أبو طبلة: (يا نايم وحّد الدايم) ‏.. بقلم: شمس الدين العجلاني

أبو طبلة: (يا نايم وحّد الدايم) ‏.. بقلم: شمس الدين العجلاني

ثقافة

السبت، ٤ يوليو ٢٠١٥

للعادات والتقاليد الرمضانية في سورية "نكهة أخرى"، سادت لدى أفراد الشعب السوري.
عادات وتقاليد قديمة وقديمة جداً لرمضان في الشام، هي نتيجة انصهار وتمازج عادات طوائف وإثنيات ومجتمعات مختلفة قدمت إلى سورية واندمجت مع المجتمع السوري كالأكراد، تركمان، شركس، فرس، صقالبة، أتراك، مغاربة، ألبان، ومن الدول العربية الأخرى...
ومن هذه العادات التي أضحت جزءاً لا يتجزأ من تراث بلادنا هي المسحراتي والشهير في الشام بـ " أبو طبلة".
أبو طبلة:
هو المسحر أو المسحراتي، والاسم الغالب عند العوام في بلاد الشام هو " أبو طبلة".
الآن " أبو طبلة " رجل يجوب الشوارع والحارات والأزقة، في شهر رمضان لإيقاظ الصائمين على وجبة السحور، ويستخدم " طبلة خاصة " يضرب عليها بعود من الخشب فتصدر نغمات متناسقة، مع أناشيد خاصة، وكلمات أخرى يرددها " أبو طبلة ".
مهنة "أبو طبلة" مهنة قديمة جداً، وما زالت حتى أيامنا هذه في العديد من المناطق والمدن والقرى السورية.
اختلفت الروايات حول " المسحراتي " فقيل إن والي مصر "عتبة بن إسحاق"، زمن الخليفة العباسي المنتصر بالله، قام بمهمة " المسحراتي " حين لاحظ، أن الناس في شهر رمضان لا ينتبهون إلى وقت السحور، أو يتأخرون على موعده، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة فكان يطوف الشوارع والحارات منادياً الناس: "عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة". وبفعلته هذه أعطى القيمة والتقدير لمهنة المسحراتي.
ويروى أنه في عصر الدولة الفاطمية أصدر الحاكم أمراً لجنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا الأبواب بهدف إيقاظ النائمين بأنه قد حان وقت السحور. ومع مرور الأيام عين أولياء الأمر رجلاً للقيام بمهمة المسحراتي كان ينادي: " يا أهل الله قوموا تسحروا"، ويدق على أبواب البيوت بعصا كان يحملها في يده.
ويحكى أيضاً أن أشهر مسحراتي قديماً كان "ابن نقطة" وهو شيخ طائفة المسحراتية والمسحراتي واخترع "ابن نقطة" فناً شعرياً شعبياً أطلق عليه فن “القوما أو القومة‏” وهو من أشكال التسابيح والاستغاثات أو الحض على أداء الفروض الخمسة‏، وفضائل الشهر الكريم وصفات النبي "ص" ‏,‏ بل قيل أيضاً ليس "ابن نقطة" مخترع التسحير أو فن القومة‏، لكنه اشتهر به نظراً لاختصاصه بتسحير الخليفة‏.
وتروي صفحات التاريخ، أن هذه المهنة كادت تندثر في العصر المملوكي لولا السلطان الظاهر بيبرس الذي عمل علي إعادتها بتعيين أشخاص مخصصين من العامة وصغار علماء الدين لهذه المهنة.
واعتقد الكثيرون أن مهمة المسحراتي كانت حكراً على الرجال فقط، لكن يروى أن النساء قمن بعملية التسحير أيضاً !؟ ففي العصر الطولوني كانت المرأة تقوم بإنشاد الأناشيد من وراء "الخص" النافذة لإيقاظ نساء الحي اللواتي تقطن فيه، وكان الشرط لمن تقوم بمهمة المسحراتي أن تكون صاحبة صوت جميل.
في ذاك الزمن لم يكن المسحراتي يستعمل الطبلة والعصا وإنما يكتفي بالأناشيد الدينية، ويقال إن الطبلة استخدمت لأول مرة في القاهرة عام 737هـ وكان اسمها -البازة – ويمسكها المسحراتي بيده اليسرى وبيده اليمنى سير من الجلد أو عصا خشبية كي يطبل بها. والبازة أو الطبلة هي وجه واحد من الجلد مثبت بمسامير، وظهرها من النحاس أجوف، وبه مكان يمكن أن تعلق منه).
ويصاحب المسحراتي في جولته صبي صغير يحمل قنديلين، ويجوبان الشوارع والأحياء ويقفان أمام المنازل، وينشد المسحراتي : لا إله إلا الله ومحمد الهادي رسول الله، فاصلاً بينهما بـ3 دقات على البازة، ويواصل إنشاده بالنداء على صاحب البيت وإخوانه وأولاده الذكور، ويتحاشى ذكر أسماء النساء.
ومن أشهر أناشيد المسحراتي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر في القاهرة « يا غفلان وحد ربك، وبالتقى عمّر قلبك، ما يوم تقلق على رزقك، دار بنا عالم بالحال، يا رب قدرنا على الصوم واحفظ إيماننا بين القوم، وارزقنا باللحم المفروم لأحسن يا أسيادنا ما ليش أسنان». وكانت نساء الطبقة المتوسطة يعمدن إلى وضع قطعة فضية من النقود في ورقة تلقي بها إحداهن من النافذة إلى المسحراتي، وكانت بعض النساء يشعلن الورقة ليرى المسحراتي مكان سقوطها فيستدل عليها ويأخذها، ثم يرفع صوته بقراءة الفاتحة لصاحبتها، أو يشرع في رواية قصة تمتع النساء.
 كان المسحراتي ينشد ما يناسب أيام رمضان ففي الثلث الأخير من شهر رمضان كان المسحراتي ينشد ما يسمى التوحيش والتوديع الذي كان يكرر فيه الحسرة على قرب انتهاء شهر رمضان، والبكاء على أيامه التي ستنتهي، ويتمنى لو دامت أيام الصيام طوال العام. ومن أشهر أغاني التوحيش القديمة نذكر:
لا أوحش الرحمن منك قلوبنا - فلقد حوت بوجودك الإحسانا - لا أوحش الرحمن منك دعانا - لا أوحش الرحمن منك خضوعنا - وسجودنا وخشوعنا وبكانا
بالله يا شهر الهدى لا تنسنا - واذكر لربك خوفنا ورجانا.
أبو طبلة في الشام :
في الزمن القديم كان يسحر مدينة دمشق مسحراتي واحد يصعد إلى مكان عال ومعه طبل كبير يضرب عليه ويصيح بأعلى صوته. ومع اتساع المدينة وتزايد عدد سكانها تزايد عدد المسحرين حتى أصبح لكل حيّ مسحر خاص به، وأصبحت مهنة يعترف عليها ولها شيخ كار يتبع مشيخة المشايخ..
يجوب المسحراتي أحياء وأزقة دمشق ليوقظ الناس بأسمائهم وألقابهم. وقد يقرع أبواب المنازل بعصاه الصغيرة التي يحملها، ويردد العبارات الرمضانية التقليدية والتي تشكل حتى اليوم جزءاً لا يتجزأ من شخصية أولئك المسحرين، وكان المسحراتي يحمل سلة من القش لوضع ما يتصدق أهل الحي عليه من طعام وشراب.
من أشهر مناداة المسحراتي: " يا نايم وحّد الدايم - قوموا على سحوركن قوموا " وينادي بأسماء أهل الحارة حاملاً بيده طبلاً يضرب عليه بنغم منتظم كان أطفال الحي يسيرون خلف المسحراتي ويرددون خلفه ما يقول (يانايم وحد الدايم... يلي عم تشوفوا منامكم....قوموا على سحوركم..... إجى رمضان يزوركم... ياسامعين ذكر النبي...صلوا على النبي... يانايم اذكر الله))
في بلاد الشام، يمكن تسمية مهنة المسحراتي مهنة عائلية بمعنى أن هذه المهنة تنتقل من الجد إلى الابن فالأحفاد، ولا بد من توافر شروط عدة للمسحراتي من الصوت الجهوري إلى السيرة الحسنة والثقافة في الأناشيد ومعرفة الأحياء والأزقة التي يعمل بها، وكان شيخ الكار يجتمع مع ممتهني مهنة المسحراتي قبل رمضان ليعطيهم التوجيهات والنصائح.
 كان المسحراتي في دمشق ينادي أصحاب البيوت في الحي أو الزقاق بأسمائهم, فهو يعرفهم وهم يعرفونه, فيقف عند أبواب بعضهم ويصيح باسمه ليوقظه, يا أبا فلان, ويظل ينادي حتى يرد عليه أحد أصحاب البيت, وعند ذلك يقول له المسحر: (وحد الله), وإذا كان أحدهم لا يستيقظ بسرعة (نومه ثقيل) فعلى المسحر العودة إليه لإيقاظه, وغالباً ما تتم عودة المسحر بطلب من ذلك الشخص.‏
ليس هناك أي مردود مادّي ثابت لمهنة "أبو طبلة"، فأول أيّام العيد، ينقر على طبلته، يعايد الأهالي في الأحياء والأزقة التي كان يسحر الناس بها، وينتظر إكراميته، بما تجود به نفس صاحب البيت، مهنة أبو طبلة مهنة موسمية في شهر رمضان فقط والمسحراتي له في باقي أيام السنة مهنة أخرى يرتزق منها.
المُسحّر، المسحراتي، أبو طبلة، هي معلمُ من معالم رمضان الرئيسية في بلاد الشام، والمسحراتي بلغت مكانته شأناً مميزاً في بلادنا لم تبلغه في أي مكان آخر.