لواء إسكندرون إلى اللقاء … قصة تشرد وتهجير قسري لأبنائه وبارقة أمل بعودة اللواء السليب

لواء إسكندرون إلى اللقاء … قصة تشرد وتهجير قسري لأبنائه وبارقة أمل بعودة اللواء السليب

ثقافة

الاثنين، ٥ يونيو ٢٠١٧

 إسماعيل مروة

لواء إسكندرون، الأرض السورية الغالية التي تمّ اقتطاعها من أمها لتكون ملحقة بتركيا، نتيجة اتفاق بين محتلين، محتل سابق، ومحتل لاحق، مهّدا الأرض الصالحة لسلخ اللواء واقتطاعه، بتهجير أهله السوريين منه، وما أدراك ما يفعل التهجير من تغيير ديموغرافي يمهد لقرارات سياسية، هجّر السوريون على مختلف انتماءاتهم الدينية والطائفية والمذهبية ليحل مكانهم أتراك جاؤوا بهم على وجه السرعة، ما سهّل قرار السلخ، بل التصويت لمصلحة هذا السلخ، بينما أبناء اللواء يهجرون في مختلف المدن السورية يعانون نزوحهم وضياع وطنهم، وخسارة أحلامهم.. وللأسف لم تسلط أضواء كافية على اللواء وقضيته، وجلّ ما صدر كان وثائق سياسية يُعنى بها أشخاص محددون، وقليلة هي النصوص الأدبية التي صدرت سواء كانت نثراً أم شعراً عن اللواء وقضيته، والقارئ الكريم يعرف أن جلّ هذه النصوص كانت لمبدعين لوائيين يتقدمهم زكي الأرسوزي برؤاه الفكرية الناصعة والمميزة، وسليمان العيسى الذي بقي اللواء أغنية ألمه وحزنه حتى رحيله عن دنيانا قبل سنوات.. ولا تزال قضية اللواء السليب بحاجة إلى تفاصيل يومية عن الحياة هناك، وعن التهجير والآلام والأحلام، بحاجة إلى تفاصيل حياتية لأنها أكثر تأثيراً من أي وثائق سياسية، ومن هنا وجدت أن ما قام به الدكتور إسكندر لوقا، ابن اللواء الذي لا يزال اللواء حاضراً في ذهنه، وجدته مؤثراً، وجديراً بأن يتم توزيعه على أكبر شرائح ممكنة، بل أن يعمم على الدوائر الدراسية والتدريسية، ففيه كما نرى رشاقة العبارة، واختصار الحكاية، وروح القص، والدكتور لوقا من القاصين الرواد، وفيه الغاية واضحة ومحددة.

اللقاء.. أمل وجرأة
اختار الدكتور لوقا لكتابه اللطيف عنواناً مثيراً (إلى اللقاء) وهذا العنوان فيه من التفاؤل الكثير، ومن التمسك بالأرض والذكرى ومسقط الرأس، ورغبة الرقدة الأبدية الكثير، وهذا ما جعل د. نبيل طعمة الذي عمل على نشر الكتاب يرى الأهمية والجرأة (اختار عنواناً ليس مهماً فقط، بل جريء، لا يشاغل فكر السوريين أينما وجدوا.. إنه يمثل لهم جزءاً من جسدهم الجغرافي ونسيجهم الاجتماعي الذي يشعرون باغتصابه، وأن لا محالة لاكتمالهم إلا بعودته إليهم، وإن كانت خاصته الفكرية دعته لاستعادة مسقط رأسه وتجسيده الفريد لمبدأ مسقط الرأس).
وهذه الفكرة التي التقطها د. طعمة وقف عندها د. إسكندر لوقا في كلمة البدء «مسقط رأس الإنسان يحاكي قيمة الحبل السري لحظة ولادته ولا يعنيه متى وأين ولد.. مسقط الرأس يعني، من حيث المبدأ، انتماء الإنسان إلى أرض وطنه، وبعودته إليه، خصوصاً بعد غربة مهما طالت، يشعر بنكهة الدفء الذي افتقده في حضن الأم زمناً وعاد إليه من جديد».
وهنا لابد من شكر د. لوقا على إحساسه بالغربة، هذا الإحساس الذي لم يخبُ يوماً، لكنه مع رحلة العمر والعمل الطويلة صار أكثر حاجة لأم ووطن، فعاد إلى إسكندرون، وهو الوطن والأم، وخاصة أن الأم افتقدها مبكراً، وانطمرت في إسكندرون قبل التهجير فتحول إسكندرون إلى الأمومة الكاملة الفيزيولوجية والروحية.

شيخ يستذكر… ورسوخ
أعتقد أن تخصص الدكتور إسكندر لوقا قد أرخى ظلاله على كتابه هذا في الاختزال، وعشقه للقص والقصة، مدّ رأسه في أثناء صياغة هذا الكتاب المهم، فالاختزال جعله يدخل في صلب موضوعاته مباشرة من دون تقديم، فأصاب الغاية والهدف، وعشق القص أبعده عن التوثيق الجاف، وجعله ميالاً إلى كتابة حكاية بأحداث مختزلة يمكن أن تتحول إلى رواية عن اللواء وشخوصه.
الآن وقد بلغ المؤلف عمراً يغمره الشوق والحنين إلى مسقط الرأس في اللواء بدأ الشيخ يستذكر ما حدث قبل مؤامرة السلخ، وبعد السلخ والتهجير والنزوح صاعداً في أحداثه وحكاياته ليبلغ الذروة في التأثير والإيلام الشفاف البعيد عن المبالغة الممجوجة، والبعيد عن التوثيق والتنظير، لذلك اختار أن يروي الحكاية بلسان شيخوخته وطفولته، وشخوصه الذين عاش معهم فصول المأساة، وعلى الرغم من أن الاختزال جاء مشوقاً للمتابعة إلا أنني كنت أرغب في التفصيل ضمن الأسلوب الذي اختاره، وخاصة أن المكتبة السورية تخلو من تفاصيل حكايات اللواء التي تحولت إلى شعارات تفقد الجاذبية التي من المفترض أن تكون تجاه جزء غال من أجزاء وطننا سورية، وغياب الجاذبية عن مسألة اللواء ناتج عن أن حكاياته غائمة وغير موجودة، وأنظر معي إلى الدكتور إسكندر يروي تفاصيل الحكاية، وأبتعد عن الجانب الذاتي والأسري على ما فيه من أهمية «لم يكن خروجنا من المنزل سهلاً في غمرة ترقب الموت في كل لحظة، بيد أن سائق السيارة التي أقلتنا إلى خارج حدود المدينة من دون اصطحاب أي حاجة من حوائجنا، حتى لا يكتشف أمرنا الجنود الأتراك الذين كانوا يجوبون شوارع المدينة ببنادقهم، هذا السائق نجح في إبعادنا عن مواقع الخطر إلى حيث أقلنا سائق آخر لى مدينة حلب».
وتستمر رواية الأحداث إلى أن تصل الأسرة إلى دمشق، وفي حي باب توماً تحديداً، وربما من المصادفات أن يتم انتقال الأسرة من هذا الحي ليتم احتواؤها في حي الأرمن بدمشق، هذا الحي الذي استوعب في الزبلطاني من قبل أفواج الأرمن القادمين من الإبادة التي سببها الأتراك أنفسهم، إبادة للأرمن، وتهجير للوائيين يجتمعان ويتوحدان في دمشق ويتضافران لمقاومة ظروف الحياة القاسية «قضينا في كمب الأرمن سنتين كاملتين حملنا أمتعتنا بعدهما إلى حي سوق ساروجة، حيث طاردنا الفقر ودفع أبي إلى بيع بعض الحاجات من لوازم البيت مثل الملاعق الزائدة عن الحاجة أو الصحون أو المائدة والكراسي والبساط».
من قلب المأساة والتهجير والفقر يروي د. إسكندر لوقا حكايات مؤثرة موجعة لكنها شفافة، تجرح الروح، لكنها لا تؤذي المشاعر الداخلية بطريقة قاسية، فقد اكتفى برواية الألم والفقر والتهجير، حتى عند حديثه عن الصبية التي افتقدت، ذكر على لسان والدها ألمه لأنه لم يعد يعثر عليها من دون أن يضع سيناريوهات قاسية، وقد تكون واقعية.
لم يشأ د. لوقا أن يقدم قراءة تنظيرية سياسية، بل جاءت قراءاته على لسان مجموعة الكبار والجيران والضيوف الذين سردوا الحكايات فكانت مقبولة.
خرج الطفل إسكندر من اللواء مع من خرج تهجيراً ونزوحاً، وأمضى حياته حتى صار علماً يشار إليه، لكن اللواء بقي حاضراً في ذهنه وروحه، ولم يؤمن يوماً بالهزيمة أمام التهجير وسلب اللواء، لذلك يختم كتابه اللطيف هذا بمقطع يحدد الغاية من الكتاب وكتابته «الآن فقط قفزت إلى ذاكرتي العبارة التي سمعت أبي يرددها وهو واقف أمام باب البيت، وكانت العبارة: وداعاً إسكندرون.
يومئذ وأنا صغير في التاسعة من عمري، لم أكن أدرك الفرق بين معاني العبارات، الآن أدرك معانيها، ولهذا أطلب السماح من أبي في قبره وأقول: لا وداعاً يا أبي، بل إسكندرون.. إلى لقاء..».
لواء إسكندرون إلى اللقاء كتاب لطيف الحجم، رشيق العبارة مؤثر للغاية، كتبه قاص خبير وأستاذ يعرف كيف يستولي على قارئه ليصل إلى غايته، ويترك أمانته بأيدي الأجيال القادمة في السعي لإعادة كل قطعة من أرض سورية سلبت وهجّر أهلها بطريقة أو بأخرى، لكن الزمن وهذا الكتاب يعلمنا أنه لا يمكن للإنسان أن ينسى أرضه ومسقط رأسه، وإن وصل الزمن قرابة قرن.