بدأ الحاج"محمد خواتمي" من أهالي سكان مدينة حلب وأحد الأشخاص الذين بادروا لحفر بئر في هذه الأزمة على نفقته ووضعه تحت تصرف المواطنين ليحصلوا منه على الماء، وبلهجة مملوءة بالتفاؤل ولا تخلو من الحزن والأسى لما آلت إليه أوضاع الناس في مدينة لم تعطش على مر الأزمان والعصور بل إن الفرات يسقي أهلها تحدث هذا الرجل لنا قائلاً:
 استحوذت مشكلة نقص المياه ومعاناة أهل مدينتي حلب على تفكيري وبدأت بالتفكير بضرورة أن أجد حلاً لنفسي ولأهل حارتي التي أقطن فيها، فوجدت من الواجب علي الإسراع بحفر بئر ارتوازي خاصة أني أستطيع ذلك فأنا لدي الإمكانيات المادية لذلك شجعني ذلك قرار الحكومة ممثلة بالمحافظة التي أطلقت جملة قرارات من السيد المحافظ لتخفيف الأزمة، ومنها منح تراخيص لحفر الآبار وبالفعل كانت فرحتي عظيمة حينما خرجت أول قطرة ماء من البئر وانسكبت على الأرض كما كانت فرحة أهالي الحي أكبر، ووضعت عدداً من الخزانات بقرب من البئر لاستجرار المياه وتم عليها تركيب عدد من صنابير المياه لتصبح الخزانات المملوءة بالمياه مع ماء البئر بخدمة أهالي الحي في أي وقت كان.
مع الفرحة غصة الكهرباء:
لحل هذه المعضلة أزمة المياه في حلب توالت المبادرات الفردية بحفر آبار لاستجرار المياه ورغم كل الصعوبات التي كانت تواجه أصحاب هذه المبادرات إلا أن إرادة الحياة وإرادة فعل الخير كانت أكبر السيد " صادق سماقية " 50 عاماً من أصحاب هذه المبادرات الفردية التي أنتجت في نهايتها بئراً ظهر مؤخراً يتحدث عن مبادرته بفرح وأمل، لكن يبقى حسب قوله تبقى غصة، ولسان حاله وحال أهالي الحي يا فرحة ما تمت يقول:
بعد الكثير من المعاناة والعمل الشاق والمضني والإمكانيات المالية التي أنفقت على حفر البئر بمبادرة من- أهالي الخير- خرج الماء من البئر واستطعنا في وقتها أن نؤمن الماء لأهالي الحي، وحقق البئر الغاية المرجوة منه حتى إنه قطع الطريق على أصحاب الصهاريج ومستغلي أزمة المياه، وأخذت الناس بتعبئة المياه دون حاجة لشراء الماء منهم لكن هذا الأمر في الوقت الحالي أصبح صعباً جداً، فالبئر يعمل على الكهرباء لاستجرار المياه، وحلب دون كهرباء لأكثر من شهر، وأعطال المولدة كثيرة وتحتاج إلى مازوت ليبقى الاستجرار مستمراً ويغطي حاجة الناس، لكن ورغم كل هذه الصعوبات إلا أننا نعمل على تركيب خزانات مياه كبيرة لتجميع المياه وتأمين تدفق واستجرار منتظم للمياه، مع الاضطرار لتخفيف أوقات تشغيل المولدة الكهربائية.
حفر عشوائي:
ورغم إيجابيات هذه المبادرات إن كانت من منظمات إنسانية متمثلة بالهلال أو من فاعلي خير أو من مبادرين يهتمون بتأمين المياه للناس وأهالي مدينتهم، بالإضافة للآبار التي حفرت من قبل الدولة إلا أن مشكلة تؤرق المختصين في علم الأرض والجيولوجيا تكمن في مستقبل هذا الاستخراج أو الاستجرار الجائر، لا بد من التوقف عندها والتفكر بها.
الدكتور مصطفى العلي الأستاذ في كلية الهندسة المدنية أبدى تضامناً مع هذه المبادرات لأنها تحقق غاية إنسانية ونبيلة بتأمين المياه لأهالي المدينة، لكن في الوقت ذاته أخذ يتحسس بيده ناقوساً خشي أن نقرعه في المستقبل البعيد إن بقي هذا الحال على وضعه ألا وهو الاستجرار الجائر، والدكتور العلي أبدى قلقه مرتكزاً على حقيقة علمية واضحة تتعلق ببنية الأرض فقال:
حفر الآبار حل من الحلول البديلة المهمة لأن الإنسان بحاجة للماء لكي يحيا لكن من المهم عدة نقاط يجب الانتباه لها، منها أهمية مراقبة هذه الآبار والإشراف عليها أثناء الحفر، خاصة تموضع أماكن الآبار، وتوزعها، حتى لا نقع في مطب الحفر العشوائي، ولكي يكون الاستجرار المائي من قاع الأرض متوازناً.. وفي سياق حديث حول مخاوف الخبراء وأصحاب الاختصاص في الشأن الجيولوجي من حفر الآبار وأسباب ذلك قال الدكتور العلي:
لا توجد في الوقت الحالي مخاوف من الاستجرار وإلى الآن الأمور تجري بشكل طبيعي لأن الناس بحاجة ماسة إلى الماء، وهذه الآبار تحقق فائدة إنسانية بالطبع، لكن إن بقي الوضع القائم كما هو عليه لوقت طويل مع استجرار غير مدروس، ومع كثرة حفر الآبار يجب أن نعلم أننا أمام مشكلة يجب النظر إليها والتحقق منها عبر لجان هندسية تهتم بالتدقيق والبحث، وهي كميات المياه الهائلة المستخرجة، ستؤثر بشكل سلبي، لأن كميات المياه المستخرجة ستترك فراغاً مكانها، وبهذا الشكل سيخل في التوازن الحاصل في عمق الأرض، وهذا الفراغ سيؤثر بلا شك، ومن مخاطر الفراغ في حال حدوث اهتزازات أرضية سيكون الضرر مضاعفاً، ولهذا لابد من حل مشكلة المياه وعودتها بشكل طبيعي، مع ضرورة العمل على حملات توعية للتقنين وأن يكون لدى المواطنين دافع ذاتي بعدم الإسراف بالمياه حفاظاً على هذه الثروة المائية.
خزانات مياه للعموم:
ومع مخاوف حفر الآبار واتساع رقعتها على المدى البعيد تقوم المحافظة بالإشراف الدقيق والمدروس بتوزيع الآبار للتقليل من كل هذه المخاطر، سعياً منها لإيجاد حلول بديلة، ومن المبادرات الإنسانية التي يجب التوقف عندها فيما يخص الآبار واستجرار المياه مبادرة منظمة الهلال الأحمر السوري بحلب الذي أخذ على عاتقه المساعدة الإنسانية:
في هذا الجانب ذكر لنا مصدر من الهلال أن المنظمة قامت بتأهيل 101 بئر ويقول المصدر: عملية التأهيل للبئر يتم بشكل كامل ومنها إنزال الغطاس، تزويد بمولدة وبناء مناهل مع كل الاحتياجات اللازمة، وهذه الآبار هي الآبار التي تتبع لمؤسسة الموارد المائية والآبار ذات الأعماق الكبيرة.
ويقوم الهلال الأحمر السوري على إنشاء خزانات كبيرة مجهزة بصنابير للآبار التي يتم حفرها من قبل أشخاص لتكون في متناول العموم كمبادرة إنسانية تحقق الفائدة للجميع.