هل يغفرُ الفقر تنازلات المبدعين للحصول على المال؟

هل يغفرُ الفقر تنازلات المبدعين للحصول على المال؟

ثقافة

الثلاثاء، ٢٣ يناير ٢٠١٨

لا يندرج العنوان في إطار جلد الذات بالتأكيد، لكن القضية ملحّة وساخنة وهي لا تقتصر على الأدب وحسب، بل تطول جميع أنواع الفنون التي وقعت في مطب السمسرة واستغلال حاجة المبدعين المادية والفاقة والفقر الذي يعصف بمعظمهم، فما الحدود المشروعة أخلاقياً وقانونياً في عملية التنازل التي يمكن أن تتم من قبل الكتاب على نحو خاص إذا ما تورطوا في المحاباة من أجل الحصول على المال واضطروا تالياً للقيام بتعديلات جوهرية على هوية النص حيث بات مهجناً مرائياً مملوءاً بالرضوخ والإذعان بهدف الحصول على لقمة العيش؟.

سنعود إلى التاريخ قليلاً، فجدّنا المتنبي الذي مدح كافور الإخشيدي ووازاه مع سيف الدولة في بعض الأبيات، هو نفسه الذي قتله بيت شعره الشهير (الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ) عندما أراد أن يواجه عدوه ولا يتزلف كي يهرب من الموت.. القضية إشكالية وتحتاج إلى تأن وبحث في الخيط الشفيف والشفاف الذي يفصل بين لقمة العيش التي من حق الكاتب الحصول عليها، وبين التنازلات وسلخ جلد النص من أجل الأعطيات والحصول على المكافآت المالية وكل ما يندرج وراء ذلك من تعويضات!. فمن الوجهة الأخلاقية هل يمكن القبول بذلك إذا قام به أي إنسان عادي وليس الأدباء فقط؟ لكن من جانب آخر، إذا ما استعرضنا حال الثقافة والمثقفين وكل المشتغلين بالأدب في البلدان العربية وبلدان العالم الثالث بشكل عام، فهؤلاء في الغالب «تجوز عليهم الصدقة» كما يقال، وتالياً ألا يحق لهم أن يؤسسوا عائلات ويعيشوا حياة طبيعية مثل أبناء البشر الذين تؤمن لهم الطبابة والسكن والعيش الكريم؟.
من جانب آخر، فإن الجوائز الأدبية صاحبة القيم المالية العالية، مارست تشويهاً كبيراً على شخصية المبدع ونصه في آن، ونحن هنا نستطيع الحديث عن كثيرين ممن شاركوا في تلك المسابقات وحصلوا على جوائز فيها، كيف اضطروا إلى كتابة نصوص تناسب شروط جائزة سعاد الصباح أو الشارقة أو الشيخ زايد أو البوكر للرواية وغيرها كثير، أو اضطروا لكتابة نصوص بهوية معينة من أجل الدخول في مسابقة أمير الشعراء أو شاعر العرب وغيرها التي تقدم جوائز بآلاف الريالات ما يعدّ ثرورة بالنسبة للكاتب؟. هل يمكن غفران كل ذلك بذريعة الفقر والفاقة والحاجة المادية؟ أم من المفترض الحديث عن تشويه في الذائقة يشارك فيه الكاتب عندما يراعي شروطاً على المنتج الإبداعي تعيده للوراء أو تجعله هذه الشروط يهادن ويتواطأ لقبض المبالغ المالية أو لجني الشهرة الإعلامية التي لم تتمكن نصوصه من حمله إليها؟.
أيضاً فيما يخص الثقافة الأهلية والنشاطات التي تقام في كثير من البلدات السورية، فإن استمرار هذه الفعاليات يبدو صعباً من دون الحصول على الدعم المالي المطلوب لحجز المكان وتأمين المعدات وغير ذلك من تفاصيل، وتالياً ما المانع من تأمين سبونسر يقوم بهذه المهمة مع حقه بالظهور كمعلن في هذه الفعالية؟. ألا يتم هذا الأمر في جميع دول العالم الراقية التي تطورت فيها الثقافة والفنون بفعل تعاون الاقتصاد مع الفن؟. القضية متشعبة وتشمل أكثر من جانب يتصل بالمفهوم المادي المتسلل إلى المفهوم الثقافي بشكل نبيل أو بشكل نفعي مستهجن..
يقول المسرحي والكاتب أحمد كنعان، مشرف ومؤسس لقاء «يا مال الشام» الثقافي الذي يقام في دمشق، إنه من الصعب الفصل بين العمل الثقافي والدعم المالي، ففي النهاية لابد للكاتب من الحصول على مقومات لإتمام العملية الإبداعية بالشكل الصحيح.. يقول أحمد:
«العمل الثقافي لم يكن يوماً بريئاً من الدعم المالي بدءاً من أعطيات الأمراء التي نقرأ عنها في تاريخ الأدب، إلى مختلف أنواع الدعم التي لابد من أن تقدم للمؤسسات والأفراد.. المثقف مهما بدا كبيراً، فهو ليس أسطورة، هو يأكل ويشرب ولا يملك مالاً… إنه يعيش في بيت بالأجرة مثلاً ويدفع مبالغ تفوق طاقته بكثير!.».
الشاعرة نادين باخص، تناولت الموضوع من الجانب المادي والإبداعي، فالمبدع في النهاية إنسان من حقه الحصول على مقومات العيش الكريم، لكن في المقابل يفترض ألا يقضي على نصه الإبداعي في سبيل المال.. تقول نادين:
«كل شخص يضع لنفسه الشريعة التي تريحه وترضي إما ضميره ومبادئه، أو مصالحه وصغر نفسه، وهنا أود الإشارة إلى أن مصلحة الإنسان ليست بالضرورة دنيئة، فكل إنسان من حقه أن يعيش ويكسب المال من الشيء الذي يجيده، ولكن الدناءة تكون في أن تقضي حياتك على أساس أنك صاحب مبدأ معين، لتأتي لحظة وتنقلب ضد هذا المبدأ تمام الانقلاب وتبيع نفسك لما يناقضه بالكامل في سبيل أن المبدأ الذي كنت تزعم أنه أساس حياتك لم يعد يشبع مصلحتك. وكي لا أسقط في فخ التنظير والكلام المعمم، أستحضر الآن في رأسي عشرات الأمثلة والنماذج من هؤلاء الأشخاص الذين تلوثت ذاكرتي بمرورهم، وللأسف لا أستطيع أن أفعل وأستحضرهم على الملأ حفاظاً على نظافة آذان القراء وأعينهم. (الأولوية كانت ولاتزال للعمل الإبداعي) هذا ما أثبته التاريخ، لكن في الوقت نفسه لاشك في أن هذا التاريخ نفسه قد دفن آلاف الأعمال الإبداعية التي لم يسمع بها ما يكفي من الناس لسبب من الأسباب، ولكن ما أثبته الواقع أيضاً أن الأولوية بالتأكيد للانتماءات وضرب التحيّات. أما عن كون الكاتب معذوراً إن باع نفسه بسبب حاجته المادية وقرر أن يتحول إلى صنج في إحدى جوقات النشاز المنتشرة في كل مكان، فبالتأكيد لا عذر له، وبالنسبة إلي حالياً أفكر في تعلم الخياطة كوني فشلت في أن أكون متكسبة من المهنة التي لا أجيد غيرها، ولكن إن جاء يوم وقررت فيه أن أبيع نفسي وأكون كذلك فلن أعذرني مهما كان الظرف الذي دفعني لأفعل».
الكاتبة أسمهان الحمو لا تعذر الكاتب إن تنازل أو باع نبضه لأن النص الإبداعي لا قيمة مادية يمكن أن تعطيه حقه.. تقول:
«أنا لست مادية، لكن المادة وسيلة للحياة، والفقر لو كان رجلاً لقتلته، كل كلمة حرة وكل مقال قيّم وشعر يجب أن يوزن بالذهب من يكتب لا يبيع نبضه لأنه لا ثمن له».
الكاتبة المصرية هاجر أحمد شوقي ترى أن المشكلة ليست في رضوخ الفنان والكاتب للشرط المادي بل في سبب تنحيه جانباً في المشهد العام لتفاصيل الحياة التي لا تقيم وزناً له.. تقول هاجر:
«الفنان الحقيقي يمكنه أن يجعل من أي شيء فناً، لكن ما أصبح سائداً الآن من الغثاثة، ليس بسبب رضوخ الفنان بل بسبب تنحيته جانباً حيث إن ما يجري لا يمت للفن بصلة.. أظن أن الفنان الحقيقي يعجز أن يكون سوى نفسه، وتالياً فهو سيرتفع بأي دور أو في أي مكان أو أي مسؤولية تلقى على عاتقه.. إن قبول الفنان لأي دور يعني أن هذا الدور سيرتفع إلي مرتبه الفن.. في الكلمة أو اللحن أو التمثيل أو الفكرة يكفي أن تكون فناناً لتجعل أبسط قصة قوية ومؤثرة وجميلة…».
الشاعر كمال تاجا، ذهب باتجاه دور النشر وإمكانية استغلال الكاتب مع الاحتفاظ بحقوق المبدع المادية لأنها تحصيل حاصل.. يقول تاجا:
«لكل إنسان ظروفه، والمرتاح يعزف على هواه ولا يهمه مكسب مادي إلا التقدير من قبل القراء والنقاد.. أما التكسب فهو مشروع وحق خالص للمبدع من دون أدنى شك وهذا يبدو جلياً في معاملة دور النشر للمبدع وفي مقاسمته الأرباح حتى صار يقاس الكاتب بشباك التذاكر مثل نجوم السينما..».
يتناول الشاعر محمد خير داغستاني، الموضوع من جوانب أخرى، فيشير إلى خطورة أن يمتهن الشاعر محاباة الجوائز التي تعلنها المسابقات، مؤكداً في الوقت نفسه ضرورة أن تولي المؤسسات الرسمية اهتماماً في حال الكتّاب المادية وتوفير مستلزمات العيش الكريم لهم حيث لا يضطرون إلى أي نوع من التنازلات، يقول محمد:
«تختلف الآراء كثيراً حول هذا الموضوع، بالنسبة لي لا أتقبل ذلك ولم أستطع القيام به لأجل جائزة أو مناسبة، لكن الكثيرين فعلوه ويفعلونه..في حال قام الشاعر به مرة وربما له أسبابه، في رأيي لا يضير أما الشاعر الذي (يمتهن) ذلك فليس شاعرأ.. عموماً في بلادنا مجال التكسب من الشعر أو الكتابة الأدبية شبه معدوم، إلا هذه المسابقات التي نعرفها جميعاً.. المفترض عدم المساومة مهما كان حجم المغريات.. لكن تجدر الإشارة إلى ضرورة الالتفات من قبل الجهات التي تدير أو تدَّعي إدارة ورعاية المشهد الإبداعي شعرياً وأدبياً بالعموم..إلى الاهتمام المادي الحقيقي بهذه الفئة من المجتمع -فئة المثقفين- لخلق مساحة حرّة لهم في إبداعهم..
في النهاية
الموضوع يفتح عدة تشعبات توصل إلى قضايا شديدة الحساسية والخطورة في آن، فالتكسب لا يبدأ بالمدح المجاني فيما سماه العرب قديماً «مدح الرجل بما ليس فيه»، ولا ينتهي في محاباة شروط الجوائز التي راحت تمارس سطوة على النصوص الإبداعية وتحدّ من تمردها وتخطيها للخيال الكلاسيكي والأفكار البائدة بقوة الريالات والدينارات والدولارات، إضافة إلى ما نشأ خلال الفترات الماضية من مواقع إلكترونية راحت تسمسر على الكاتب وتستغله «بالمئة دولار» التي تدفعها لقاء المقال من أجل أن يميل إلى الجهة التي يمثلها صاحب رأس المال.. فالاستغلال الإعلامي هنا يحتاج باباً خاصاً للمعالجة نظراً لازدهاره في السنوات الأخيرة.. في جميع الأحوال، لا يختلف على أن المبدع بشر يأكل ويستأجر ويحلم بتأسيس أسرة وتربية أطفال.. وفي المقابل فإن المطالبة بعيش كريم للكتاب تبدو منطقياً استناداً إلى الفاقة وشظف العيش الذي يعانونه في بلدان العالم الثالث ككل.. هل نجد أحداً يعيش من القصائد في وقت تفشى في الغش والاحتكار وأكل لحم الأخ ميتاً؟.