المرأة التي أسرت ملك فرنسا واكتنفها حمام من الدم الحلقة -1-

المرأة التي أسرت ملك فرنسا واكتنفها حمام من الدم الحلقة -1-

ثقافة

الثلاثاء، ١٣ يناير ٢٠١٥

شمس الدين العجلاني
سيرة حياة هذه المرأة تستحق الوقوف عندها مطولاً ،  إنها سيرة غامضة ، مليئة بالعز ، يكتنفها حمام من الدم ، و كيد نساء قضى عليها و على الكثير من الرجال و الجند و السلاطين !؟
إنها المرأة التي أسرت الملك الفرنسي ، و فرضت شروطها على الفرنجة.
إنها المرأة التي قاتلت و قَتلت و انتصرت و قُتلت ، تبوأت أعلى المراتب فكانت أول و آخر سلطانة أو ملكة في العصر الإسلامي ، دعي لها في المساجد ، و صكت النقود باسمها .
هي إمرأة مملوكية من أصول أرمنية ، أو شركسيه أو تركمانية جميلة شديدة الذكاء و الدهاء  و الحكمة ، مثقفة ، قوية الشخصية، محبه للطرب و الغناء ، تأسر القلوب و يدين لها الرجال بالطاعة و التقدير و الإحترام ، و تُطأطئ لها الرؤوس و تعنو لها الرقاب ، قد نجهل عنها الكثير و لكن لا يغيب عن ذهننا حكاية " قد تكون ملفقة " مقتلها بالقباقيب !؟
سيرة حياة " شجرة الدر " سيرة حياة امرأة عظيمة غرقت بالعز و التهمتها النار و لطخها الدم ، سيرة امرأه كانت محظية الملك و جارية و أَمة مملوكية و ملكة و سلطانة ، إمراه أغفل التاريخ عظمتها و نبوغها ، و أبرز نهايتها المؤلمة !؟
إمرأة لم يُعرف اسمها و أصلها و ماضيها و ولادتها ، و عرفت باسم شجر الدر حين أطلقه عليها زوجها الملك الصالح أيوب.
هي امرأة بدلت وجه التاريخ وغيرته و عرفت بإسم شجرة الدر .
شجرة الدر :
لم نعرف علم اليقين أصول شجرة الدر و إسمها الحقيقي  و إن كان قد أسماها الملك الصالح نجم الدين أيوب " شجر الدر " و عرفت عبر صفحات التاريخ باسم الملكة و السلطانة عصمة الدين ،  أو المستعصمة " تقرباً من الخليفة العباسي المستعصم بالله عبد الله بن المستنصر بالله " و أم خليل و والدة الملك المنصور خليل أمير المؤمنين ، و لقبت أيضاً (بالستر الرفيع و الحجاب المنيع ملكة المسلمين)  و لكن الاسم الأشهر لها كان  شجرة الدر .
قيل أنها جارية تركمانية ، أو شركسية ، أو أرمنية ، أو تركية " كون أرمينيا في ذاك الوقت كانت تحت سيطرة الأتراك ، لكن أمين معلوف حسم الأمر و قال إنها من أصل أرمني ، ولدت مسيحية في بلاد أرمينيا الجبلية ، و لكن أضحت مصر وطنها والإسلام عقيدتها .
 تميزت شجرة الدر عن كل نساء عصرها من حيث  الجمال والفطنة والذكاء الخارق والحاد، إضافة لكونها متعلمة، تتقن فن السياسة ، و لعبة المؤامرات و القتل ، و كيد النساء ، و كانت نداً للرجال ، امتلكت حكمة نادرة ، و أجادت الكتابة والقراءة ، فهي مثقفة ، تهوى الطرب و الغناء ،  و كانت أقوى امرأة شهدها العصر الإسلامي .
شجرة الدر من جواري الملك الصالح نجم الدين أيوب اشتراها في أيام والده ، و من ثم أعتقها و تزوجها  وولدت منه إبناً إسمه خليل؛ مات وهو صغيراً لم يتجاوز السادسة من عمره ، و كانت تكنى في أول عهدها بأم خليل .
قال عنها الكتاب و المؤرخون : " لم تكن شجرة الدر بالملاك المعطر و لا بالمرأة التي تخلبها الزينة و تحجبها عن الحقيقة , و إنما كان لها عقل يدبر و يفكر و يقدر , قادت معركة المنصورة الخالدة في أحلك الظروف, و حققت النصر الساحق على الأعداء , إنها امرأة تستحق التقدير و الثناء , دخلت التاريخ من أوسع أبوابه."
قال المؤرخ إبن إياس عن شجرة الدر : " كانت ذات عقل و حزم، كاتبة قارئة، عارفة بأمور المملكة " و " نالت من الدنيا ما لم تنله امرأه قبلها و لا بعدها"
كانت شجرة الدر مع نجم الدين أيوب في البلاد الشامية، عندما كان والياً على الشام مدة طويلة ، ويصف المقريزى الصالح أيوب بأنه كان " ملكاً شجاعاً حازماً مهيباً، وأنه كان كثير الحياء والعفة، معرض عن الهزل ولا يصدر عنه فحش الكلام وكان إذا شتم أحداً لا يزيد عن كلمة " متخلف "
 ومن ثم عندما انتقل إلى مصر وتولى السلطة فيها ،كانت شجرة الدر تلعب دور المستشارة في شؤون الحكم و تنوب عن السلطان من وراء الستار ، و أيام غيابه عن مصر . 
أم خليل أو شجرة الدر هي من وضع لبنة الأساس لدولة المماليك في مصر على أنقاض الدولة الأيوبية بعد وفاة زوجها السلطان الصالح نجم الدين عن عمر يناهز  الرابعة والأربعين، و مقتل إبن زوجها توران شاه و ضمت هذه الدولة بلاد مصر و اليمن و الحجاز و بلاد الشام و كان من أهم أعمال هذه الدولة الإنتصار على المغول في معركة عين جالوت و الانتصار على الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا عام 1250م.
دام سلطانها و حكمها ثمانين يوماً فقط ، ووافقت على تنصيب عز الدين أيبك التركماني قائداً عاماً للجيش ووصياً على العرش , و من ثم تزوجته و تنازلت له  عن عرش المملكة  .
كانت شجرة الدر ملكة و سلطانة المسلمين و عصمة الدنيا و الدين و هي عند بعض المؤرخين آخر ملكة في سلالة الملوك الأيوبيين ، و عند البعض الآخر هي أول ملوك و سلاطين المماليك .
قُتلت شجرة الدر في القاهرة و دفنت فيهاعام 655 للهجرة سنة 1257 و لم يزل قبرها موجوداً حتى الآن و يزار .
وفاة السلطان و أسر ملك فرنسا :
في 6 تموز من عام 1249 م احتل الملك الفرنسي لويس التاسع مدينة دمياط المصرية ، و كان على رأس مصر حينها السلطان الصالح أيوب الذي ما لبث أن توفي نتيجة مرض ألم به ، في ليلة النصف من شعبان (سنة 647هـ) تشرين الثاني 1249 م ، و أرادت القوات الصليبية الزحف جنوبًا على شاطئ النيل الشرقي لفرع دمياط؛ للإجهاز على القوات المصرية الرابضة في المنصورة و الزحف إلى القاهرة .رأت شجرة الدر أن إذاعة خبر موت السلطان الصالح في هذا الوقت الحرج كفيلة بأن تضعف معنويات الجند، وتؤثر في سير المعركة.
أخفت شجرة الدر الخبر عن العامة و الخاصة في أنحاء السلطنة  ، و تدبرت هي أمور البلاد ، فكانت تحكم و ترسم و تأمر في ظله و باسمه , دون أن تشعر الناس, حتى أنها كانت تصدر الأوامر و القرارات و المراسيم المكتوبة بخط و توقيع يشبه خط و توقيع زوجها المتوفي .
أمرت شجرة الدر الأطباء أن يدخلوا كل يوم إلى حجرة السلطان " المتوفي " كعادتهم، وكانت تُدخل الأدوية والطعام غرفته كما لو كان حيًا، واستمرت الأوراق الرسمية تخرج كل يوم وعليها علامة السلطان.
لقد أحضرت الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والطواشى جمال الدين محسن، أقرب الناس للسلطان للإتفاق على إدارة أمور البلاد، وكتمان خبر موت السلطان حتى لا يؤثر على معنويات جيشه الذى يواجه الصليبيين، " أعلنت شجرة الدر رسمياً، وفاة زوجها السلطان الصالح أيوب في شوال 647هـ  " .
لقد تمكنت شجرة الدر إخفاء خبر وفاة زوجها السلطان عشرة أيام ، و بكل حكمة و اقتدار أدارت البلاد ،  و عندما تسرب خبر وفاته و بدأ انتشاره في صفوف العدو الذي أخذ يستغل الموقف لصالحه , بادرت شجرة الدر إلى إعلان وفاة السلطان و مناشدة الجيش المصري على الاستمرار بالجهاد وقرأ إعلان الوفاة في 26 شعبان عام 647ه فوق منبر الجامع الأزهر و كان إعلاناً بليغاً فيه مواعظ جمة و جاء في أوله قوله تعالى: ( انفروا خفاقاً و ثقالاً و جاهدوا في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) .
نقلت شجر الدر جثمان زوجها الصالح أيوب سراً في تابوت من المنصورة إلى قلعة جزيرة الروضة " و بعد إعلان وفاته أعيد جثمانه من قلعة الروضة إلى مدفنه في القبة التي بنتها له شجرة الدر بجوار المدارس الصالحية في منطقة بين القصرين بالقاهرة. وقد أقيمت مراسم دفن للملك الصالح وُصلي عليه بعد صلاة الجمعة "
أرسلت شجرة الدر الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار زعيم المماليك البحرية إلى حصن كيفا لإحضار إبنه توران شاه لتسلم عرش البلاد. 
و تولت خوض معركتها الشرسة ضد الصليبين " معركة المنصورة " مع الملك الفرنسي الذي أطاحت به و بجنده ، قادت المعركة بدلاً عن زوجها السلطان " المتوفي "  و باسمه و كأنه على قيد الحياة ، و خسر حينها الملك الفرنسي 80  سفينة حربية عدا العتاد الحربية الأخرى . و حلت الهزيمة الساحقة به و بالصليبين و أُسر الملك  الفرنسي لويس التاسع مع عدد كبير من أمرائه وقواده ، و كان ذلك عام 1250 م، و اقتادوه مغلولاً إلى دار الشيخ فخر الدين بن لقمان في المنصورة.
تفاوض المنتصر و المنهزم، و فرضت شجرة الدر شروطها و هي جلاء الصليبيين عن دمياط و خروجهم من كامل مصر و دفع فدية باهظة بلغت مليون دينار مقابل إطلاق سراح الملك لويس و من معه من الأسرى . و دفع التاج الفرنسي فدية الملك إنقاذاً لحياته . ثم قامت بترحيل الفرنجة من البلاد المصرية بعد الانتصار عليهم و أطلقت سراح الملك لويس التاسع .
يتبع