بين النفسي.. السياسي.. الفكري.. الراحل د. محمد أحمد نابلسي

بين النفسي.. السياسي.. الفكري.. الراحل د. محمد أحمد نابلسي

ثقافة

الجمعة، ٢٩ يوليو ٢٠١٦

زهير جبور
بحزن يحزّ في النفس أكتب عن الراحل العزيز الدكتور محمد أحمد نابلسي الذي خطفه منا الموت، في وقت نحن بحاجة إليه نفسياً. فكرياً. اجتماعياً. عربياً. مضى مخلفاً للأقرباء والأصدقاء ولمن عرفه أو قرأ له لوعةً، وقد فارق الحياة بمدينة طرابلس بلبنان مخلفاً خسارة كبيرة للطب النفسي العربي، وللثقافة بشكل عام، وكان قد قدم للمكتبة العربية البحوث والدراسات، ونشر على نطاق واسع ضمن اختصاصه العلمي، وشموليته الثقافية، متواصلاً مع أبناء أمته العربية، ناشطاً في مجالات متعددة تخدمها وقضاياها، وهو يقيم جسور التواصل مع المثقفين العرب والأدباء والمفكرين، في هذا الظرف الصعب الذي يمر بنا، كانت صداقتي معه نتيجة هندسة حياتية حققتها المصادفة وبنيت فيما بعد على أساس علمي. معرفي. وكنا نتناول أمراض أمة ضيعت مقومات وجودها، وضيعوها، وفي مثل هذا ستواجه صداقات الأفراد عوائق تفرضها المصالح الناسفة للكثير من القيم والمبادئ، ومجتمعاتنا قد جرفها الفساد، ولا وقت لديها لمباركة صداقات العمق المجردة من سطحيات الغايات، التي يبرز فيها القشر بعيداً عن المضمون، ربطتني به صداقة إنقاذ الذهن، والنظرة الصائبة لما ينبغي أن يكون ويعمل عليه، والبحث عن المصير الذي نراه ولا نواجهه، يكبلنا من دون سعي للإنقاذ، وفي مثل هذا الزمن الاستسلامي. الخنوع. المهزوم. نحن بحاجة للصداقات السليمة، والحرص على تمتينها واستمراريتها مهما كانت التحديات، وعملنا ينبغي أن يصب في توضيح الرؤية، وإزالة التشويش، وإظهار الحقيقة وإنقاذ التفكير من شلله.
التقيته في مدينة طرابلس، استدركت أن ذلك الشاب الذي يواجهني لا يؤمن بالأيديولوجيا ويقف ضدها، وأنه ليس من الشخصيات التي تفرض عليها المواقف، ومن الصعب أن يغلق الخيار على نفسه، هو من ذلك النوع الذي لا يقتنع إلا بعد التأكد، ومن أجل الإنسانية يندفع بعاطفة قد تظن للوهلة الأولى أنها غير مدروسة، أو نابعة عن ردة فعل، لكنها في الحقيقة عكس ذلك، ولم ينجر حسب معرفتي لردة فعل ما، وجاءت دراسته النفسية لتستكمل جوانب شخصيته، فظهرت ميزاته وعلى أساسها كون قاعدة جعلها المرتكز لتوجهاته، جمعنا اللقاء الأول في إحدى صالات النشاط الأدبي بطرابلس، وحين قدمته المعرّفة إليَّ لنتصافح كما هي العادة، أضافت إلى الاختصاص المهني عشقه للأدب، والفن، وللشعر الذي لم يكتبه لكنه يتذوقه، وحينها أحاطت به شخصيات فكرية وصحفية وسيدات وسادة من أبناء المجتمع الطرابلسي، ولاحظت ذلك الاهتمام الذي ينصب عليه، وقدرت أنني أقابل شخصية غير اعتيادية، حدث ذلك عام 1980 أثناء التوترات السياسية، والمخاطر القائمة، والتهديدات المستمرة، والبلد في حالة الاقتتال، وكنت أميناً للسر في فرع اتحاد الكتاب العرب فرع اللاذقية، جذبتني وسامة الشاب، بلون جلدته كالقهوة العربية الأصيلة، وابتسامته الواثقة، وهو الحكيم الذي وصل إلى شهرته الطبية في وقت قصير بعد عودته من الدراسة والاختصاص، يحمل مشروعه الفكري، طارحاً نفسه بثقة، ويعمل على إصدار مجلة كانت متفردة في لبنان باسم الدراسات النفسية، ومن أحد أهم أهدافها (دعم الإنسان العربي في مواجهة كوارثه المعنوية التفكيكية الناجمة عن إحياء عقدة قابيل في منطقتنا، حيث تتبدى معالم جراحة جغرافية أكثر وحشية من جراحات معاهدة فرساي وملحقاتها، وأكثر خطورة من معاهدة سايكس بيكو، وكانت هذه الأفكار في ذلك الوقت نوعاً من الخيال، ولم يتوقعها الساسة، وكبار المحللين السياسيين الذين يقولبون التحليل على مقاساتهم، وغالباً منافعهم، وإرضاء أسيادهم، وحين نسترجع أهداف المجلة وأسباب صدورها فسنجد أن الراحل من الذين عاينوا القادم بدقة، ووضع احتمالاته على ضوء الواقع وما كان يجري، فدق ناقوس الخطر، وأكثر من الكتابات عن الفوضى الخلاقة، والخارطة الجديدة، معتمداً رؤيته المنطلقة مما كنا عليه، وبعد الأحداث الدامية المؤسفة التي وقعت في بلدي العزيز سورية، حدثته مذكراً بعقدة قابيل، والجراحة الجغرافية الأكثر وحشية، وهم يقتلون البشر ويستبيحون الدماء من أجل تنفيذها، وكانت حواراتنا قبل الأحداث، وما سمي الربيع العربي تدور حول المستقبل، اهتم بذلك وهو من السباقين في تناول تلك المواضيع، سيكولوجية الحرب العربية، علم النفس السياسي والأزمات، وكان المركز العربي للدراسات النفسية الذي أسسه وأداره وأصدر عنه المجلة قد نشر العديد من الكتب التي تناولت الحالة العربية (الحرب النفسية في العراق) (النفس المفككة) (السياسة الأمريكية والصهيونية)، والكثير من المواضيع الأخرى، لغرض توظيف العلوم النفسية في خدمة الأمة، ومعالجة أمراضها، ومواجهة تحدياتها والنهوض بها، وكان الراحل ممن عانوا كثيراً من هذا الواقع العربي واندفع لتغييره بكل ما يستطيع، وعليه فيمكننا وبعد رحيله أن نصفه عربياً بامتياز، لكن تخبط ثقافتنا جعلتنا نهمل مفكرينا العرب ونتجاهل منارات فلاسفتنا، وقد أرشدت من كانوا قبلنا، ولم نأخذ من تجارب الماضي، ونخطط للقادم، وكان نشاطه محاولة للإنقاذ، قدم للعلوم النفسية من جوانب مختلفة، وجعلها ضمن صياغات وهي العلم الذي لم يكن الساسة يكترثون به، ولا يشجعونه، وهو خارج حسابات مناهج التربية والتعليم، ومع مجموعة المختصين الشرفاء في الوطن العربي شكل جبهة انتشرت بين مصر. تونس. سورية. العراق.لبنان. هدفها النهوض بالطب النفسي ليأخذ دوره الطبيعي في سلامة المجتمع، وخلوه من أمراض كارثية ينبغي الوقوف عندها ومعالجتها، واعتباره من مقومات الثقافة العربية، فالنفس السليمة تنتج الطاقة التي يمكن استغلالها في النهوض، وتساهم بالتخطيط العلمي المعتمد بأساسه على قاعدة العقل وخلوه من الأمراض النفسية والعقد، تنبه إلى هذه الصعوبات وإلى تخلفنا العربي في الفهم والعالم يسبقنا. علماً. دراسة. صناعة. فضاء. وما وصلنا من حضارة الغرب إلا قشورها وزيفها، وتقليدها من دون إتقان، فسارع إلى عقد مؤتمرات في مدينة طرابلس دعا إليها المركز العربي للدراسات النفسية، الكثير من المهتمين والباحثين، وأصحاب الاختصاص في العلوم النفسية، وهو يقدر ما يتطلبه الاتجاه من جهد للوصول إلى الوعي، وإيجاد الحلول، ووطنه ينزف، ومهمة الثقافة التصدي، وقد وضعتنا الأزمات في قيودها، وافتقدنا التوازن، والعلاج أصبح مطلباً للاستمرار، هو ما استبصره وقدم من أجله، لم يعمل على جمع المال ولو أراد لحصد الكثير، رفض المتاجرات، والمشاريع الصناعية والسياحية، والإغراءات الأخرى، تجنب في علاقاته المدعين. المزاودين. وحدد طبيعة دراسته عن هواية، وخدم أبناء مجتمعه ولم يجعلها مهنة الربح أو الخسارة، حافظ على إنسانيتها وعالج مرضاه من دون مقابل وقدم للفقراء خدمات احتاجوها، وهو يكد في مجتمع قهرته قسوة الحرب، وشرذمته السياسة، وكان ضحيته  أبناء الطبقة الفقيرة، الذين لا يملكون ثمناً لشراء الخبز، كرس سنوات من عمره القصير لمعالجة المعاناة، أخذها من نتائجها المأساوية وصداماتها النفسية، وسعى للوصول إلى تباشير الأمل في التغير المطلوب وإنقاذ ما يمكن، لم يعرف الاستقرار، لأنه كان كثير التجوال والسفر، وبسبب مشروعه الوطني أجّل الزواج، وفي تلك الزحمة الزمنية لم يهمل ميوله الأدبية ومقدرته النقدية، واستمد عناصرها من دراسات معينة في الواقع، كما تناول شخصيات لأبطال الرواية العربية في أدب نجيب محفوظ، وعلاء الأسواني، وغيرهم، وكان قد تناول بعض أعمالي القصصية، كما دعي لإلقاء محاضرات في النقد الأدبي، وشارك بندوات في المحافظات السورية، واستضيف لمهرجانات عربية، ودولية، اهتم الراحل بموضوع البطل في الرواية العربية، درسه نفسياً، الجانب الذي يفتقر إليه نقدنا المعاصر المحتاج للاختصاص ربطه بالأدب، وأبطال الروايات يمثلون الواقع بهزائمه وانكساراته، وأعلمني قبل الأزمة أنه يعمل على إنجاز دراسة حول الموضوع النفسي والأدبي في النص الروائي، وذكر أنه اختار روايتي(موسيقا الرقاد) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، وجدها تحمل اليأس من الأيديولوجيا والكفر بالجماهير، والرقاد اسم نهر يعبر مدينة القنيطرة في الجولان السوري المحتل، يتشكل من ذوبان ثلوج جبل الشيخ، ليجف صيفاً ويتدفق شتاء، وهي الفكرة التي بنيت عليها الرواية.
اهتم الراحل بمواجهة الأمركة والصهيونية، ومن مؤلفاته كتاب الثورات الملهوفة الذي لقي إقبالاً جيداً، وكتبت عنه الدراسات، كما اهتم بسيكولوجية السياسة الإسرائيلية كاشفاً المراوغة في المفاوضات واختراق العرب تحت مسمى التطبيع، وحلل الشخصية الصهيونية التي يستعبدها المال، والشائعات، وتخنقها الأساطير، وأطلق عليها النفس المغلولة، وثمة كتب أخرى مثل العلاج النفسي للأسرى وضحايا العدوان، وكان له في سورية جمهوره، ولمجرد الإعلان عن محاضرة أو ندوة له فسوف تكتظ الصالة بالحضور، وقدم عبر الشاشات الوطنية السورية الكثير من اللقاءات والمداخلات وبكاملها تظهر تجذره اليعربي.
 كان شخصية محبوبة. شعبية. يحاور الناس ويجالسهم. صديقاً.
عمل الراحل في علم المستقبليات دراسة وتحليلاً، وكان من أوائل الذين كشفوا الخفايا وسارع إلى إنشاء المركز العربي للدراسات المستقبلية، كرس السنوات الأخيرة من حياته للعمل في المركز ومواجهة الأخطار، محذراً من القادم، والتطرف الديني، وحظي المركز بإعجاب القراء من جميع أنحاء الوطن العربي، ووصل عدد زواره إلى الملايين، ووجده مناسباً للقاء مع أكبر عدد من أبناء الأمة، وناقش المركز قضايا الإسلام والعروبة، وأدرج المستقبليات عبر اهتماماته، أساليب المخابرات الأمريكية، وحلل بشكل خاص مواضيع مثل نهاية التاريخ، ونهاية الإنسان، والاختراق الثقافي، وتصنيع قادة المجتمع المدني، ومشروع تغيير الخريطة العربية، وركز على مجمل العوامل التي لعبت دوراً في ما وصلنا إليه، لقد طرح الراحل أن تراجعنا المستمر سيجعلنا  أكثر شحوباً، وهو الذي رفض ذلك الاصفرار، وكان يبحث عن علاقات سوية مع البشر يأخذ منهم ويعطيهم، كانت خطواته منبسطة أمامه لأنه عرف ماذا يريد ولماذا يريد. ولم نكن نتوقع قسوة الفراق التي تركت مرارتها.