حكمت محسن

حكمت محسن

نجم الأسبوع

الاثنين، ٦ يوليو ٢٠١٥

المقدمة

مفتاح فكاهة يدور بيسر في قفل الحياة، يفتح أبواب مستودع النّفس الإنسانيّة، ليحرّر مشاعر النّقص، القلق، الخوف، الغضب، وانفعالات الطّفولة، مخرجاً إيّاها من رحم العتمة، كوليد يرى النّور للمرّة الأولى، وبدلاً من البكاء، أو رثاء الذّات، تُضحِك هذه المشاعر متى شاءت كلّ مَن حولها، باذلة الجهود في إقناع الآخرين بأنّها تحبّ النّاس والحياة، وبأنّ العالم ما زال جميلاً بالرّغم من كلّ شيء.

من الإبرة، الكشتبان، القوس الخشبي، والقطن المندوف، إلى قلم رصاص دمشقي، يندف الفكاهة، وينثرها على الورقة، فتنقلب إلى قلوب النّاس ـ عبر أثير الإذاعة لأوّل مرّة عام 1947ـ مفرّغة الشّوارع من المارّة الذين يترقّبون في بيوتهم كلّ مساء، تمثيليات حكمت محسن الفكاهية والانتقادية.


حياته


وُلد حكمت محسن عام 1910 في استنبول، لأب وأم سوريين. انخرط والده، صبحي محسن، في الجيش العثماني، أثناء الحرب العالميّة الأولى، وحفظاً على سلامة العائلة، أرسل الأب زوجته وطفله حكمت إلى دمشق، ليتابعا مسيرة حياتهما عند أهل زوجته، لكن الأب الضّابط فُقِد في حرب «السّفر برلك» ولم يعد.

تمزّقت خيمة الأمان التي كان يحتمي بها الطّفل حكمت محسن وأمّه، ثانية، حين توفّي جدّه الضّابط، تاركاً راتباً تقاعدياً بسيطاً، لزوجته وأولاده، فعملت والدة حكمت محسن كمدرّسة للأطفال لتعيل ابنها، فما كان من الأخير إلا أن انخرط في العمل ليساعد والدته وهو لم يتجاوز التّاسعة من عمره، ثم انتقلا إلى بيت جديد بسهولة كبيرة، نظراً لقلّة الممتلكات.

رضع حكمت محسن الفن من أمّه خيريّة، تلك المحدّثة البارعة، والتي كانت تصحبه إلى حفلات الاستقبال، وتتنصّت على الحكواتي في مقهى مصلبة العمارة بدمشق، ثم تحكي بالسّهرة لابنها ما سمعت، فكانت معلّمه الأول، والحكواتي بمثابة معلمه الثاني.

تخرّج حكمت محسن في العاشرة من عمره، من مدرسة الإسعاف الخيري (لفقره)، وهذه المدرسة لا تزال حتّى هذا اليوم على نفقة أهل الخير، تقدّم العلم، المنامة والطعام والشراب للمحتاجين.

سكن حكمت مع أمّه في عدّة غرف بالأجرة في سوق ساروجة والمهاجرين وقبر عاتكة والقنوات وباب سريجة، مستمتعاً بقراءة الكتب على ضوء الشّمعة!


مْسَبِّع الكارات


عانى حكمت محسن من الحرمان والجوع بالرّغم من محاولاته الفاشلة في تعلّم مهنة ما وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، فعمل كأجير عند البقّال، الخضري، الكوّا، الحلاّق، الحدّاد، النّجار، الخيّاط، ولم ترق له إلا مهنة التّنجيد، فأحسن التّعامل مع كافّة أنماط النّاس، وتعرّف على طبائعهم وأحاديثهم وأساليب حياتهم، وقصصهم وحكاياهم الشّعبية، فكان يدوّنها لتكون أساساً لمسرحيّات فكاهيّة.

الشّرارة الأولى


لم تقدر أكوام الصّوف، على محو موهبة حكمت محسن الفكاهيّة، وعجز الكشتبان والإبرة، عن حياكة فم الفكاهة، وما إن تجاوز الطفل الرابعة عشرة من عمره، حتّى وجد نفسه يحضُر عرضاً مسرحياً لفرقة أمين عبد الله القادمة من مصر، فسحرته كواليس المسرح ومفاجآته، وأشعلت في قلبه شرارة توق، لم يقدر الليل على إطفاء نيرانه، فعجز في تلك الليلة عن النوم، حتّى جاء الصّباح، فنهض وذهب ليقابل الفنّان المصري، أملاً بالانضمام إلى فرقته المسرحيّة، كمتطوّع من دون أجر، فوافق الفنّان على طلبه.

بدأ حياته الفنية ككومبارس في مسرحية «حمام بنت الملك»، فعمل بالنّهار وسهر باللّيل ما أثار حفيظة زوج خالته، الذي لم يقبل أبداً فكرة الفن، حفاظاً على شرف العائلة، فهدّده ساخراً:
«إن عملت مع كشكش بك ، وإن دست بيتي لأكسر رجلك»، ثم طرده من البيت.


فرقة أمين عطا الله المصرية


في سن الرابعة عشرة من عمره، شاهد حكمت محسن عروض فرقة أمين عطا الله المصرية في دمشق، فأحب فن التمثيل، وانضم إلى الفرقة إبان عروضها في سورية ولبنان. وبعد عودة الفرقة إلى مصر، قام حكمت محسن مع لفيف من أصدقائه بتشكيل فرقة تمثيلية، بدأت بتقديم التمثيليات في بعـض البيوت الدمشـقية الكبيــرة، كما كانت تقدم الأغاني والمونولوجات الناقدة. وبسرعة استقطبت الفرقة جمهوراً كبيراً، وكانت المونولوجات التي كتب كلماتها تهاجم الاستعمار الفرنسي. ثم انتقل مع فرقته ليقدم عروضه على المسارح، ومنها مسرح العباسية الذي كان أكبر مسارح دمشق وقتئذٍ. وفي أثناء ذلك اطلع على المسرحيات العالمية المترجمة، ليتعرف منها أصول الكتابة المسرحية.

فكتوريا حبيقه


في بيروت قالت له الممثلة فكتوريا حبيقه: «أنت باين عليك ابن أوادم، اسمع مني وارجع لبلدك، لا تغتر بحياتنا، نحن شحادون بثياب ملوك، حرام عليك».

عاش حكمت مع الفرقة بالجوع،‏ سكن في بيروت، في غرفة صياد سمك في المينا البيضا، وعمل في جوقة علي العريس، ومثل دور الرجل الشامي، ولكن قبضايات مرج عيون أجبروه على العودة إلى دمشق.

‏في دمشق مثّل دور مرجان في فرقة «نادي الفنون الجميلة» لوصفي المالح وذلك على مسرح مدرسة اللاييك. واشترك في مسرحية «استقالة إبليس» التي حضرها فخري البارودي.


رئيس نقابة المنجّدين


بعد أن يئس من التّرحال جائعاً ومنهكاً، مع الفرقة المسرحيّة، التي تنقّلت بين المحافظات السّورية، وبيروت، ترك حكمت محسن الفرقة وعاد إلى دمشق، لتحصيل لقمة العيش، في مهنة التّنجيد، فانخرط في تأسيس أوّل نقابة مهنيّة للمنجّدين في سورية، وأضحى أوّل رئيس لها، ثم علّم نفسه الموسيقى سماعاً، وعزف على العود، ولحّن ما كان يكتبه ويؤدّيه من مونولوجات غنائيّة، منتقداً الاستعمار الفرنسي، والحالة الاجتماعيّة، فطارت شهرته إلى كل الأرجاء، ما ساعده على تقديم حفلات خاصّة به على مسرح سينما العباسية بدمشق، في مطلع الثلاثينيات.

من الدّركزلي إلى حكمت محسن



الفنان المبدع حكمت محسن

تميّز حكمت محسن بقدرته الهائلة - بالرغم من نزقه - على التّعامل مع النّاس، وتسليتهم، إسعادهم وتقديم المتعة والفائدة، مؤكّداً لهم طبيعتهم الخيّرة، محوّلاً غضبهم أو عدوانيّتهم إلى ضحكات، دون أن ينسى أثقال المسؤوليّة الإنسانيّة الملقاة على عاتقه، فكان رائد المونولوجات، المسرح، الإذاعة والتّلفزيون، ومبتكر أعمق الشّخصيات الدراميّة الشعبيّة مثل «أبو رشدي»، «أبو فهمي»، «أبو شاكر»، «سعد حَنّي كفّك» (الذي جسده الفنان رفيق سبيعي عام 1962)، «صابر أفندي»، «أبو صيّاح»، «درويش».

كتب شخصية «أم كامل» عبد الهادي الدّركزلي أول الأمر، وقُدّمت أوّل مرّة كقابلة شعبيّة في تمثيلية إذاعية اسمها «إصابة مشتبهة» ومثّلها سامي أبو نادر الذي ترك الفرقة، فأعطى الدّور لأنور البابا، وكذلك غادر الدركزلي فتابع حكمت محسن الكتابة، فأثرى الشخصيّة وذاع صيت أم كامل، حتّى أسند إليه أيّام الشيشكلي تقديم مشروع الدّستور السّوري، ضمن حديث شعبي في الإذاعة، ثمّ تتابعت أعمال حكمت محسن، مثل «سلسلة حكايات الجدّة»، «انسى همومك»، «اضحك واربح»، «سهرات الفن» وغيرها، فصارت أم كامل الأخت والأم، الحماة والأرملة، والعانس التي تُضحِك العالم بسذاجتها وحنكتها بآن.

على مسرح سينما الأمير في بوّابة الصالحيّة، ترقّب الجمهور بلهفة أول عرض مسرحي، تظهر فيه أم كامل على المسرح عام 1948، وقد اختار أنور البابا، الممثل العريق الذي قام بتجسيد الشخصية بإبداع لا مثيل له، الزيّ التّقليدي الشّعبي الدّمشقي، فارتدى الملاءة السّوداء، ووضع الغطاء والنّظارة، معلّقاً مفتاحاً طويلاً على خصره كعادة العجائز، وحمل بكفّيه مسبحة طويلة.

وقد تتابعت كتابات حكمت محسن وعروضه: «زوجتي رقم 2»، «أم كامل في عيادة الطبيب»، «يا مستعجل وقّف لقلّك»، «الكرسي المخلوع»، حيث وصل صيت أم كامل إلى الوطن العربي بأكمله.


من الإذاعة إلى التلفزيون


بدأت المرحلة الأهم في مسيرة حكمت محسن مع افتتاح الإذاعة الوطنية السورية بعد الاستقلال، فكان من أوائل العاملين فيها، إذ بدأ بتقديم التمثيليات الإذاعية التي كان يكتبها ويخرجها ويمثل فيها. واشتهر بالشخصية الشعبية «أبو رشدي»، إلى جانب فهد كعيكاتي بشخصية «أبو فهمي»، وأنور البابا بشخصية «أم كامل»، ثم انضم إليهم تيسير السعدي. وكانت هذه التمثيليات تعالج القضايا الاجتماعية، ولكن بأسلوب شعبي قريب من عامة الناس. ومع افتتاح التلفزيون عام 1960، بدأ بتقديم التمثيليات التلفزيونية على الشاشة الصغيرة.

الكوميديا في مسرح حكمت محسن


إن الكوميديا من أصعب وأرقى الفنون، وبعيداً عن الهزل والتهريج، كان مفهوم الكوميديا العام والشائع في مسرح حكمت محسن، عبارة عن مسرحية يقوم الفعل الدرامي فيها على تخطي سلسلة من العقبات التي لا تحمل خطراً حقيقياًـ وتكون الخاتمة فيها سعيدة. كما أنها تهدف إلى التسلية عبر تضخيم الحدث وإعطائه شكلاً غير طبيعي، بحيث يستطيع المتفرج النظر إلى هذا التضخم غير الطبيعي بشكل طبيعي وعقلاني كونه خارج الحدث، وبذلك يشعر المتفرج بتفوقه كون الكوميديا تتطلب منه موقف محاكمة لا موقف خوف أو شفقة، وبالتالي فإن التطهير فيها هو نوع من التنفيس واستثارة الوعي لأنها تشكل التصاقاً بالواقع اليومي، وجمهور الكوميديا أوسع وأكثر تنوعاً من التراجيديا، وهذا له أسبابه العديدة التي تخضع لظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية، فالكوميديا تحاكي الطباع من خلال الفعل الذي تحمله صفة وطبيعة الشخصية، كما أن الإضحاك ليس شرطاً لوجود الكوميديا.


بلطجيّة الفن وخيانة قاطع التّذاكر


اتفق حكمت محسن مع فرقة موسيقية لتحيي حفلته على مسرح سينما العباسية، لكنّها خيّبت أمله في الحضور، بعد أن أغراها خصومه ومنافسوه بالمال، لتنسحب وتتركه وحيداً على المسرح من دون ديكور أيضاً، وحين طالبه عمّال المسرح بأجورهم، لم يجد مالاً على الإطلاق، لأن قاطع التّذاكر كان قد سرق المال أيضاً وهرب، ولكن بما أن الدّنيا لا تفرغ من الطيّبين، فقد تطوّع أحد أصدقاء والد حكمت محسن، في مرافقته على الأكورديون من خلف الستارة، وبما أنّه كان مبتدئاً، فلم يقدر على أن يواكبه جيداً في غنائه، ما أدّى إلى فشل الحفلة، وإغماء حكمت محسن، الذي قال حين استعاد وعيه متفكّهاً: «كأن الجنّ كانوا يعزفون من ورائي». لم توقف الصّدمة حكمت محسن عن العمل، بل تابع كتابة التمثيليات، الزّجل والمونولوج، بلغة العامة، وأبدع نصوصاً مسرحية مثل «أبو رشدو»، دون أن يتمكّن من تجسيدها على خشبة المسرح.

السفر في الطائرة والسكاكر


التقى حكمت محسن الممثل والمؤلف عام 1948، بالمخرج تيسير السعدي في أحد الأسواق، فأطلعه على قصة كتبها باللّغة الدّارجة، داعماً إياها بالأمثال الشعبية، فنالت إعجاب تيسير السعدي، وكانت بداية تشكّل الثّنائي، فسجّلا في إذاعة الشرق الأدنى في قبرص (B.B.C)، مسرحيتين هما: «يا آخد القرد على ماله»، «نهاية سكير»، ثم سجّلا ثلاثين حلقة إذاعية بعنوان: «صندوق الدنيا عجايب»، والتي نالت إعجاب الجماهير.

عندما سافر إلى إذاعة الشرق الأدنى في قبرص، كان حكمت محسن يركب الطائرة للمرة الأولى، وعندما دارت المضيفة بصندوق السكاكر توزعه على الركاب، أعرض حكمت عن أخذ واحدة، لأنه كان يظن أنها لا تعطي السكاكر إلا بمال، وهو فقير، ولا يستطيع «بعزقة» القليل الذي معه.‏


قلم الرّصاص


نشأ حكمت محسن في حارة متواضعة، وكان يصغي إلى مشكلات الناس ويدونها ويصوغها بقالب فكاهي ويقدمها، ولهذا بلغت حكايات «أبو رشدو» النجاح والانتشار الكبيرين، وكان الناس يحتفون به ليأتوا إلى بيوتهم ويستمعوا إلى خطاباته.

تولى حكمت محسن، بنفسه تمثيل دور «أبو رشدي»، وهو شخص فصيح اللسان، ذو صوت رجولي، يتمتع بمقدرة كبيرة على النطق السليم، وضبط مخارج الحروف، متحوّلاً إلى «كراكتر» كوميدي متميز.


الفنان رفيق سبيعي في دور أبو صياح

لم يحمل حكمت محسن في حقيبته الجلدية، حين رحل إلى قبرص لتقديم تمثيليات إذاعية بمناسبة شهر رمضان، سوى قلم رصاص عريض، يستخدمه النجارون، فما إن طلب مخرج الإذاعة عبد المجيد أبو اللبن الاطلاع على النصوص قبل بداية رمضان بيومين، حتّى أخرج عميد الأدب الشعبي، حكمت محسن، القلم، قائلاً: «لديّ هذا القلم فقط»، وباشر بكتابة الحلقة مساء، باللغة الدارجة في دمشق، على ورق كبير أسمر، لتسجّل صباحاً وتذاع، حتّى اكتمل مسلسله الإذاعي «صندوق الدنيا عجايب»، محققاً نجاحاً باهراً، محيّراً الناس بغنى المفردات الشعبية، واشتقاقاتها ومصادر لهجاتها، وهنا تذكّر إداريو إذاعة دمشق ذلك الكاتب الهام الذي نبذوه سابقاً بسبب ثيابه المتواضعة وهيئته المزرية، فعاودوا الاتصال به، وتعاقدوا معه على راتب ثابت بحدود 100 ليرة سورية بالإضافة إلى 35 ليرة عن كل تمثيلية، فاستمر عمله في الإذاعتين معاً، فكتب لإذاعة الشرق الأدنى فواصل تمثيلية في برنامج «انس همومك»، شارك فيه فنانون كبار أمثال الأخوين رحباني وفريد الأطرش وفيلمون وهبي، وبعد عدوان 1956 على مصر، استقال حكمت محسن من الإذاعة في قبرص.

أعماله


تمثيلية «نهاية سكير»


الذي يؤدي به إدمان الكحول إلى الإفلاس وخراب البيت، بشكل تراجيدي شعبي، مؤثر جداً. لقد تأثر حكمت محسن بالناس، وحمل ثقافتهم، مارس عاداتهم ومعتقداتهم فجسّد بدوره في أعماله الفنية كل المفاهيم الاجتماعية والثقافة الشعبية، التي انغرست في اللاوعي الجماعي.

«يا مستعجل وقف لقلك»


قدمتها الفرقة السورية، وهي كوميديا في فصل واحد، أخرجها تيسير السعدي، ملخصها: أن كلاً من: أبو إبراهيم، إبراهيم، أبو رشدو، أم كامل، وأبو صياح كانوا قد اتفقوا على الاجتماع في منزل أبو فهمي، للذهاب إلى منزل الشاب الذي تقدم لابنة أبو إبراهيم، ويصل الجميع إلى منزل أبو فهمي الذي يرجوهم انتظاره، مرة ليرتدي ثيابه، ومرة ليخيط زر الجاكيت، ومرة ليغلق باب سطح المنزل، ومرة كي يحلق ذقنه، وأخيراً كي يأكل بعد أن أتى بصحن مليء باللبن، وهنا يضيق أبو رشدو به ذرعاً، ويأخذ الصحن ويقلبه على رأسه، وهنا يأتي أبو فهمي بالخبز، ويبدأ بأكل اللبن على وجه أبو رشدو، وعندما تبدأ الستارة بالنزول يتوجه أبو فهمي إلى الجمهور قائلاً: تفضلوا كلوا معنا! وقد قدمت الفرقة التمثيلية في عام 1957، من تأليف حكمت محسن وإخراج تيسير السعدي.

«الكرسي المخلوع»


حيث اعتمد الإضحاك فيه على تكرار وقوع الشخصيات أرضاً عند جلوسهم على الكرسي ذي الثلاثة أرجل في منزل أبو فهمي، قُدم العرض في بيروت ودمشق والقاهرة أثناء فترة الوحدة (1958-1961)، وتم تكريم كل من حكمت محسن وتيسير السعدي عدا عن الاستقبال الجماهيري في الإسكندرية للفرقة.

«مرايا الشام»


تحكي كل حلقة منها قصة فنان حكواتي، ملحن، ممثل، راقصة... إلخ، إضافة إلى الاستقاء من التاريخ وحكايات «ألف ليلة وليلة» والسير الشعبية، وقد تهافت الناس على تناقل نوادر شخصياته كما كانوا يتناقلون نوادر جحا من قبل، فقد كانت متصلة بالواقع الإنساني، الغني بالأغاني والمراثي الشعبية والمأثورات والحكم والأمثال.

لقد نجح حكمت محسن بالقص الواقعي، وابتكار شخصيات غير مثالية، حيوية ومتماسكة، غير نمطية، متصلة بزمان ومكان القصة، تعبّر أقوالها وتصرفاتها عن صفاتها، وتقدّم مثالاً قوياً للمجتمع سلباً كان أم إيجاباً، بني نجاحها أو فشلها على جهدها وتفكيرها، لا تنفصل عن التجربة اليومية العادية، وحبكتها متقنة فيها ابتكار وتشويق، مقنعة، تحفّز الخيال، وتثير الفضول، وتتضمن مغامرات، تؤثر على أفكار وأفعال ومشاعر هذه الشخوص التي تتجه نحو نهاية جذابة.

رسّخ حكمت محسن عادات شعبية أصيلة، مستخدماً المعتقدات التي تتجسد في الطقوس الشعبية، فحفظها لنا، ونظم القصائد بإيقاع وبأسلوب عامي، فإذا ما صاحبتها موسيقى أصبحت أغنية شعبية، وإذا ألقيت بطريقة انتقادية ساخرة أصبحت مونولوجاً شعبياً، يتذوّقه المتلقي، يحفظه، ويساهم في نشره، وبهذا تكون الدراما الشعبية قد ساهمت بشكل كبير في إثراء الثقافة، والتحريض على النقد والتفكير والتأمل، وتقييم المواقف، ما ألهم كل فنان شعبي ليحذو حذوه، مثل نهاد قلعي وأحمد قبلاوي.


«العصابة»


استطاعت شخصية «أبو رشدي» في تمثيلية «العصابة»، بصدقها، أن تمثل الرجل الدمشقي المحترم الذي يقول الحق، فيُسدي إلينا النصح، وكان لانتقالها من الإذاعة إلى التلفزيون أكبر الأثر في ذاكرة الأجيال، حيث تشبه الحبكة إلى حد بعيد حبكة رواية «البؤساء»، لفيكتور هوغو، حيث يسرق جان فالجان رغيف خبز، وتلاحقه الشرطة، لتفترق العصابة عنه، عند اعتراف أبو رشدي للشرطة بأن لديه عصابة، ويعرف وكرها، يأخذهم ليدلهم عليها، ويصل معهم إلى دار فقيرة، ليروا عائلة كثيرة الأفراد نائمة تفترش الأرض ويقول لهم هذه هي العصابة.

لقد قدّم حكمت محسن، تاريخاً للعلاقات الاجتماعية القائمة بين أفراد الشعب، سواء كانت بين الجنسين أو بين الأجيال وما يرتبط بهم من سمات سلوكية معينة خلال تفاعلهم، فربط التراث المحلي بالتراث الشعبي العام، الخاص بالمجتمع الأكبر، عرّف بالمواقف والظروف والمناسبات التي تستخدم فيها التمثيلية الشعبية، وما تحتوي من مغزى وقيم اجتماعية، وكيف ترتبط تلك العناصر بالسلوك اليومي للأفراد بحيث تدل على أكثر السمات والقيم والتي يمكن استخلاصها من تلك المأثورات المرتبطة بالسلوك، فالتمثيلية الشعبية هنا تقدم صورة متفردة للمجتمع أو للشعب من الباطن وليس من الخارج أو الظاهر.

«الطلعة من ورا...النّزلة من قدّام»


أسس حكمت بعد عودته من لندن «الفرقة السورية للتمثيل والموسيقى» بالتعاون مع تيسير السعدي، أنور البابا، فهد كعيكاتي، وقدّم لإذاعة دمشق تمثيليات اجتماعية ناقدة، تجاوز عددها 800 حلقة إذاعية: «الخطّابة»، «طاقية الإخفاء»، «متعب أفندي»، «تحت الشباك»، على مسرح دار الإذاعة.

كما أن أغنية «الطلعة من ورا...النزلة من قدام»، والتي قُدّمت في برنامج «نهوند»، ساعدت على تنظيم الصعود والنزول إلى الباصات بيسر، إضافة إلى تأثر العائلات إيجابياً بالمفارقات الكوميدية في تمثيليات حكمت محسن، فمن كان على خصام مع زوجته وعائلتها، وجد في الضّحك حلاً لمشكلاته، لاسيّما وأنّ الضّحك ثمرة للفهم، والصّدق مع الذّات والتسامح.


«مذكرات حرامي»


أحدث حكمت محسن فيها نقلة نوعية لمعالجته مشكلة اجتماعية في قالب بوليسي، واكتملت تلك النقلة حيث تم تحويله إلى مسلسل تلفزيوني عام 1968وقام بإخراجه علاء الدين كوكش، وقام بدور البطولة: عبد الرحمن آل رشي، هاني الروماني، عمر حجو، سلوى سعيد، شاكر بريخان، وآخرون، حيث نال نجاحاً ومتابعة جماهيرية واسعة.

فرقة المسرح الشعبي


نزولاً عند رغبة مديرية الفنون في وزارة الثقافة، أسس حكمت محسن وعبد اللطيف فتحي عام 1959 «فرقة المسرح الشعبي»، وفي عام 1960 شكل «فرقة المسرح القومي»، حيث قدّم حكمت محسن أول عروضه عن نص لأريستوفان، كان قد اقتبسه توفيق الحكيم وتم عرضه في 25 شباط 1960، ثم قام بتشكيل «فرقة أمية للفنون الشعبية»، و«فرقة مسرح العرائس»، واقترح حكمت محسن أن تقدم فرقة المسرح الشعبي التابعة لوزارة الثقافة عروضها في كل حي دمشقي، ألهمه وأثرى مخيّلته بالتمثيليات والأغاني والحكايات، فبينما كانت مسرحية أريستوفان تعرض على خشبة المسرح القومي، عرض حكمت محسن «بيت للإيجار» على خشبة مسرح المقاومة الشعبية في سوق ساروجة، ثم في أحياء الميدان والقنوات والمهاجرين وغيرها من أحياء دمشق الشعبية.

ونظراً لحدوث صراع بين النخبة المثقفة التي لا تريد إلا مسرحاً كلاسيكياً، وبين المسرح الشعبي، تمت إعاقة مشروع المسرح الشعبي، إلى أن صدر قرار دمج المسرحين معاً عام 1969، حيث خلع عبد اللطيف فتحي رداء «صابر أفندي» ليؤدي دور «الملك لير» على خشبة المسرح القومي، لكن حكمت محسن لم ينصع لهذا الأمر، بل حاول تأسيس مسرح خاص به، مبقياً على الاسم ذاته، مؤكّداً احترامه العميق لهذا الفن، وكتب مسرحية «الأب»، دون أن يتمكّن من تجسيدها على الخشبة، لنقص في التمويل.


«مأوى العجزة»


كتب منها حلقة واحدة، لكنه لم يتمكن من إكمالها بسبب اشتداد المرض عليه ومن ثم رحيله.

صناعة الكاراكترات وأثرها


كان حكمت محسن الرائد الأول في صناعة الكاراكترات الكوميدية السورية، وأهمها على الإطلاق كراكتر «أم كامل»، التي تجسد شخصية امرأة ختيارة، قهرمانية، لها طريقة خاصة في الكلام، والضحك، والمماحكة.

الفنان أنور البابا في شخصية أم كامل

يُعتبر حكمت محسن مؤسس الدراما الشعبية السورية إذاعياً ومسرحياً وتلفزيونياً، والذي قدم على مدار أكثر من خمسين عاماً من القرن الماضي الكثير من الروائع التي كانت تحاكي وتترجم الواقع الاجتماعي، وقد حفظ تراث هذا الفنان الكبير في أرشيف الدراسات الشرقية في باريس.

إلى جانب أم كامل، برز كراكتر «أبو فهمي»، وهو رجل بخيل، ثقيل الظل، غبي ولكن غباءه مخلوط بكثير من الخبث، وكاراكتر «درة» وغيرها.‏

قال له أحد أصدقائه ذات يوم: «يا أستاذ حكمت، أنت تكتب كل يوم تمثيلية، يا أخي من أين تأتي بكل هذه القصص؟‏»، فأشار بيده إلى سيل البشر العابرين أمام الدكان وقال: «انظر إلى هؤلاء الناس! هدول، بقى سيدي، كل واحد منهم قصة، وكل واحد منهم حكاية، وطالما أنهم يمرون من هنا، لا تخف على حكاياتي من النضوب»، و«خلف كل باب قصة».‏

استمر طيف تأثير حكمت محسن، حتى بعد وفاته بعقود، فقد استعار المخرج سمير ذكرى في فيلمه «حادثة النصف متر» شخصية «أبو فهمي» بأداء الفنان فهد كعيكاتي ذاته، ولكن كبائع حبال في أحد أسواق دمشق القديمة، حيث يأتيه بطل الفيلم، المتأزم نفسياً وعاطفياً، عقب نكسة حزيران، ليشتري متراً من الحبال، فيظل أبو فهمي ببرودته المعهودة يسأله عن نوع الحبل، ولماذا سيستعمله، حتى يُصرّح البطل بأنه يريد متراً واحداً لينتحر، فينصحه أبو فهمي ببخله المعهود فنياً ، بشراء متر ونصف، والأفضل مترين «من شان العقدة....بابا».

ثم إن الفنان فهد كعيكاتي ذاته، أدى قبيل وفاته شخصية «أبو جندل» في مواجهة الفنانة سامية الجزائري «أم جندل» لكن من دون ابتعاده، ولو مسافة عقدة حبل، عن لبوس شخصيته السابقة والمديدة: «أبو فهمي»، التي ابتكرها حكمت محسن مطلع خمسينيات القرن الماضي.

طوال تعاونه معه مسرحياً من خلال الفرقة السورية للتمثيل والموسيقى، وفي إذاعة دمشق، ثم في التلفزيون، مشى نهاد قلعي، في كتاباته التلفزيونية كلها، على الخط الفاصل بين الكوميديا الحقيقية والتهريج، ولم يهوِ باتجاه التهريج قطّ، وهذه مهارة منه تستحق الثناء والغبطة.‏ كما أدرك نهاد قلعي، بوصفه مؤلفاً مبدعاً للنصوص الكوميدية التي يكتبها، أهمية صناعة الكراكترات الكوميدية، لاسيما وأنه تربى، على دفء أعمال حكمت محسن الإذاعية وروعتها. وبعد أن أوجد الركيزتين الأساسيتين لشغله كراكتر «غوار الطوشة» وكراكتر «حسني البورظان»، وجد أنها بحاجة إلى كراكترات مجاورة لها، يحمل كل واحد منها نوعاً خاصاً من الفكاهة، فأوجد كراكتر «أبو صياح»، ابن البلد الزكرتي الشجاع (الفنان رفيق سبيعي) و«فطوم حيص بيص» المرأة الساذجة التي تحاول أن تتكلم الفصحى وتجاري المثقفين (الفنانة نجاح حفيظ)، و«ياسين» الغبي المغفل الذي يمكن أن يُضحك عليه بسهولة (الفنان ياسين بقوش)، و«عبدو» (الفنان زياد مولوي)، و«أبو عنتر» (الفنان ناجي جبر)، وانضم إليهم في أعمالهم المسرحية الفنان المبدع الكوميديان الحلبي عمر حجو.‏ وكان أن وجد في تلك الفترة فنان يتحدث بلهجة أهل دوما هو «أبو شاكر» ، وفنان يتأتئ حينما يتحدث هو سليم حانا.‏


من شخصيات حكمت محسن:
أبو فهمي (فهد كعيكاتي) وأم كامل (أنور البابا)

ليس الفن للفن ولا الضحك للضحك


لم يكن الفن عند حكمت محسن فقط للفن، ولا الضحك للضحك، بل كان محصلة لكفاح يومي، وطني وإنساني، يؤمن به ويتبناه، ويعبر عنه بكل ما يملكه من موهبة، فكتب في عام 1961مسرحيته الغنائية، الأقرب إلى الأوبريت «يوم من أيام الثورة الفرنسية»، مبرهناً على أن موهبته ليست إلا امتداداً لأهداف الأمة والوطن، فقد اختار يوم معركة جسر تورا في دمشق، والتي عجز فيها الفرنسيون عن دخول غوطة دمشق عبر فرع من نهر بردى لا يتجاوز عرضه المتر، بفضل بسالة الثوار، فقدم حكمت محسن في هذه المسرحية تراثاً سورياً شاملاً من خلال مشاركة الثوار القادمين من كل المحافظات السورية في دبكات وأغاني النصر، حيث قام بالتوزيع الموسيقي الموسيقار صلحي الوادي.‏

مقص الرقابة


لم ينج مسلسل حكمت محسن الإذاعي «مرايا الشام» من مقص الرقابة الذي كان يتدخل في كل شاردة وواردة، سائلاً حكمت عن المعاني الخبيئة وراء السطور، حاذفاً، شاطباً، فانتقل بعد ذلك إلى العمل في وزارة الثقافة بصفة مستشار فني، وتردى وضعه الصحي فأصيب بارتفاع ضغط دائم، ثم بتصلب في الشرايين عام 1966، أدى إلى تعرضه إلى جلطة دماغية، نجا منها على هيئة شلل نصفي.

خمس دقائق تأخير ووفاته


اختلف حكمت محسن مع إدارة الإذاعة التي لم تقدر تلك الموهبة الكبيرة حق قدرها، فوجّهت إليه عقوبة خصم 10% من راتبه بسبب تأخّره خمس دقائق عن الدوام الرسمي، حيث كان تيسير السعدي رئيس دائرة آنذاك، فوصل كتاب العقوبة إليه، وعندما رأى حكمت محسن الكتاب وقرأه، لم يقل شيئاً، ولكنه نظر إليه ملياً ثم التفت خارجاً من المكتب، ومن يومها صمت ولم يعد للكتابة، حتى أصيب عميد الأدب الشعبي، حكمت محسن (أبو رشدي)، بالفالج ومات، يوم 19 كانون الأول 1968.

الخاتمة


صحيح أنّ حرفة التّنجيد قد اندثرت نوعاً ما بفضل غزو الفرش واللّحف الصّناعيّة للبيوت، وبات القوس الخشبي يلوذ بالفرار إلى متحف الشّعوب، لكن فنّ المبدع حكمت محسن لا يموت، وكما عادت هذه الحرفة إلى غزّة لتثبت نفسها من جديد بعد الحصار، فلا بدّ أن نحيي فن حكمت محسن، لتطّلع عليه الأجيال الجديدة، آملين بتخليده في كتاب ما، ولو كُتِب باللّهجة العاميّة، التي هي في الحقيقة، ليست إلا جسد الأمة، في حين أن رأسه هو اللغة العربيّة الفصحى، فمّن يتخلّى عن جسده ليبقي رأسه سليماً؟ ومَن ذا الذي يتخلّى عن رأسه حيّاً، بمنأى عن جسده؟
فلم نخاف من التّراث الشّعبي مكتوباً باللّهجة العاميّة؟ ولم لا يكون أنموذجاً للكوميديا في المسرح المدرسي؟