جدلية العلاقة بين الفن التشكيلي والشعر … القصيدة تحمل إبداعاً بلون وظل ونور كما اللوحة

جدلية العلاقة بين الفن التشكيلي والشعر … القصيدة تحمل إبداعاً بلون وظل ونور كما اللوحة

ثقافة

الاثنين، ٩ أبريل ٢٠١٨

كرم النظامي
 
العوالم الإبداعية متنوعة بين أدب وفن وموسيقا ومسرح وغيرها، تربطها علاقات مختلفة وتأثيرات متبادلة، إلا أن العلاقة الوثقى كما سنعرض لاحقاً هي ما بين النص الشعري واللوحة الفنية إلى حد التداخل والتماهي منذ غابر العصور حيث الملاحم الشعرية والأساطير التي رافقتها الرسوم البدائية ثم المحترفة وليس انتهاءً بالقصيدة الحديثة والمعاصرة وتأثيراتها في ظهور المدارس والمذاهب في الفن التشكيلي..
– بين اللوحة والقصيدة تختلف أدوات ووسائل وسبل التعبير بلاشك، لكن كلتاهما يربطهما الخيال وآفاق الإبداع اللانهائية، وكما في اللوحة صورة (تصوير زيتي أو مائي.. الخ) نجد في القصيدة (صورة شعرية).. والشاعر حين يشكل صوّره في نصه الشعري يقترب من عمل الفنان حيث البناء والتراكيب والإخراج المتقن والصياغة الإبداعية وإضافة فضاءات واسعة تجنح مع الخيال ويربطهما كليهما الروح المبدع في تجلياته وإيقاعه وموسيقاه.. ومجازاً، قافية الفنان التشكيلي هي ألوانه المتناغمة ببراعة تعطي اللوحة رونقها، وقافية الشاعر هي بحور الشعر وتفعيلاتها التي تضبط النص وموسيقاه ليأتي العمل في كليهما مريحاً للذائقة البصرية والسمعية والوجدانية وهو جوهر الجمال الذي يشد المتلقي ويرتقي مع أحاسيسه بما يتجاوز الواقع بالفعل حيث يشكلان معاً بروح الخيال عالماً مبدعاً أحدهما باللون والآخر بالكلمات وهذا ماقصده بالذات الفيلسوف الاغريقي سيمونيدس 465 ق. م بقوله:
 
الشعر رسم ناطق والرسم شعر صامت!
– ومن دلالات العلاقة العميقة أيضاً أن القصيدة الشعرية تحمل اللغة والبلاغة والمعنى والبراعة في الوصف والموسيقا، وهو بحد ذاته تشكيل إبداعي كما اللوحة التي تحمل اللون والظل والنور والفكرة والتناغم بين التونات والتوليفات، وكل هذا أشبه ببناء القصيدة، عدا أنهما تربطهما معاً العلاقة الحسية والوجدانية والتعبير عن الانفعالات الداخلية وخلق الصورة التعبيرية أكان بالكلمة أم باللون..
 
شعراء رسموا ورسامون كتبوا الشعر
وبسبب هذا التقارب إن لم يكن التشابك، نجد أن كثيراً من الشعراء رسموا أو اهتموا بالفن التشكيلي ونقده، وكثيراً من الفنانين التشكيليين قرضوا الشعر.. والأمثلة كثيرة ومنها لا على سبيل الحصر، الفنان التشكيلي السوري فاتح المدرس الذي كتب الشعر الحر والنثر القصصي، والشاعر أدونيس الذي اهتم بفن الكولاج وضمّن في قصائده لوحات وخطوطاً تشكيلية، والشاعر الغنائي حسين حمزة وشغفه في سنواته الأخيرة بفن التجريد وألوان الغواش، ثم إن الشاعر عمر أبو ريشة استلهم من الفنون الجميلة في كتابة الشعر كما في قصيدته (جان دارك) 1935 المستوحاة من لوحات شاهدها في متحف اللوفر بباريس، والشاعر نزار قباني عنوّن إحدى قصائده بـ (الرسم بالكلمات) وهو تعبير مجازي معني بإبراز براعة الكلمة الشعرية في التحليق مع الخيال وتشكيل المعنى من خلال الصور الشعرية المؤثرة.. وهناك الشاعر اللبناني جبران خليل جبران الذي رسم أكثر مما كتب ولوحاته عبارة عن اسكتشات وخط كروكي بالحبر الصيني بتأثيرات صوفية.. وليس آخراً الفنان العراقي فيصل اللعيبي الذي استعار من رموز حضارة بلاد ما بين النهرين في بناء وتكوين لوحاته الزيتية الشهيرة.. وفي خمسينيات القرن الماضي كان لمجلة شعر، صاحبها الشاعر يوسف الخال، كبير الأثر في التقارب بين عوالم الفنانين والشعراء وتفاعلهم في النقد الفني والأدبي معاً وتشجيع إقامة المعارض الفنية ودعمها.. ناهيك عن أن القصيدة العربية الحديثة تزخر باحتفالات لونية كما في شعر عبد المعطي حجازي وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف..
وتتجلى العلاقة ربما أكثر في الحرف العربي الذي هو تجريد بحد ذاته، بنى الكثير من الفنانين لوحاتهم الحروفية بتأثيراته وطبيعته المرنة في التكوين بدءاً من المشجرات الأندلسية بكتابة القصيدة على شكل شجرة، وليس انتهاء بلوحات الفنانين المعاصرين كما في أعمال الفنانين السوريين محمد غنوم ووليد الآغا ومنير الشعراني وغيرهم.
وقديماً بلغ التصوير العربي ذروته في فن يحيى الواسطي الذي كانت رسومه متناغمة مع مقامات الحريري!
وأما في العالم الغربي فقد كانت العلاقة بين الفن التشكيلي والشعر متجذرةً أكثر وأثمرت مدارس ومذاهب فنية عديدة أثرت في الفن العالمي برمته وذلك في سياق تاريخي للحرية التي حصدها كل من الشاعر والفنان بجدارة.. فالشاعر الفرنسي مالارمييه فتح آفاق الرمزية بتأثير قصائده، والشاعر فيرلين للانطباعية والشاعر أراغون للسوريالية والدادائية التي انبثق منها كبار الفنانين كخوان ميرو وكاندنيسكي وليس انتهاءً بتكعيبية بابلو بيكاسو وجموح سلفادور دالي في عوالم الخيال وغرائبه.. هذا وامتلأ شعر بول فاليري وادغار آلان بو بمعاجم الألوان، وشاع اللون الأخضر في قصائد لوركا واللون الأزرق في قصائد كيتس، وربما كان الأشهر هو الشاعر الانكليزي وليم بليك 1757 الذي جمع بقوة بين الفن التشكيلي والشعر وعملت لوحاته الشعرية على كسر النهج التقليدي للقصيدة وتحريرها من الكلاسيكية.. والفنان الهولندي الأشهر فان غوخ أبدع في خواطره النثرية التي تضمنتها رسائله إلى أخيه ثيو حيث كانت زاخرة بالدلالات الشعرية المعبرة عن حالات إنسانية سوداوية شبيهة بلوحاته الضاجة بالألوان الصاخبة والصادمة.. ولن ننسى الشاعر الفرنسي الشهير بودلير الذي استلهم الفن التشكيلي في الشعر وذلك بقصيدته (منارات) التي قدم فيها وتحدث عن نخبة من الفنانين شاهد ودرس لوحاتهم في المتاحف وأشهرهم: روبنز ودافينشي ورمبراندت ومايكل انجلو وغويا وديلاكروا.. وعمل غوته على تصعيد تأثره بشعر هوميروس والملاحم الإغريقية في ديوانه (الفنون الجميلة) وقصيدته الشهيرة أغنية الفنان الصباحية، وكأنها لوحة تشكيلية..
وفي اليابان نشأ فن الهايغا وهو نمط من الرسم يرافق قصائد الهايكو ويشبه مضامينها في بساطة السرد وكشف عمق النص الشعري..
– العلاقة اذاً جدلية بالفعل بين هذين الصنفين من الإبداع الإنساني الثر.. وهما أشبه بطائرين تضمهما سماء واحدة ويحلقان في فضاءات الإحساس ويشكلان معاً الرؤية التشكيلية المجازية للوجود بالكلمة أو باللون.. وهما قوة تحرر ومغامرة وتجريب مستمر لجعل قدرة الوعي تتأقلم مع المختلف في صلب الجمال..
وكما قال الفنان الشهير بابلو بيكاسو:
وبعد كل شيء فإن كل الفنون واحدة.. ونحن يمكننا أن نكتب لوحةً بالكلمات كما يمكننا أن نرسم المشاعر في قصيدة!