بين كوليت الشام وعقل لبنان أشخاص يسكنون حياتنا ويصبحون جزءاً منها دون أن يشاركونا اليوميات

بين كوليت الشام وعقل لبنان أشخاص يسكنون حياتنا ويصبحون جزءاً منها دون أن يشاركونا اليوميات

ثقافة

الثلاثاء، ٣١ أكتوبر ٢٠١٧

آلاء جمعة

نسمع ونقرأ الكثير من الإطراءات وعبارات المدح وصفحات من التكريم والتبجيل والثناء على أهل الأدب والفن والشعر ولكن جميعها ما يطفو على وجهه مسحة من الجدية أو الواجب والتذويق المتكلف من أجل توقير شخصية عظيمة أو ظن بها ذلك، ولكن ما قل وجوده أن نرى مثل هذه الوقفات عند السجايا والحسنات وتسطير الإنجازات وتخليد الرجال يتضوع منها عبق الود ونسيم الذكريات البعيدة ودفء العلاقات الوطيدة، فهو مدح ممزوج بالحب والاحترام والتوقير وعندها تعجز الكلمات ولا ترتفع إلى مستوى القامة الموصوفة فالأحاسيس لا تحدد بحروف ولا يحيط بها تعبير، وهذا ما يتجلى واضحاً في الكلمة المطولة التي خطتها كوليت الخوري بمداد الوفاء لتكتب عن شاعر عظيم وقامة معطاء نبيلة كانت معرفتها به فاصلة مضيئة في حياتها كما قلمها المضيء الذي سحره وأسره وكتب عنه كلاماً رائعاً هو هذا القلم الذي سطر عبارات أجمل ما تقرؤه عن تكريم راق بحروف عذبة وعاطفة صادقة وأسلوب رشيق كرشاقة كوليت وريشتها تكريم يليق بالمكرم ولا يفيه حقه.
سعيد عقل وصفحة من ذاكرتي هذا العنوان الذي اختارته كوليت لكتابها الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة الواقع في أربع وستين صفحة وربما كان الأجدى أن تسميه سعيد عقل وصفحة من ذاكرتي وقلبي لفيض الأحاسيس الراقية التي لا تحتجب عنك وأن تقرأ كلماتها، هذا الكتاب هو حفظ إرادته كوليت لكلمتها عن سعيد عقل بين دفتي كتاب، كلمة ألقتها في الرابع من تموز سنة 2012 في المهرجان الذي أقامته جامعة السيدة اللويزة في مقر الأونسكو في بيروت تكريماً لـ«سعيد عقل» بمناسبة عيد ميلاده المئة.
تكريم متبادلافتتحت كوليت كتيبها بكلمة كتبها عنها سعيد عقل منذ نصف قرن من الزمن لأنها اعتبرتها أجمل مقدمة ممكن أن تكون لكلمتها عنه ومما جاء فيها:الدمشقية الشابة، ذات القلم الضوئي.. بقلم سعيد عقل.إن الذوق الشاعري الذي يجلبب اصطيادها الكلمة ظاهرة لا يعرفها في الشرق سوى كتاب قلائل…، القصة حتى أمس تكاد تتعارض مع الشعر حتى تكون كوليت، وتقول بهذا الزواج الطريف وتنجح قصص كوليت غداً ستكسب نضجاً، كل منها ستعنى بالمشاكل الجمة التي يعتلج بها العصر، ولكنها أكيد لن تزداد بهاء كلمة، ذلك أن كوليت بلغت من هذا حد البساطة المعجزة، نحن في لبنان… طربنا لهذا الورد المنضود يجيئنا من ضفاف بردى.ثم كتبت بعد هذه العبارات الآسرة التي توجها بها سعيد عقل تقديم الأديب الكبير «سهيل مطر» لها في المهرجان:وفدت كوليت والشام معاً فإذا لبنان يغدو أروعجدّها الفارس من يجهلهوأبوها كسهيل طلعصفق الأرز لها مبتهجاً كل قلب يشتهي أن يسمع
لبيروت البداية«مر بي الزمن طاوياً في أيامه صفحات من عمري، صفحات تبدلت فيها المفاهيم، تدهورت فيها المبادئ، تلونت فيها الأجواء، في كل يوم في كل صفحة، كنت أحيا مرة، وألف ألف مرة أموت، لكنني على الدوام، ورغم مرارة الأيام برغم خيبتي ووجعي… وعتبي المكبوت…!! كنت على الدوام أتشوق المجيء إلى هنا.. فقط لأقول: «سلام عليك يا بيروت».
الاعتذار اعترافقبل أن تثب كوليت من المقدمة إلى مضمون كتابها أوكلمتها أوضحت في بادئ الأمر عندما أخبرها «جورج شكور» أنها اختيرت من أجل المشاركة وإلقاء كلمة عن سعيد عقل في عيد ميلاده المئة.«كانت ردة فعلي الأولى أنني جفلت..!! ففي هذه المرحلة المشوهة، هربت مني كلماتي، هربت وانزوت، خوفاً من عدوى التشويه»..!ثم إن الحديث عن سعيد عقل هو حديث عن عالم يفيض معرفة.. ويتألق نبلاً ويسمو بالإيمان، هو حديث عن دنيا طافحة بالحب والشعر والجمال… أين نحن اليوم من هذا العالم البديع؟؟ والحقيقة هي أنني جفلت وانكمشت على نفسي لأنني خفت!! خفت على قلمي الذي لقبه سعيد عقل ذات يوم بعيد بعيد، «بالقلم الضوئي..» خفت أن يخفت ضوءه في حضرة هذا الكيان المتوهج، إبداعاً وفكراً وسناء..، وإذا ما ذكر لبنان في أي مجال من المجالات ومن أي زاوية فتحت ذراعي وسع الدنيا لسعيد عقل.
كوليت الحبيبةفي إشكالية علاقة سعيد عقل بكوليت أوضحت الكاتبة طبيعة هذه العلاقة وماهيتها وجوهرها الذي يسمو فوق كل التسميات ويقدس عن التوصيفات «عاتبني العزيز جورج، تعتذرين عن المشاركة؟ كيف؟؟ وأنت حبيبة سعيد عقل الأولى… والأخيرة؟…، لا أنا لست حبيبة سعيد عقل الأولى ولا الأخيرة… أنا لست حبيبته أصلاً، أنا أهم من هذا عند سعيد عقل..!! أنا.. الخلفية الأنثوية العريقة، لكل حب عاشه سعيد عقل في حياته الفنية.. أنا الشام!! أنا الشام تدفاق بردى… سندس الغوطة… شذى الورد.. بوابة التاريخ أنا والسكب عندما الشرق يظمأ…، حبيبة سعيد عقل الحقيقية… شامي أنا..! «شامي التي وحدها.. للعود أنغام» كما يقول سعيد… وعليه.. «أنا الحبيبة» ولتبرهن على حقييقة كلامها وعمق احترامها لسعيد عقل فلا تقول لأجل القول ولا تمدح لغاية المدح وأنه نجم لامع توهجت من ضيائه العيون واستحق مدح معاصريه وتقديرهم تذكر وعلى لسان أعظم شعراء الشام وأرهفهم حساً قول نزار قباني عن سعيد عقل عندما سألوه: «من برأيك لإمارة الشعر في البلاد العربية؟؟ قال على الفور: «إمارة الشعر لسعيد عقل دون منازع… هذا.. إن تنازل سعيد عقل ورضي بها..!!».
لحظة اللقاء ودهشة الأرواح«أما أنا- فسعيد عقل بالنسبة إلي هو هذا الشاعر الوسيم الذي استطاع منذ اللحظة الأولى التي قابلته فيها، ذات يوم بعيد بعيد… استطاع أن يترك بصمته فواحة في سجل حياتي… كما العطر في ياسمين دمشق…منذ اللحظة الأولى… وأعود معكم إلى ذاك اللقاء البعيد في أواسط الخمسينيات ذاك اللقاء أو تلك الصفحة الواقعية من ذاكرتي، بل تلك اللوحة… أنا أذكرها جيداً جيداً… فهي مرسومة في خاطري، محفورة في ظني… وبقدر ما هي بعيدة عن حاضري! بقدر ما هي قريبة مني».وتذكر كوليت أن لقاءها الأول بسعيد عقل هو لقاء اعتيادي لرجالات السياسة والأدباء والشعراء الذين يرتادون باستمرار إلى بيت جدها رئيس الوزراء في ذلك الوقت «فارس الخوري» وكعادتها تدخل وتسلم على الزائر ولكن هذه المرة كان الزائر استثنائياً فتصفه بأنه «وسيم بهي الطلة صافي النظرة صادق التعبير تبدو غرته المحلقة في الفضاء وكأنها تريد التأكيد على رحابة الجبين العالي!» وأول ما سمعته بصوت سعيد عقل هي قوله إنه يريد «أن يعملق اللبنان!» وعندما لمحها قطع حديثه فعرفه جدها عليها فظل يتأملها. عقد حاجبيه وقال فجأة بلهجته الزحلاوية: تعاي وك يا بشعة! «ضحكت… ففي تلك اللحظة.. شعرت بأنني أجمل صبايا العالم..».فكانت جملته هذه أول عبارة يفتتح بها أول صفحة من صفحات ذاكرة كوليت المرتبطة به وبكيانه الشامخ وتردف قائلة: «سعيد عقل بالنسبة إلي… هو من هؤلاء الأشخاص الذين يسكنون حياتنا، يصبحون جزءاً منها من دون أن يشاركونا يومياتنا… نلتقي بهم بين الفترة والفترة، فتغمرنا الفرحة… ونبتهج لكننا نواصل أحاديثنا وكأنها لم تنقطع يوماً… فنحن نعرف أنهم دائماً معنا حتى لو لم نجتمع بهم..!! هم الجزء الثابت في حياتنا، والركن الدافئ في وجودنا… هم الأهل الضمان.. هم الأسرة العشيرة، هم الوطن الغالي..وتكمل في حديث الوفاء له ومحاولتها إنزاله منزلته التي يستحق ورسم معالم هذه الشخصية العملاقة التي لا يستطيع وصفها ورؤية عملقتها إلا من كان مثلها.. «قد سمعت سعيد عقل يقول لفارس الخوري إنه يريد أن يعملق لبنان».. فأنا اليوم.. بعد هذا العمر الطويل.. الآن وقد كبرتُ… وهرمتُ… وخبرت الدنيا الآن أستطيع أن أقول: إن وجود سعيد عقل كافٍ وحده ليعملق أي بلد في العالم. يقول سعيد عقل: «إن ريشتي ذات غرة شمسية..» وأما أنا.. فقد تمنيت أن أغط ريشتي بالشمس لأكتب عن سعيد عقل… لكنني وجدت الأكثر حميمية… وإشعاعاً، أن أغمسها بكتاباتها… فكانت هذه الصفحة من ذاكرتي..».رحلة قصيرة في حنايا ذاكرة الأديبة السورية كوليت الخوري تستحق منا الوقوف عندها لنتعلم كيف يكون الكبار، كيف يكون الوفاء… وإن إكبار الآخرين لا يسيء لنا ولا يقلل من شأننا بل يسمو بنا لسمو الممدوح ورفعة قدره أدبياً وفكرياً… قلائل هم من يستحقون المدح والتخليد ولمثل سعيد عقل فليسهب الكتاب والمادحون في وصفه وتكريمه..