رحيل .. التشكيلي هيثم الكردي.. أهتم بتعبيرية الموضوع قبل واقعيته..

رحيل .. التشكيلي هيثم الكردي.. أهتم بتعبيرية الموضوع قبل واقعيته..

ثقافة

الاثنين، ٢٥ أبريل ٢٠١٦

عندما نقرأ البطاقة الشخصية للفنان التشكيلي والدكتور الراحل هيثم الكردي، الذي توفي فجأة الأربعاء 20-4-2016 نجد أن الفن كان يشكل لديه فسحة أو استراحة من عناء عمله كطبيب أعصاب، وهذا لا يعني أنه لم يكن يمتلك قدرة فنية وتقنية، بل على العكس من ذلك، فقد كان يرسم الطبيعة والبنى المعمارية بلمسات لونية عفوية تتفاوت بين الواقعية والانطباعية والتعبيرية،

وكان يبدو واثقاً في وضع لمساته اللونية المتحررة، التي كان يعمل من خلالها على كسر نظام الشكل الواقعي، والوصول إلى التأليف الفني الحديث والمعاصر.‏

تنويع تقني‏

ففي لوحاته عن دمشق القديمة وغيرها، والتي قدمها في عدة معارض فردية وجماعية، شاهدنا جرأة في استخدام مساحات اللون بالمقارنة مع لوحات الطبيعة التي بدت قريبة من التشكيل الفني الانطباعي، فالإيقاع التشكيلي البارز في لوحاته عن العمارة القديمة يكمن في قدرته على الجمع بين الإشارات الهندسية، في إضفاء المساحات المربعة والمستطيلة في أماكن متفرقة من اللوحة، وبين اللمسات اللونية المتتابعة التي تحقق نوعاً من الغنائية في فضاء الشكل المعماري.‏

وكذلك في محاولاته التي كان يرمي من خلالها الى إيجاد توازنات جديدة للجمع ما بين التعبيرية والانطباعية والواقعية الجديدة، للوصول إلى أبعاد تشكيلية مختلفة ومتفاوتة، في انتمائها إلى ما ساد وما هو سائد من مدارس فنية في التشكيل والرسم الحديث. وهكذا بدت لوحات العمارة القديمة أكثر ميلاً إلى التعبيرية الذاتية، التي تجمع ما بين الشاعرية والغنائية اللونية المستمدة من إيقاعات تشكيلية حديثة..‏

ولقد جنح عمله في هذه المجموعة من لوحاته نحو تشكيل البناء المعماري، بإضفاء المزيد من اللمسات اللونية العريضة الناتجة عن ضربات مشحف الرسم أو فرشاة الألوان، وهذا عمل على إظهار الإيقاعات الهندسية الناتجة عن الضربات الأفقية والشاقولية لمشحف الرسم، بحيث انحازت الرؤية هنا أكثر فأكثر نحو إشراقة الداخل، أو نحو النسيج البصري المسطح للمساحة، رغم أن اللوحة تحقق في مظهرها العام الكثير من الإيهامات التعبيرية والانطباعية.‏

وهج اللحظة الضوئية‏

إلا ان هذا الشعور، بإضفاء المساحات اللونية الهندسية، التي كان يعيد من خلالها صياغة أشكاله المعمارية، سرعان ما كان يتغير عندما ينتقل إلى معالجة لوحاته التي تتمحور حول المنظر الطبيعي المقتطف من تداعيات الذاكرة الطفولية، حيث كان يدمج فيها بين محاولاته لإبراز اللمسة الغنائية للون كرؤية، وبين إظهار وهج اللحظة الضوئية للوصول إلى ما يسمى بالتعبير الانطباعي عن حركة وحيوية المنظر الطبيعي.‏

واللوحة الانطباعية لم تكن في فن هيثم الكردي سوى محاولة لتأكيد معطيات الذاكرة الطفولية، وتجاوز المؤشرات الواقعية نحو العمق الآخر للمنظر، الذي يبرز باللون والضوء العلاقة القائمة بين الفنان وبيئته عبر التأكيد على مظاهر علاقة النور بالزمن وبضوء الشمس. فاللوحة الانطباعية هي لوحة نهارية قبل أي شيء آخر، محددة بزمان ومكان وبزاوية الرؤية، فهو إذا كان قد استعاد المشاهد الحية الباقية والمترسخة في الوجدان، فإنه في ذات الوقت أضاف إليها البريق اللوني الملتقط من تأملاته لتلك الأمكنة أثناء زياراته المتواصلة إليها، للوصول إلى إيقاعات التشكيل الانطباعي في العمل التلويني.‏

فقد جذبته ولسنوات طويلة مشاهد العمارة القديمة والطبيعة والعناصر الإنسانية، وهو وإن كان قد ذهب أحياناً إلى لونية متداخلة بحرية وعفوية، إلا أنه كان يقدم في النهاية لوحة متزنة وقادرة على تخطي الرؤية التقليدية، وكان يريد من خلالها زيادة تحسسه لإيقاعات جمالية حديثة لها علاقة مباشرة بثقافة وفنون القرن الماضي، قرن التحولات والانقلابات الفنية الكبرى التي غيرت مجرى الفن في هذا العصر، فاللمسة اللونية العفوية التي ظهرت في لوحاته كحركة وجدانية، كانت قادرة على نقل الصدى اللوني التلقائي لتموجات الحالة الداخلية التي كان يعيشها أثناء إنجاز اللوحة، والتي حقق من خلالها، رغبة بإضافة الحركة والحيوية في فراغ السطح التصويري أو على وتيرة الألوان المتراكمة فوق بعضها البعض.‏

حركات اختزالية‏

وإذا كان هيثم الكردي (من مواليد القنيطرة 1953) قد اعتمد على تشكيل مساحة شبه هندسية، فإنه استطاع بذوقه وبحساسيته البصرية تحويل أشكال المربعات والمستطيلات إلى حركة عفوية بعيدة عن الرزانة والحسّ الرياضي والتزييني.‏

وهذا يعني أنه كان يعتمد على الحركة الإيقاعية للون التعبيري والانطباعي، أكثر مما كان يعتمد على التعبير اللوني الواقعي الساكن، وكان يقدم تنفيذاً لونياً سريعاً لا يعتمد على الدراسات المسبقة، بقدر ما كان يعتمد على الإملاء المباشر، والعمل على نقل الحالة التعبيرية الذاتية الى سطح اللوحة.‏

وأبرز ما ظهر في لوحاته ابتعاده عن التجريد الخالص أو المطلق، فهو مهما انفعل اتجه نحو التلقائية المباشرة في وضع اللون، كان يبقى على ارتباط بالصورة والواقع، من خلال بحثه الدائم عن ملامحه العامة أو اشاراته المبسطة والمختزلة.‏

ولوحات هيثم الكردي ذهبت إلى تنويع في الصياغات، فمن تبسيطية الشكل واللون، واختصاره أحياناً إلى التلوين الأحادي، والعناصر الخطية المختزلة، إلى الأعمال الأخرى التي تعتمد على غنى اللون وابراز غنائيته وكثافته، والبحث عن إيقاعاته الموسيقية، بالإضافة إلى تعبيرية وجه الإنسان المتجه أكثر إلى أسلوب التلقائية في صياغة الألوان وابرازعنفها.‏

ولعل هذه الحرية التي كان ينطلق منها في صياغة عمله الفني، هي التي فسرت احساسه وعفويته، فإما أن يكون هادئاً أثناء إنجاز اللوحة فتأتي حسب إحساسه الداخلي ملطفة نوعاً ما، وإما أن يكون عكس ذلك في أخرى، فتأتي ألوانه وخطوطه منفعلة وعنيفة وتلقائية، ولا يعني ذلك أنه وكما اشرنا لم يكن يدرس المساحات اللونية والأشكال والمادة التي يعمل عليها للوصول إلى درجة من التوازن التكويني والتشكيل اللوني اللذين بدا فيهما أكثر تحكماً وثقةً في بناء اللوحة.‏