صوت في البرية…. ودروب وعرة في الحياة … هيلاريون كابوتشي مطران القدس في المنفى… أتم رحلته إلى السماء

صوت في البرية…. ودروب وعرة في الحياة … هيلاريون كابوتشي مطران القدس في المنفى… أتم رحلته إلى السماء

ثقافة

الثلاثاء، ٣ يناير ٢٠١٧

د. اسكندر لوقا
أن يأخذ أحد على عاتقه مهمة التعريف بعالم صرح من صروح النضال من أجل الحياة بكرامة في زماننا الحالي، خطوة فيها الكثير من المجازفة، المعني بهذا الصرح هو سيادة المطران هيلاريون كبوتشي، الذي اختار لحضوره بيننا، في سنة 2007، دربا في الحياة هو الأشد وعورة بين الدروب، ولكن الأكثر رسوخاً في تاريخ أمتنا العربية.
ولأن مكانة المطران بين رعيته، كما جاء في توصيفه لها مجيباً عن سؤال أحد محاوريه في الخامس عشر من شهر كانون الأول عام 2000، بمنزلة الراعي فإنه من هذا المنطلق لم يبق واقفاً عند عتبة المتفرجين على ما يدور في ساحة المواجهة بين الرعيّة وأعدائها، كما الوقفة المترددة بين الخراف والذئاب في ساعة الخطر، فكانت نقلته المشهود لها من موقعه كراع في أبرشيته في مدينة أم الكنائس، إلى موقع المدافع عن هويتها التي استلبت في عدوان العام 1967، بغية طمس معالمها إلى أمد غير محدود.

هذه النقلة الوطنية أدت إلى الحكم عليه بالسجن اثنتي عشرة سنة، كما نعلم، قضى منها أربع سنوات إلى أن أثمرت جهود قداسة البابا بولس السادس، فخرج من السجن ليصير مطرانا على القدس في منفاه مدينة روما.
سنة زار سيادته سورية عدة مرات، عبر عن هواجسه كإنسان منفي عن أرض الوطن، وفي هذا السياق أذكر قوله: أنا أعيش في المنفى، والله يعلم ما المنفى ومن يعش في المنفى يعش الذكريات، وأنا أعيش في الذكريات، أنا دائماً في سورية ودائماً في القدس. والذكريات تولد الحنين وتولد العذاب، وابتعادي من القدس هو موتي المعنوي، أنا في هذا المنفى يومياً أموت أكثر من مرّة، أنا تعيس، كل طموحي في هذا العمر أن أرجع إلى وطني وأعيش في سورية بين شعبي وأرجع مطراناً للقدس.
ولأن ما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة، كما في أدبيات النضال منذ نكسة الخامس من حزيران 1967، رأى سيادة المطران كبوتشي، في هذا السياق، أن القوة ليس السلاح دائماً مصدرها، بل ثمة مرتكزات أخرى، وهي الأقوى كما نفهم من قوله: بل القوة هي وحدة الصف والتضامن والاتحاد.
وأعطى مثالاً عن يقينه بهذه المعادلة، مشيراً إلى زمن طفولته في مدينة حلب قال: أنا فخور بكوني سورياً، لأن سورية هي التي علمتني كل يوم ونحن أطفال، قبل أن ندخل إلى الصف «بلاد العرب أوطاني»، أنا سوري، لكنني ابن القضية الفلسطينية.
استناداً إلى رؤيته هذه أسهم سيادته في تسليح عملية لنسف مقر الكنيست الإسرائيلي خلال انعقاده في سنة 1974، بيد أن فشل العملية كشف عن دوره فيها وعلى ضوئها حكم عليه.
ولعلنا لا نخطئ بإشارتنا، في هذا السياق، إلى ما تعنيه حالة السبات التي هي عليه في الوقت الراهن أمتنا العربية، تجاه الخطر المحيط بها من جميع أطرافها، بينما أعداء العرب، يتربصون بمسيحيي ومسلمي الشرق الأوسط تحديداً، لجرّهم إلى ساحة الاستسلام للأمر الواقع، وهم وقوف في المكان لا يملون من ترديد عبارات المحبة والمؤازرة والتعاطف، والنتيجة، كما نراها في معظم الأوقات جعجعة في جرن ولا طحين.
هذا الوقع جسد سيادة المطران كبوتشي معناه بقوله رداً على سؤال: إن المحبة حين لا تترجم على أرض الواقع تبقى مجرّد عاطفة، تقارب الكذب والنفاق والدجل.
ويروي سيادته، في هذه المناسبة، أن السيد المسيح سأله مار بطرس ذات مرة: هل تحبّني؟ قال له: نعم، فسأله مرة ثانية، فأجابه بنعم، وسأله مرة ثالثة فقال له السيد المسيح: لماذا تسألني؟
ونحن بدورنا، إذا ما سألنا أحد عن سر محبتنا للمطران كبوتشي، نحيله إلى ما رواه عن حكاية مار بطرس والسيد المسيح.
في كتابنا المقدّس درسنا أن البيت الذي ينقسم على نفسه يخرب، ومن هنا دعوته إلى وحدة الصف والتضامن والاتحاد تبقى في حاجة إلى تفعيل وليس إلى مجرد كلمات تقال في مناسبة تقتضي من قائلها مسايرة المستمعين إليه، وثمة اعتبارات عديدة كما يعلم الجميع، تفرض على القائلين بمعادلات الوحدة والتضامن والاتحاد، أن يعلنوا ذلك أحياناً، ولكنها تبقى في مكانها بلا حراك، وتنطفئ جذوتها، مهما كانت ساخنة، مع انقضاء وقت المناسبة التي اقتضت مقاربتها، فتضيع بالتالي، ولا أقول تخفت معالم الالتزام بالقضية المطروحة أمام القارئ.
هذا الالتزام، يضعه سيادة المطران كبوتشي أولوية في الرهان على مستقبل المواجهة مع أعداء العرب، يقول إن القدس هي بمنزلة الروح للجسد، هي كذلك بالنسبة للأرض الفلسطينية، ومندداً بأطماع الإسرائيليين وادعائهم بأن هذه الأرض لهم ومن أملاكهم يروي ما شاهده شخصياً في سنة 1978 فوق باب الكنيست، قال: أنا بأم عيني رأيت فوق باب الكنيست في القدس عبارة «من الفرات إلى النيل حدودك يا إسرائيل» أنا في سنة 1978 رأيتها هناك.
من هنا دعوته للتشبث بالأرض، والسعي لاسترداد قدسها، محذراً من نتائج هجرة شبانها وشاباتها بحثاً عن سلام هنا أو هناك، وفي يقيننا كما أقدّر، أن فراغاً إذا ما حدث في مكان ما نتيجة هجرة أصحابه، لابد سوف يملؤه الغرباء عنها، ويروي التاريخ أمثلة كثيرة عن هذه الظاهرة- الكارثة التي صنعها الغزو الصهيوني لأرض فلسطين في العام 1948 وما بعد، وهي مستمرة حتى اليوم، وذلك وصولاً إلى خلق دويلات صغيرة، ضعيفة، متناحرة بعضها مع بعضٍ، ويضرب سيادته مثالاً ما كان يحدث في ثمانينيات القرن الماضي، وينسحب على أيامنا الحاضرة. قال: إن ما يحدث في لبنان من سوء الطالع مخطط له وليس مصادفة. إن ما يحدث ليس من أجل خراب لبنان وتجزئة لبنان فحسب، وإنما انطلاقاً من لبنان بهدف بلقنة المنطقة برمتها. إن أعداء المنطقة يحاولون خلق دويلات طائفية لكي لا تكون إسرائيل الدولة الوحيدة في هذه المنطقة ذات الطابع الديني.
وأنا هنا قد لا أملك حق القول إن غياب الراعي الصالح عرض خرافه لخطر القهر والتشرد، ولكن ماذا عن هذا الغياب في رعاية من تبقى من أفراد القطيع؟ إن سيادة المطران حتى ما قبل سنوات قليلة يحذر من تفاقم خطر الهجرة من الأرض، حيث الشرعية لم يعد لها أثر في مستقبلها. والشرعية الدولية، كما أشار إليها سيادة المطران كبوتشي، ذات يوم تقول إنه لا لاحتلال أرض الغير بالقوة. ومشيراً إلى حق العرب بأرضهم التي سرقت منهم، ينوه بالقرارين 242 و338.
وعند هذه الفاصلة في سياق كلامه عن الحق والقوة، يضيف قوله: إن المساومة على الحق جبن وتخاذل واستسلام.
ويرى في هذا السياق أيضاً أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. يقول: الكرامة هي الحياة، وعنوان الكرامة هو وطن. ويضيف قوله: من هنا وطني فلسطين المناضلة، وطني سورية التي علمتني الصمود ورفض أي مساومة على الكرامة مقابل رغيف الخبز.
ولا أظن أحداً منا يرى غير هذا الرأي. إن عودة إلى الماضي القريب نسبياً، توضح له ما معنى الاكتفاء بالخبز وحده، منذ تاريخ إبرام اتفاقية كامب ديفيد، واتفاقية أوسلو، مروراً باتفاقية الإذعان، واتفاقية وادي عربة، وكلها اتفاقيات برهنت على أن إسرائيل نجحت في اختبار قدرتها على ترجمة قانون «الغاية التي تبرر الوسيلة». وها نحن نقطف ثمار المساومة على حقنا في أرضنا المقدسة. ولا يظنن أحد أنني أبالغ في قولي إن غياب السلام في وقتنا الراهن يضعنا أمام معادلة لا بديل لها: إما سلام وإما حرب.
وبالإشارة إلى امتناع إسرائيل عن مد يدها لصنع السلام العادل والشامل مع العرب، لسيادة المطران نظرته التالية. قال: السلام يعني الجغرافيا. وهذا ما تردده سورية في كل مناسبة.
ولهذا الاعتبار كثيراً ما أشاد سيادة المطران كبوتشي بمواقف سورية الوطنية والقومية. على سبيل المثال قوله التالي: لأن سورية امتداد لفلسطين وفلسطين امتداد لسورية، والتربة نفسها، سألت عن حالة قلبي، وإذ بقلبي يجيبني أنه ما زال ينبض ويكبر، وهذا بفضل هذه الانتفاضة المشرفة التي نرفع بها رأسنا حالياً، وتقف سورية إلى جانبها بكل شرف وأمانة. البارحة، عندما نزلت من الطائرة، بلا شعور رأيتني أقبل الأرض السورية، أرض العرب كل العرب. وحين وضعت أذني على هذه الأرض فذلك لكي أسمع صدى القلب الذي زرعته في فلسطين عندما أجبرت على تركها. وهناك أيضاً، قبل أن أنفى ركعت بلا شعور وقبلت الأرض وكأنني دفنت قلبي هناك. وهكذا سورية دائماً في قلبي وأجيء إليها لأتموّن فيها المؤونة الروحية، إن العالم العربي من دون سورية مثل طاولة على ثلاثة أرجل، ولكي تقف لابد من الرجل الرابعة.
في سياق هذه النقلات السريعة بين القول والفعل، بين الفكرة والفكرة، أستذكر إجابته عن سؤال لمراسل وكالة الـ«قدس بريس» في أيار من العام 2002 جاء فيها: إن تل أبيب تشن حرباً جهنمية على الشعب الفلسطيني الأعزل إلا من إيمانه بعدالة قضيته وحتمية انتصاره.
بهذه الرؤية الواضحة لديه حول تلازم الإيمان بعدالة القضية، أضفى سيادة المطران كبوتشي، عملياً، بركته على مسار المقاومة في التصدي للاحتلال الصهيوني، مشدداً، في الوقت ذاته على حتمية الانتصار، لتتحرر الأرض المغتصبة وتعود إلى أصحابها الشرعيين. وهو إلى اليوم لا يمكنه تصور نفسه بعيداً عن هذه الأرض. ويروي ما يلي: أنا في بيتي لديّ «كابيلا» أي مصلى صغير. ومن يعجبه هذا فليعجبه، ومن لا يعجبه لا يعجبه. وإلى جانب صورة سيدتنا مريم ثمة صورة لسيادة الرئيس حافظ الأسد، وذلك اعتزازاً بذكرى اليوم الذي استقبلني في قصره، في الحادي عشر من شهر كانون الثاني عام 1988. ويومياً عندما أصلي أغمض عيني وأسكت قليلاً، ثم أطلب من الله أن يحفظ سورية ويحقق لأهلنا فيها ما تصبو إليه نفوسهم.
ولا أعتقد أنني سأنسى يوماً، تلك الابتسامة الدافئة التي قابل بها قائدنا الراحل الرئيس حافظ الأسد مشاعر المطران كبوتشي، معقباً عليها بالقول: من دون مجاملة، هنا في البلد كل الناس يقدرونك، حتى الأطفال ينظرون إليك كمواطن سوري، ويفتخرون بأن مواطناً من بلدهم، رجل دين، يمر بكل هذه الظروف الصعبة والمعقدة، ولم يحد عن الطريق أو يضيعه، بكل الصدق أقول لك إن كل الناس عندنا يتتبعون أخبارك ويعتزون بمواقفك.
ومع تفاقم تدفق يهود العالم، إلى فلسطين، وبينهم من لم يعرفها في حياته، على حساب من هجّروا عنها قسراً، في سنوات الاحتلال، يتساءل سيادة المطران كبوتشي بصوت عال: كيف يكون من حق هؤلاء المجيء إلى فلسطين، وأنا ابن فلسطين ليس ليّ الحق أن أعود إلى بلدي؟
تلك هي المعاناة التي يعيشها سيادة المطران كبوتشي منذ أن غادر فلسطين في الثامن من شهر تشرين الثاني سنة 1978، مودعاً أبرشيته التي تولى إدارة شؤونها منذ قدومه إلى القدس في سنة 1965. وفي يقينه، وهو في منفاه، أن ضمير العالم لابد أن يستيقظ يوماً، وأن العالم العربي والإسلامي لابد أن يتخطى حالة الغرق في نومه، بأمل عودة كل المهجرين والمهاجرين إلى بيوتهم في أرضهم فلسطين، حيث ولد المخلص وصلب من أجلنا نحن البشر، وقام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء.
وحين يصف سيادة المطران كبوتشي حالنا اليوم- نحن أصحاب القضية- يشبهه بحالة المغلوب على أمره كما في المثال الذي يروى: «رغيف خبز كامل لا تقسم. المقسوم لا تأكل. وكلْ حتى تشبع»!
ولا يخفي سيادته قناعته بأن المناضلين من أبناء أمتنا العربية سوف يواصلون نضالهم حتى يوم تحرير كل ذرة من تراب وطننا العربي المقدس ويضيف: يبقى أملنا بيقظة الضمير ذات يوم ليتبين الجميع الخط الأبيض من الخط الأسود، الخط الفاصل بين الخير الذي يكمن في قلوبنا والشر الذي يكمن في قلوب أعدائنا.
أذكر ذلك، حتى لا يبقى الصوت يتردد في البراري وليس ثمة من يسمع حتى لا يكون السؤال كما سأل الشاعر:
هو صيحة ملأ الفضاء دويّها
فسل العروبة هل لها آذان؟