تاريخ مقاهي دمشق..لو أن الطاولات والكراسي تتكلم لروت تاريخ دمشق.. بقلم: شمس الدين العجلاني

تاريخ مقاهي دمشق..لو أن الطاولات والكراسي تتكلم لروت تاريخ دمشق.. بقلم: شمس الدين العجلاني

ثقافة

السبت، ٦ يونيو ٢٠١٥

دمشق مدينة الحكايات، تحت كل حجر قصة، وخلف كل جدار رواية. إنها مدينة الأسرار والأسطورة والخيال، قيل عنها آلاف القصص وحيكت حولها آلاف الحكايات، وأُلفت عنها آلاف الأساطير.. وقيل عنها إنها مدينة المقاهي، يرتادها أهلها للسمر والتسلية والنقاش و.. لن يكون من المبالغة إن قلنا إن مقاهي دمشق كانت سجلاً تاريخياً لوقائع هذه المدينة العريقة، فهي كانت النادي الثقافي الذي كان يحفل بنقاشات المثقفين والأدباء والشعراء، والنادي الذي يناقش فيه رجالات الثورة السورية خططهم وآراءهم لمقاومة المستعمر.. لقد شهدت هذه المقاهي أحداثاً مهمة، حيث تشكل فيها العديد من الأحزاب السياسية وحيكت فيها الكثير من الانقلابات العسكرية وكانت مرتعاً خصباً للمنتديات الفكرية والسياسية، كما دونت في فسحاتها الكثير من قصائد الغزل، فيما شكل تراثها المعماري مادة خصبة للكثير من الفنانين.

****************
كانت دمشق على مر العصور تحوي عدداً كبيراً من المقاهي العريقة التي يعود تاريخ إنشاء معظمها إلى القرن التاسع عشر، ويقول نعمان قساطلي في كتابه "الروضة الغناء في دمشق الفيحاء: "ان عدد المقاهي الدمشقية "بلغ 110 مقاهٍ في القرن التاسع عشر بين كبيرة وصغيرة، وهي منتشرة في أنحاء المدينة" ومن أشهرها قهوة السكرية بباب الجابية، وقهوة القماحين بالقرب منها، ومقاهي الدرويشية كلها في الدرويشية، وقهوة العصرونية.. وقهوة المناخلية، وقهوة الجنينة في سوق الخيل، ومقاهي العمارة بالعمارة، وقهوة جاويش في القيمرية، وقهوة الرطل في باب توما، وقهوة السلام".
بينما يذكر الرحالة الفرنسي جان تيفينو بعد أن زار دمشق عام 1664م: (كل مقاهي دمشق جميلة، ولكن أجمل المقاهي تجده في الضواحي، أي خارج سور المدينة القديم، وبينها مقهى السنانية ويطلق عليه اسم القهوة الكبيرة لاتساع مساحته، ويزيد من رونقه ذلك العدد الكبير من النوافير الدافقة في بحراتها الكبيرة...).
وتبقى دراسة الباحثة الأمريكية راندي ديغويلهم التي أعدتها عن تاريخ مقاهي دمشق ونشرت في نشرة الدراسات الشرقية، إصدار المعهد الفرنسي بدمشق من أهم الدراسات التي وضعت عن مقاهي دمشق فتقول الباحثة:
"تحتل المقاهي مكاناً وسيطاً في المخطط المعماري للمدينة المسلمة. وهي ليست ساحات عامة كالمساجد الكبرى، وليست أماكن شخصية كالمنازل، فساحات المقاهي تشابه غالباً ساحات الحمامات. وهي مفتوحة للناس كلهم تقريباً، ولكن الذين لم يألفوا ارتيادها يبدون غرباء في أعين الرواد الدائمين.‏"
وبفضل دراسة مستقصية للمصادر من أصولها نستطيع أن نعيد بناء الحياة الاجتماعية - الاقتصادية وكذلك السياسية، التي كانت تجري في محيط المقاهي. ومن هذه المصادر المحاضرُ، المحررة في سجلات المحاكم الشرعية، وجرد البيانات بعد الوفاة، ووثائق الأوقاف، والمحاضر الشرعية الأخرى التي تسرد فيها المعلومات التي تخص أبنية المقاهي وبيعها وشراءها ووقفها وإيجارها. ومن جهة أخرى فالأبحاث التي كتبها العلماء، والمذكرات والصور الفوتوغرافية القديمة، والرسوم اللاذعة غالباً، والمنشورة في صحف العصر ومجلاته... لها أهمية رئيسة في هذا الصدد.‏
يقدم شهاب الدين أحمد بن بُدير، المعروف بالبُدَيْري الحلاّق وهو مؤرخ شعبي وحلاق ومتصوف من دمشق، بعض المعلومات عن مقاهي دمشق في منتصف القرن السابع عشر، ففي هذا العصر كان مقهى الخنديزاتية (الموصوف كما لو كان قريباً من بيت السفرجلاني) مكاناً مهماً محاطاً بدكاكين، ومقهى المناخلية (الذي استمر قرنين فيما بعد) وكان يقع قرب القلعة، وقد قاسى كثيراً من الأمطار الغزيرة التي هطلت عام 1160هـ =1747م عندما تسرب الماء إلى داخله على ارتفاع ذراع رجل. وكان العسكريون خاصة هم الذين يرتادونه لوقوعه قرب القلعة.‏
في عام 1167هـ /1753م كان رجل السياسة الحاج أسعد باشا العظم أحد أهم البناة الطامحين والذي لم تعرف دمشق له مثيلاً في هذا المضمار آنذاك، كان قد رمّم على نفقته مقهى المناخلية، وكذلك الدكاكين المجاورة ومجاري الماء التي تغذي المنطقة. وبعد عامين، أي عام 1169هـ- 1755م، بنى أسعد باشا مقهيين جديدين، أحدهما في «باب سريجة» والآخر أمام «باب مصلّى» وفضلاً عن ذلك أكمل بناء مقهى يسمى الصاغور كان قبلُ استراحةَ شيخ حي الساروجة.‏
إن عدد المقاهي الكبير في دمشق، منها المتواضع ومنها الفخم، لفت انتباه الرحّالة الأوروبيين، فقد لاحظ جان دو تيفانو، بين آخرين، إنه في بداية القرن الثامن عشر كان للمقاهي الكبرى في دمشق فناء داخلي مع نبع ماء في الوسط. والبناء كلّه مظلّل بالآشجار ومعطّر بالزهور البراقة، وكان منها «المقهى الكبير» قرب مسجد السنانية. وكثير من المقاهي كان يقوم على ضفاف الأنهار التي تجتاز دمشق مهدية عذوبة الماء الجاري إلى زُبُنها.‏
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أو قبل قليل من كتابة الشيخ جمال الدين القاسمي رسالته، تشهد المصادر أنه كان في دمشق بين مئة وعشر مقاهٍ إلى مئة وعشرين، نذكر منها مقهى السكّرية ومقهى القماحين اللذين يقعان في باب الجابية، والدرويشية في الحيّ الذي يحمل اسمه، والعصرونية الذي استغرق بناؤه أربع سنوات، والرطل في باب توما، والصوفانية خارج باب توما تماماً، والمناخلية قريباً من القلعة، والجنينة، وكازينات في سوق الخيل، وجاويش في القيمرية، والعمارة في الحي الذي يسمى باسمه، ومقهى باب السلام. ‏
وكان سعر مشروب القهوة يتراوح بين 5-20 قرشاً (بارة) حسب غلاء المكان.‏
أما التسليات المقدمة في المقاهي فمعلوماتنا قليلة عن ضروب النشاط الدقيقة التي كانت تمارس في هذا المقهى أو ذاك طوال القرون السابقة. أما في مقاهي مطلع القرن العشرين فإن الذكريات الشخصية تساعد على ملء هذه الفجوات. وعلى سبيل المثال، ووفقاً لذكريات أحد الدمشقيين، ففي مقهى كريستين، في حي المرجة بدمشق، الذي اكتسب تسميته من الراقصة والمغنية الأرمنية، كان الاستمتاع برقص مدام كريستين والاستماع إلى أغانيها في المقهى (الذي يملكه زوجها) شيئاً مطلوباً جداً بين البرجوازيين، في حين لا يملك الآخرون تكاليف الدخول.‏
أما عن أوصاف المقاهي الكبرى فقد كانت الجدران الخارجية مدهونة غالباً بألوان زاهية، والداخلية مجهّزة بديكور مدهش. والوصف التالي لبناء مقهى كبير بدمشق مستخلص من وثيقة رسمية حُرّرت عند القاضي خورشيد أفندي عام 1914م بدمشق، تتعلق بمقهى (قهواخانة) المملوك بالوقف من أسعد باشا العظم، ومؤسس في منتصف القرن الثامن عشر. يهمنا وصفُ المقهى من الداخل، وهو خارج السور في سوق الجمل قريباً من سوق الخيل، وكلا السوقين في منطقة سوق ساروجة، يطل جانبه الجنوبي على بردى. يقول الوصف: طابقان مجهزان بمرافق المياه، ينفتحان على فناء مغطى، في كل طابق غرف خاصة بالزُبُن.‏
يمكن، وفقاً لنص الوثيقة، التحقق من كثير من الأشياء انطلاقاً من وصفها الموجز لما في داخل مقهى كبير، فوجود طابقين للمقهى وغرف متنوعة يدل على أنه كان للبناء وجوه استعمال متعددة. كان يستخدم طبعاً بوصفه مقهى عدة ساعات في اليوم، لكن لغرف الطابقين استعمالاً إضافياً، فربما تؤجر لبعض الناس ممن يحتمل أن يكونوا من عُزاب المدينة أو أشخاصاً عابرين. وفي هذه الحالة يترافق المقهى بفندق. وكذلك يمكن أن تستعمل هذه الغرف أماكن للألعاب أو للقاءات عاطفية ومن جهة أخرى كان فناء المقهى مغطى، في حين أن معظم الفنادق الكبيرة، وفقاً للصور الفوتوغرافية المأخوذة في القرن التاسع عشر، كانت أفنيتها مكشوفة. وهذا الاختلاف يشهد على تنوع فن عمارة الفنادق الكبرى في نهاية الحكم العثماني في دمشق.‏
مقاهي دمشق كانت سجلاً تاريخياً لوقائع هذه المدينة العريقة، وهذا ما دعا أحدهم للقول: لو أن الطاولات والكراسي تتكلم لروت تاريخ دمشق وخفاياه التي دارات في هذه المقاهي.
ومقاهي اليوم:
عرفت دمشق قديماً بمقاهيها المتعددة، التي كان روادها يتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث ويتناقشون في الشأن العام والأمور الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وقد يصلون إلى بعض الحلول.. لكن اليوم لا يشبه الأمس أبداً، لقد ازداد عدد المقاهي في دمشق وفي المحافظات السورية بشكل كبير حتى تحولت بعض الدكاكين إلى مقاهٍ، لم يعد لمقاهي اليوم طراز معماري ولا نافورة ماء تهدهد لسامعها وتمتع الناظر إليها، لم يعد فيها روح ولا صوت ولا حياة، يجلس مرتادوها وكل منهم يحمل جهازه النقال ويلهو بالنت وربما يتحدث إلى آخرين، بينما لا ينبس بكلمة مع شركائه في الجلسة، وحده دخان الأراكيل يحرك الجو وخطوات حامل النارة حين يحرك ملقطه قد يثير انتباهك....ترى لو تحدثت هذه الطاولات والكراسي في زماننا الأصم هذا فماذا ستروي عن مقاهي يومنا والنت والواتس أب!؟
لربما قالت جملة واحدة: إننا لم نعلم من التكنولوجيا إلا كيف نلهو بها ولم تعد مقاهينا سوى لتقطيع الوقت وليس لأي أمر آخر.