هنانو والصقال والسرّ المباح

هنانو والصقال والسرّ المباح

ثقافة

الأحد، ١ مايو ٢٠١١

تعتبر محاكمة الزعيم الوطني إبراهيم هنانو من أهم المحاكمات التاريخية المشرفة في تاريخ الجهاد الوطني، ولم يسبق في تاريخ الثورات الوطنية مثيل لها.. فقد حُكم على إبراهيم هنانو الزعيم الوطني زمن الانتداب الفرنسي أربع أحكام غيابية بالإعدام من قبل محكمة الجنايات العسكرية التابعة للمستعمر الفرنسي، مما اضطره لمغادرة معاقله إلى القدس حيث قبض عليه الإنجليز هناك في 13 أغسطس 1921م وسلموه إلى المستعمر الفرنسي.

اختيار المحامي
بعد القبض على هنانو قُدّم إلى محكمة الجنايات العسكرية الفرنسية بتهمة الإخلال بالأمن والقيام بأعمال إجرامية، وعقدت المحاكمة أولى جلساتها في 15 آذار 1922م، في ظل إجراءات أمنية مشددة لم تشهدها حلب من قبل، وترافع فتح الله الصقال أبرز محامي حلب للدفاع عن هنانو.. حيث أظهر أن التهمة باطلة كون هنانو خصماً سياسياً وليس مجرماً، بدليل أن الفرنسيين قبلوا بالتفاوض معه مرتين ووقعوا معه هدنة.. وعندما قال رئيس المجلس العرفي العسكري للزعيم هنانو: إن الشعب السوري لم يطلب منك إعلان الثورة؟.. وبدون إذن من الرئيس وقف سعد الله الجابري وقال: «إننا نحن الذين طلبنا من الزعيم هنانو مقاتلتكم.. ونحن لن نتخلى عن مقاتلتكم، مادام فينا وطني واحد، حتى تخرجوا من بلادنا».
في 25 آذار 1922م طالب النائب العام الفرنسي بإعدامه قائلاً: " لو أن لهنانو سبعة رؤوس لطلبت قطعها جميعاً". لكن القاضي الفرنسي أطلق سراح هنانو معتبراً ثورته ثورة سياسية مشروعة، معلناً استقلالية السلطة القضائية الفرنسية عن السلطة العسكرية.
في منتصف شهر آب عام 1921 وصل هنانو إلى حلب موقوفاً وأودع السجن العسكري، وكان يومئذ في الخان المعروف ب (خان استانبول العسكري) وفي صباح اليوم الرابع والعشرين من شهر أيلول عام 1921، وردت إلى المحامي فتح الله الصقال، مذكرة بإمضاء النائب العام العسكري الفرنسي، وفيها أنه يسمح له بمقابلة المتهم إبراهيم هنانو بصفته وكيلاً عنه.. استغرب الصقال هذه المذكرة، لأنه لا يعرف هنانو ولم يسبق له أن التقاه في أي مكان أو مناسبة ولم يطلب منه أحد أن يكون وكيلاً عن هنانو.؟ ورأى الصقال أن يتوجه إلى السجن، ليتحرى الأمر بنفسه.. ذهب الصقال إلى السجن والتقى هنانو وتبيّن له أن هنانو أيضاً لا يعرف فسأله عن سرِّ اختياره له للدفاع عنه، فقال هنانو: إن العشرات من المحامين في سورية تطوعوا للدفاع عنه وقبل أن يختار واحداً منهم التفت إلى النائب العام الفرنسي واستحلفه بشرفه العسكري لو كان مكانه من يختار للدفاع عنه، فتردد النائب العام في الإجابة ولكن إلحاح هنانو جعله يقول لو كنت مكانك لاخترت فتح الله الصقال.؟ جلس الصقال مع هنانو أياماً وساعات وقصّ علية قصة كفاحه ونضاله في سبيل أمته وبلاده.. فقال الصقال عن هنانو، إنه رجل ذكي، صلب العقيدة، قوي الإرادة، عيناه تشعّان بنور غريب، وتكادان تقذفان شرراً.

الصقال
هو فتح الله بن ميخائيل الصقال، أديب ومحام ووزير حلبي، ويعتبر من ألمع محامي سورية.. ولد بحلب عام 1893، وأُصيب بالشلل في أواخر حياته، وتوفي ودفن فيها عام 1970، درس في حلب وفرنسا، وتخرّج من جامعة "اكس" الفرنسية بتفوق، تولّى في مصر قبل عام 1919 تحرير قسم الأبحاث القضائية في جريدة "الأهرام"، وأيضاً في جريدة "البورصة المصرية" التي كانت تصدر بالفرنسية، وفي حلب تابع إصدار مجلة الكلمة عام 1929، استلم رئاسة جمعية الكلمة الخيرية التي تأسست عام 1924 كجمعية خيرية لمساعدة الفقراء والمعوزين حتى وفاته عام 1970.. وأصدر مجلة "باسم الكلمة" سنة 1929 لم تزل تصدر حتى الآن، كان أول من قام ببناء منزل في شارع السبيل بحلب عام 1926، وانتهى من بنائه عام 1929، وهو مازال قائماً جانب مدرسة الفرنسيسكان الحالية.. وقف في وجه سلطات الانتداب الفرنسي، اكتسب شهرة وطنية كبيرة في دفاعه عن الزعيم الوطني إبراهيم هنانو وكان الصقال آنذاك ابن ثمانية وعشرين ربيعاً وكان القضاة خمسة ضباط فرنسيين، عيّن الصقال وزيراً للاقتصاد الوطني عام 1949، ثم في نفس العام عيّن وزيراً للأشغال العامة. تكريماً له أطلقت حلب اسمه على أحد شوارعها خلف نقابة المهندسين.. أصدر عدداً من الكتب منها "خطرات ونظرات" و"من ذكرياتي في المحاماة" و" ذكريات عن حكومة حسني الزعيم".

الزعيم الوطني
هو إبراهيم ابن سليمان بن محمد هنانو، سياسي ومجاهد ومن أهم زعماء سورية، قاوم الانتداب الفرنسي، وكان أحد قادة الثورة السورية، ولد في بلدة (كفر تخاريم) غربي مدينة حلب عام 1869، نشأ في أسرة كردية غنية، حيث كان والده سليمان آغا أحد أكبر أثرياء مدينة حلب، والدته كريمة الحاج علي الصرما، تلقى علومه في كفر تخاريم، وحلب ودرس الحقوق في الآستانة، عيّن مديراً للناحية في ضواحي استانبول، فقائم مقام بنواحي أرضروم، فقاضي تحقيق في كفر تخاريم، انتخب عضواً في مجلس إدارة حلب، وعيّن بعدها رئيسا لديوان الولاية.. وفي عام 1919 انتخب عن مدينة حلب في المؤتمر السوري الأول، كما انتخب في برلمان عام 1928، تولّى زعامة الحركة الوطنية في شمال سورية، توفي صباح الخميس الثاني عشر من تشرين الثاني 1935، ودفن في مدينة حلب، أطلق اسمه على شوارع عديدة في المحافظات السورية.. ويروى عنه إنه حين قام بثورته ضد الانتداب الفرنسي جمع أثاث بيته وأحرقه معلناً بداية الثورة وقال جملته المشهورة: (لا أريد أثاثاً في بلد مستعمر)، وفي أيلول عام 1933 قام شخص يدعى نيازي الكوسى، بإطلاق النار عليه إلا أن الرصاص أصاب قدمه، وتم القبض على الكوسى في أنطاكية، إلا أن المفوض السامي الفرنسي أصدر عفواً خاصاً بحقه..؟ أُطلق على هنانو اسم (المتوكل على الله) لأنه قبل كل معركة كان يخوضها ضد المستعمر الفرنسي كان يقول: توكلت على الله.

المحاكمة
بدأت محاكمة هنانو في الساعة الثامنة من صباح يوم 15 آذار عام 1922م في دار الحكومة في حلب (السراي القديمة) وسط إجراءات أمنية وعسكرية كبيرة، استمرت المحاكمة ما بين الأسبوع وعشرة الأيام، وكانت تعقد صباحاً ومساءً، وقال النائب العام الفرنسي في الجلسة الأخيرة: (لو كان لإبراهيم هنانو سبعة رؤوس بعدد جرائمه السبع لطلبت إعدام رؤوسه السبعة) ومع ذلك استطاع الصقال بذكائه وعلمه وحنكته من انتزاع البراءة للزعيم هنانو وأطلق سراحه.

السرّ المباح
يروي أدهم محمد الجندي وهو من أهم الذين أرّخوا للثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي حادثة طريفة وغريبة في آن، حول مجريات محاكمة هنانو، فيقول، بعد عشرة أيام على صدور براءة الزعيم هنانو، وبينما كان المحامي الصقال في مكتبه الواقع في مدينة حلب بمحلة قسطل الحجارين، فوجئ بزيارة أحد أعضاء المحكمة العسكرية التي حاكمت هنانو وهو الكابتن (لوكلير) يدخل عليه دون استئذان قائلاً له جئتك مودعاً..؟ إنني مغادر غداً إلى فرنسا مع اثنين من أعضاء المحكمة العسكرية، اللذين كانا معي في محاكمة موكلك إبراهيم هنانو.
فرد الصقال قائلاً، وما الداعي إلى هذا السفر المفاجئ.؟ فرد عليه بحِدّة لأننا برّأنا هنانو، فغضبوا علينا وطلبوا منا العودة إلى فرنسا.؟
دُهش الصقال مما قاله الضابط (لوكلير) وطلب الصقال منه الجلوس وشرح القصة له، فقال (لوكلير)، عقدت المحكمة العسكرية اجتماعاً قبل محاكمة هنانو، وقال لنا رئيس المحكمة إنه تحقق أن هنانو مذنب وينبغي الحكم عليه بالإعدام، ليكون عبرة لغيره.. وتابع (لوكلير) وحين استمعت إلى دفاعك عن هنانو اقتنعت بأنه ليس مجرماً، وأثناء جلسة إصدار الحكم بذلتُ كل ما بوسعي ليكون اثنان من زملائي أعضاء المحكمة إلى جانبي ونجحت بذلك وأصبحنا ثلاثة ضد اثنين، وأعلنت براءة هنانو.
يتبع
شمس الدين العجلاني- أثينا 
alajlani.shams@hotmail.com