القصـة القصيرة جداً.. كثرة في الإنتاج وندرة في الإبداع .. د. محمد ياسين صبيح

القصـة القصيرة جداً.. كثرة في الإنتاج وندرة في الإبداع .. د. محمد ياسين صبيح

ثقافة

الاثنين، ١٨ يونيو ٢٠١٨

ساعد في انتشار القصة القصيرة جداً أنها فن سردي بسيط يمكن الخوض في غماره من دون محاذير لحداثته، وتمكن قراءته في لحظات، ومن السهولة نشره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وقد بات لها تأثيرها في النشاط الأدبي، وبذلك لم نعد نستطيع القول: إنها ظاهرة عابرة بعدما بدأت تصدر مجموعات قصصية كاملة منفردة أو مشتركة مكتوبة بهذا الأسلوب، إضافة إلى الكتب النقدية التي حاولت منحها قواعدها وشروطها الفنية الخاصة، ولكن الإشكالية التي مازالت قيد البحث أنه لم يتم الاتفاق على حجمها رغم أن هذا يعد أهم خصائصها لكونه يميزها عن القصة القصيرة.

• أكثر الأسئلة المطروحة عند الحديث عن (ق.ق.ج): هل هي جنس أدبي في عداد بقية الأجناس؟ وقد وجّهنا السؤال إلى مجموعة من كتابها، وقد اتفقوا على أنها جنس أدبي له ما يميزه، بل له شروطه الخاصة؟.
أكدت القاصّة (مشلين بطرس) بثقة: نستطيع الجزم بأنها جنس أدبي مستقل بذاته، وهي فن أدبي بدأ يحظى بمكانته الأدبية والثقافية لأنها إبداع استثنائي، له جذوره القديمة التي تعود إلى خرافات (إيسوب) وقد كتب (نجيب محفوظ) في هذا الشكل.
وتلك حجج لا يمكن إنكارها، واتفق معها (نجيب كيالي) وأضاف متحدثاً عن شروط يجب توافرها في (ق.ق.ج) لنيل المشروعية كجنس أدبي: هي جنس أدبي مستقل إذا كانت من النوع المتقَن الجيد بدليل أننا نميِّز بين نصين، فنقول عن أحدهما: قصة قصيرة، وعن الآخر: (ق.ق.ج)، ولابد من الاعتراف بأن بعض نماذجها يصعب ضبطه في هوية محددة، فقد تشبه الخاطرة أو الحكمة أو النص المفتوح.
ويتفق (د.محمد ياسين صبيح) مع ما قيل، ولكنه يشير إلى عدم ضرورة المبالغة في وضع الشروط لهذا الجنس: إن كان لابد من تمييزها عن غيرها، فلابد من وجود عناصر أساسية، كما في الرواية والقصة القصيرة، وإن كنت لا أعدّ هذه العناصر نهائية، مع الإصرار على وجود عناصر مهمة وأساسية لتمييزها، كحالة سردية وحكائية تحوي حدثاً وشخصية، وتنحو إلى التكثيف.

• وجدنا أن أغلب كتاب الـ(ق.ق.ج) من كتاب القصة القصيرة ولاسيما في مراحلها الأولى، وعندما طرحنا السؤال: هل يجب أن يكون كاتب الـ(ق.ق.ج) قاصاً؟ كانت الإجابات خلاف توقعاتنا؟.
وجد (فهد حلاوة) أن (ق.ق.ج) لم تخرج من عباءة القصة القصيرة لهذا: نستطيع الادعاء بأن (ق.ق.ج) جنس أدبي مستقل بذاته، ولم يخلق من رحم القصة القصيرة، إن مقوماتهما وأركانهما مختلفة.
أما (صبيح) فلم يهتم للتعاقب التاريخي وقال: ليس شرطاً أن يكون كاتب (ق.ق.ج) خرج من عباءة الكتابة في القصة القصيرة، لأن تقنيات الأسلوب هنا مختلفة، فـ(ق.ق.ج) تستوجب الكتابة ضمن مساحة سردية ضيقة.
وأكدت الآراء السابقة بطرس: ليس من الضرورة أن يكون كاتبها كاتباً للقصة القصيرة.
أكثر الإجابات مقنعة في رأينا لـ(كيالي): أعتقد أن كتابة القصة القصيرة تُشكِّل سنداً قوياً للكاتب إذا رغب في كتابة (ق.ق.ج) فصانع التماثيل الكبيرة أقدرُ على صناعة التماثيل الصغيرة ممن لا خبرةَ له في هذا المجال على الإطلاق.

* الإقبال على كتابة الـ(ق.ق.ج) طرح افتراضاً أنها أسهل من كتابة القصة القصيرة، ولكن كتابها لم يتقبلوا هذا الطرح الذي عدوه تقليلاً من شأنها، وهذا ما جعلهم يبتعدون عن الموضوعية في ردودهم:
لم يكتف (حلاوة) بالحديث عن صعوبة كتابة نص قصير، وأكد أن كتابته أصعب من بقية أنواع الكتابة: لم أجد كتابتها سهلة مطلقاً، وهي من أصعب الكتابات، فبإسقاط أي عنصر من عناصرها يختل بناؤها.
وعبرت (بطرس) عن رأيها بطريقة لا تخلو من المبالغة المفرطة: هي إبداع قد ينفجر قبل أو بعد باع طويل في كتابة كل من الرواية والقصة القصيرة، والإبداع الذي أعنيه ليس الكتابة فحسب، إنما الإبداع الفكري، حيث الموهبة تكمن في التمرد والخروج عن المألوف، والذين يستسهلون كتابة (ق.ق.ج) لا يدركون ماهية الانفجار الكوني الذي يحدث بداخلهم لكتابة هذا النوع الأدبي الأصعب والأكثر عمقاً ومعرفةً!. وكان (صبيح) قريباً من أفكار زملائه، وبرر قائلاً: هي أصعب، ولعدة أسباب، من أهمها: السيطرة على المساحة السردية، بطريقة حكائية تخلق الحدث وتعبر عن الفكرة بتكثيف مناسب يخلو من الوصف، فالقدرة على خلق قص مكثف يقول بإيحاء الكثير من الأفكار أمر صعب ولا يتقنه سوى المتمرس بالأساليب السردية المقتضبة. وقال (كيالي): صحيح أن من يكتبون (ق.ق.ج) صاروا جيشاً عرمرماً، وبات الواحد منهم ينتهي من إنجازها قبل أن تبرد قهوته، لكن الناجحين منهم يعدون على الأصابع، فـ(ق.ق.ج) وإن كانت نصاً صغير الحجم إلا أنه يحتاج براعة فائقة.

• عندما طرحنا مفهوم تجنيس (ق.ق.ج) ولاسيما أنها تقف قريباً من الومضة الشعرية تعددت الآراء.
اتفق مع وجهة نظرنا (كيالي) عندما قال: قد يحدث التباس أحياناً عندما تكون (ق.ق.ج) شديدة الاختزال ومكتوبة بلغة شاعرية، لكنَّ جسدها لابدَّ من أن يشف عن طيف حدث أو شخصية أو أحد عناصر القص، فنقول لها: أنتِ (ق.ق.ج) ولستِ ومضةً شعرية، أما إذا لم نجد شيئاً من الشفافية المذكورة، فيظل الالتباس قائماً.
أما (بطرس) فذهبت بعيداً في شرح الأمر عندما قالت: الإشكالية في التجنيس ربما أتت تأثراً بـ(فرجينيا وولف) التي أعلنت موقفها في وقت مبكر، إذ قالت: (إن مستقبل القصة لا محالة صائر إلى أن يصبح شعراً، وسيدخل في النثر الكثير من خصائص الشعر)، لكنني أعتقد أن (ق.ق.ج) هي ما سماه الشاعر والرسام البلجيكي (هنر ميشو) بـ(الأثر الكلي الذي يحتوي الأجناس جميعها، ويختزلها ويتعالى عنها). ويقترب (صبيح) من هذا الرأي بقوله: الومضة الشعرية هي جملٌ كتبت بشاعرية تخلو من الحدث والنهاية، أما (ق.ق.ج) فهي قصة أولاً، وتتضمن شخصيات ونهاية، وتكون ذات أبعاد حكائية، وتستخدم الأسلوب الشاعري بالسرد.
ويرى (حلاوة) أن الأمر لا يحتاج الكثير من التنظير، فالأمر ببساطة: أن الومضة الشعرية تختلف عن (ق.ق.ج) فهي ليست قصة، ولكن الشعرية ركن أساس من أركان الـ(ق.ق.ج).

• كتب الكثير عن (ق.ق.ج)، وقلة من كتب عنها دراسات رصينة وموضوعية، وعندما سألنا كتابها عن ذلك تباينت الإجابات؟
(بطرس) المتحمسة لهذا النوع في الكتابة ترى: أن النقد يواكب (ق.ق.ج) ويدرسها بعمق وجدية، وأنه مع اهتمام المبدعين وتوالي النماذج الجيدة في كتابتها، ستأخذ ما تستحق من اهتمام لأنها فن المستقبل.
وغير بعيد عن هذا الرأي (كيالي) الذي قال: ربما كانت (ق.ق.ج) مولودة مدللة نقدياً، فقد كُتب عنها الكثير، لكن هذا الكم لم يكن كافياً لتأصيلها وتحديد هويتها بدقة.
وانفرد (صبيح) بالقول: إن النقد قدم حالة تنظيرية مهمة، لكنه لم يستطع إسقاطها على الواقع القصصي، بل كان بعيداً عن الإبداعات التي ظهرت وتظهر، وحتى من قدم بعض القراءات النقدية لم تَرْقَ إلى المستوى المطلوب، ولكن لا ننكر أنها دراسات أو قراءات نقدية مهمة وإن كانت قليلة جداً. واكتفى (حلاوة) بجملة مختصرة: في الوقت الحاضر لم أجد ناقداً لها في سورية!.