يوحنا الدمشقي

يوحنا الدمشقي

نجم الأسبوع

الاثنين، ٦ يوليو ٢٠١٥

مقدمة

جاء يوحنا الدمشقي في منعطف تاريخي كبير شهدته المنطقة، وكان هذا المُنعَطَف انطلاقةَ تحوّل في وجه العالَم العقائدي والسياسي شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. ليس هذا فحسب، بل جمع الدمشقي في ذاته وحدة الكنيسة، فهو قديس في الكنيستين الكبيرتين الأورثوذكسية والكاثوليكية، وكلتاهما تستلهمان تعاليمهما اللاهوتية وأناشيدهما الدينية منه، ولذلك حُقّ فعلاً تسميته بـ «دفّاق الذهب». إذن، فقد شكّل الدمشقي عقدة تاريخية هائلة، استطاع أن يجمع من خلالها أول لقاء مسيحي إسلامي غلب فيه طابع العروبة والتسامح الديني والأخوة التي لا تعرف التفرقة الدينية، وأيضاً جمع من خلالها الكنيسة في وحدتها وألقها الأول، من حيث كانت هي الأخرى موشكة على دخول منعطف جديد وانقسام كبير مع غروب آباء الكنيسة الشرقية. لقد حمل في ذاته إرث دمشق الحقيقي، أو فلنقل وجه دمشق الحقيقي، والحقيقة أن لقبه «دفّاق الذهب» هو أحد تسميات نهر بردى، نهر مدينته سابقاً. لم يكن إغريقياً – وإن كتب باليونانية – بل هو بحسب المؤرّخ فيليب حتّي، آرامي اللسان، وسليل عائلة دمشقية مسيحية اشتهرت بالفضل والفضيلة، وقد خَلَفَ يوحنا أباه وجدّه في إدارة المالية في الدولة العربية الأموية، وبقِيَ مشرفاً عليها حتى خلافة هشام (724-743م)، حين اعتزل الإدارة وانصرف إلى حياة الزهد والتعبّد في دير القديس سابا القريب من القدس الشريف، فقضى فيه ما تبقّى من حياته راهباً وكاهناً مكرِّساً ذاته لبحوث لاهوتية عميقة. وقد اشتهر بدفاعه العظيم عن إكرام الأيقونات المقدسة في عهد الأباطرة محطّمي الأيقونات، ولا سيّما لاون الإيصوري وقسطنطين الخامس الملقّب بالزبلي. أما عمله البارز فكان عرضاً شاملاً للعقيدة المسيحية، وموسوعة لاهوتية حقيقية لخّص فيها بعد جهد شخصي فريد تعاليم الآباء اليونان كلها. وقد عرف القديس توما الأكويني هذه المحاولة الأولى للطريقة المدرسية واستشهد بها. وقد ترك القديس مؤلفات أدبية وزهدية، وكان خطيباً بليغاً تميّزَت عظاته بالتقوى، والغِنَى العقائدي. كما لا ننسى عمله كمنشِد، أي قوانينه، وأناشيده الطقسية ولاسيما تلك اللؤلؤة الشعرية الفريدة «قانون عيد الفصح».


مقدمة تاريخية


أن نتكلّم عن القدّيس يوحنا الدمشقي، يعني أن نتكلّم عن تاريخ دمشق الحقيقي بشكل خاص، وتاريخ سورية كله بشكل عام، فهذا القدّيس، رجل الدولة الكبير، هو الذي دشّن الوجود العربي الإسلامي في سورية، أو أن الوجود العربي الإسلامي في دمشق هو الذي دشّن حضور قدّيس كهذا. كان حفيد منصور بن سرجون، والذي كان يشغل منصِب مدير المالية العام، وجعلَه الإمبراطور البيزنطي موريق (موريس) حاكم دمشق. وأبقاه هرقل في منصبه بعد اجتياح الفرس، وبعد أن أرغمه على دفع مئة ألف دينار.

أعجَبُ لتاريخ سورية فهي منذ الأزل كانت وما تزال مركز صراع للقوى العظمى في التاريخ، فآنذاك كانت القوتان العظميان اللتان تتصارعان للسيطرة على سورية هما الإمبراطورية الفارسية، والأخرى البيزنطية، ودائماً كان الشعب، وشعب دمشق خصوصاً، هو الذي يدفع الثمن باهظاً سواءً من حيث المال أو الأرواح أو الدمار.

ولكن، المفاجأة الباهرة التي لم يكن ينتظرها التاريخ، والتي لم تكن بالحسبان، والتي غيّرَت من موازين القوى كلها في العالَم آنذاك، أتت من الجزيرة العربية، وليت العرب يفطنون لتلك الرسالة الهائلة التي حملها المسلمون الحجازيون إلى التاريخ والتي غيّرَت من معالم العالَم آنذاك، وكانت نقطة تحول في التاريخ الإنساني بشكل عام، فبعد أن توحّدَت صفوف القبائل في جيش موحّد ضمن خلافة الدولة الراشدية، ظهر الجيش العربي الإسلامي الذي كانت انطلاقته من الحجاز إلى الشمال الذي كانت تسيطر عليه بيزنطه، على الرغم من أن القبائل التي اعتنقَت المسيحية آنذاك كانت بأغلبها من أصل عربي. فالقبيلة الأكبر أو تحالف القبائل الأكبر المنتشِر في بلاد الشام كان لقضاعة، وهي قبيلة عربية جنوبية من قبائل حمير بن سبأ، قطَنَت شمال الحجاز بين العراق وسورية ومصر، ومن فروعها: بُلي، جهينة، كلب، بهرا، نهد، جرم. وكانت المسيحية منتشِرة فيها، وجمعَ تحالف القبائل هذا من بين أبنائه أفخاذاً متحضّرَة، وأفخاذاً رحّالة بدواً، وكانت قبيلة كلب أهم أفخاذ هذا التحالف، واستوطنَت في القلمون قرب دمشق، وألّف أبناؤها معظم سكان المزة المتاخِمَة للمدينة، والتي عُرِفَت لزمن طويل باسم «مزة كلب»، وكانت هذه القبيلة قد اعتنقَت المسيحية ديناً في مرحلة مبكرة جداً. كان أبناء هذا التحالف من القبائل (قضاعَة) يعتبِرون القديس سرجيوس شفيعهم، وكانوا يستخدِمون هذا الاسم بصيغة «سرجيُس»، وأحياناً «سركيس»، وأحياناً بصيغة التصغير «سرجون».

أما آرام (أو بلاد الشام بصيغة اسمها العربي) فكانت تعاني دائماً من وفرة في الثقافة والحضارة، ونقص مريع في القدرة على إنشاء دولة مركزية، وكانت آرام ممزّقَة بين آرام دمشق، وآرام حماة..الخ، حتى جاء الفرس الذين سيطروا على الشرق أيضاً، ومن ثم جاء الإسكندر المقدوني الذي اندفع من مقدونيا وصولاً إلى الهند، ولم تقاوِمه الشعوب الخاضعة للإمبراطورية الفارسية آنذاك!!

بعد الإسكندر جاء الرومان، ولكن أهل بلاد الشام استطاعوا مد نفوذهم إلى روما حين أرسلوا بعدد من أبنائهم ليصبحوا أباطرة عليها، وحصلوا على حق المواطنة الرومانية في تحالف الديكابوليس الشهير، وفي المشاركة الفعلية في الحضارة الرومانية بمهندسيهم أمثال أبولودور الدمشقي وشعرائهم وكتّابِهم. ومع ذلك فالحلم بدولة مركزية لم يفارق آرام الشام، حتى أتت زنوبيا لتحقق هذا الحلم في تدمر العظيمة، ما استدعى أن تأتي روما بكل آلتها العسكرية كي تمزّق تدمر وحلمها، ثم جاء الأنباط وصنعوا ما يشبِه الإمبراطورية، فمزّقَتهم روما شرّ تمزيق. لكن آرام كانت أقدر على الثقافة والحضارة منها على تشكيل دولة مركزية، واستطاعَت أن تنشر لغتها الآرامية في العالَم المتحضّر آنذاك.

إحدى الأيقونات

إذن، جاء دور العرب الحجازيين، وأتى المُنعطَف والتحول التاريخي العالَمي في المنطقة والعالَم بأسره، وانطلاقاً من دمشق أيضاً، فكما كانت انطلاقة المسيحية منها، كذلك كان انطلاق الإسلام أيضاً، فلقد استيقظ الآن الحلم الشامي في دولة عربية لا يحكمها فارسي ولا رومي. هكذا، اجتاحَت الجيوش العربية تحت إمرة يزيد بن أبي سفيان بلاد فلسطين سنة 634، ولاقت في 4 شباط في داثينا جيوشاً جمَعَها على وجه السرعة سرجيوس شقيق هرقل، فانهزم البيزنطيون. ثم استعد الخصمان مدّة أشهر لاستئناف الحرب، واستعانَ قادة الطرَفَيْن بإمدادات جديدة، فتألّف على عجل جيش بيزنطي أسرعَ إلى حوران للدفاع عن طريق الشمال. وجاءت مفارز عربية تحت إمرة خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح، فاجتازَت الصحراء وانضمّت إلى جيوش يزيد. وكان المسلمون أسياد سورية الجنوبية. فتقدموا نحو الشمال بعد أن تجمّعوا، والتحموا مع البيزنطيين في أجنادين (30 تموز 634)، وارتدّ المندحرون نحوَ دمشق. وقد ارتأى سرجيوس قائد الجيش المنهزِم أن يتّجه بسرعة نحو حمص فأنطاكية. في هذه الأثناء كانت قبائل عربية مسيحية كثيرة قد ضاقَت ذرعاً بحكم بيزنطة القاسي، مثل تحالف قضاعة الذي أتينا على ذكرِه، وكان هناك أيضاً قبيلة إياد العربية التي تفرّقَت بين الشام والجزيرة العربية والروم، وأخيراً، نأتي على ذكر قبيلة تغلب العربية التي يعود إليها أصل منصور بن سرجون المسيحي جدّ قدّيسنا، والذي شغل منصِب مدير المالية العام كما ذكرنا، وعيّنَه الإمبراطور البيزنطي (موريس) حاكم دمشق وأبقاه هرقل في منصبِه بعد اجتياح الفرس. والسؤال هنا: لماذا نعود إلى ذكر منصور بن سرجون هذا؟!

إنه جدّ قدّيسنا يوحنا الدمشقي، وكان له الدور الأكبر في هزيمة البيزنطيين على أيدي العرب نهائياً في موقعة اليرموك، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد لعِبَ الدور الرئيسي في تسليم المدينة، وهكذا فقد كان هذا التغلبي العربي ممثلاً لقبائل عربية مسيحية كثيرة ضاقَت ذرعاً بحكم بيزنطة القاسي، والتي اشتدّ اضطهادها لكثيرين من الفرق المسيحية بعد المجمَع الخلقيدوني آنذاك، ومن ذلك أنها أنهكتهم بكثرة الضرائب، وكان منصور بن سرجون رجلاً حكيماً، فلم يشأ ترك مدينته تحت الحصار ثم الدمار، فنقَلَ ولاءه من بيزنطي غريب، وإن اتّفقَ معه في الدين، إلى ابن عم عربي، وإن اختلف معه في الدين.

فبموقفه الحكيم هذا والعربي بأصالَة، لم يتوقف فعل منصور بن سرجون على إنقاذ دمشق فحسب، بل أعطاها هويتها العربية الحقيقية من جهة، وجعلَها حاضِرةً أو عاصمة أعظم إمبراطورية إسلامية عرفَها التاريخ في ذلك الوقت، كما أنه جسّد اللقاء المسيحي-الإسلامي، والتعايش المشترَك، والأصل الذي ربطَهم معاً وهو الأصل العربي، وعن هذا التعايش، وهذا الانفتاح، وهذا التسامح، ازدهرَت الإمبراطورية العربية، وتفتّحَ الإسلام كزهرة ياسمين دمشقية، أو زهرة أقحوان في العالَم أجمع من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه.


سكان دمشق


يؤلّف الآراميون عنصر السكان الأساسي في مدينة دمشق، وقد أصبحوا هلّينيين زمن احتلال السلوقيين لدمشق، وتطبّعوا فيما بعد بطابع الحضارة اليونانية وثقافتها. وانضمّ إلى هذا الأساس الآرامي الهلّيني جالية يونانية من جنود ومدراء وتجّار استقرّوا في المدينة بسبب أعمالهم، وتسرّب إليها بعض العرب منذ احتلال الأنباط لها. كما أن سيطرة الغساسنة على المنطقة وإقامة قبائل كثيرة في المرج أو على الهضاب المجاورة زادت من هذا العنصر العربي، فاندمج مع العنصر السائد وأخذ ثقافته وحضارته.


مدينة دمشق آنذاك


كانت دمشق محاطةً بسبعة أبواب على الأقل، وتزوِّد المدينةَ بماء الشرب قناة تلجها من الباب الغربي. وكانت المباني العامّة والساحة العمومية والأوديون والمسرح في بعض الظروف تزدحم بجمهور الشعب، أما مبنى المدينة الرئيسي فكان كاتدرائية يوحنا المعمدان، وقد حلّت في عهد الإمبراطور تيودوسيوس مكان «هيكل جوبيتر الدمشقي القديم والكبير جداً أسماء 35 إلى 40 منها، ما عدا الكنائس التي قامَت في الضواحي خارج الأسوار، وأكثرها يخصّ الملكيين.


الجامع الأموي


«إن زائر الجامع الأموي الآن حين يصِل إلى ضريح النبي يحيى، فيرى المسلمين والمسيحيين يقدّمون نذورَهم وأدعيتَهم إلى النبي يحيى (يوحنا المعمدان)، فإنه يُدهَش لهذا التعايش. فهذا الجامع الذي يجمع المذاهب والأديان في معبد واحد، ظاهرة لا مثيل لها في العالَم كله، ولن تجدَها في معبد مسيحي آخَر، ولا معبد مُسلِمٍ آخَر...».


أصل عائلة يوحنا الدمشقي


نقَلَ إلينا المؤرّخون اليونانيون والسريان والعَرَب اسمه على هذا الشكل: «منصور بن سرجون» وهو اسم شائع بين مسيحيي سورية العرَب، ويحمل اسم منصور مسيحيون من قبيلة إياد.

أما اسم سرجيوس فكان شائعاً بين المسيحيين الناطقين بالضاد إبان الحكم البيزنطي، استعملوه بصيغة «سرجيس»، ونادراً «سركيس»، وأحياناً بصيغة التصغير «سرجون» أو «سرجه». أما استمرار اسم سرجون في أسرة الدمشقي فيحملنا على الاعتقاد أنها من أصل تغلبي.

استوطنَت أسرة المنصور دمشق قبل القرن السادس الميلادي، ويخبرنا ابن البطريق أن منصوراً شغل مركز مدير المالية العام، لا بل جعله الإمبراطور موريق (موريس) حاكم دمشق، وأبقاه هرقل في منصِبِه بعد اجتياح الفرس، وبعد أن أرغمه على دفع مئة ألف دينار.


نفوذ عائلة منصور


لدى موت يزيد انتقل حق «الولاء» إلى أخيه معاوية ثم إلى يزيد بن معاوية. ولعل وفاة المنصور كانت في أواسط القرن السابع. ويخبرنا الأب لامنس على أن المنصور اعتزل في دير القديسة كاترينا في سيناء بعد تسليم دمشق، وألّف هناك كتاب «شرح الزامير» المنسوب إلى أنستانيوس السينائي. ويضيف المخطوط إلى معلوماتنا أكثر من ذلك، فيشير إلى أن منصور هو نفسه أنستانيوس السينائي بعد تغيير اسمه كنسياً، وأنه هو الذي كتب شرح «المزمور السادس».


خلافة معاوية


في الحقيقة لم يتميز أيٌّ من الخلفاء بما امتاز به معاوية من المواهب التي جعلَت منه مؤسس الإمبراطورية، حتى أن المبرزين من خلفائه اقتصروا على الاقتداء به.


إقصاء سرجون عن منصبه


كان سرجون بن المنصور (والد القديس) مكلفاً بديوان الشام في عهد عبد الملك بن مروان، وقد يكون سرجون بن المنصور اقترف تقصيراً في واجباته، وتباهى بعمله وثقافته، مما أثار استياء الخليفة، وصمّمَ عبد الملك على استبدال اللغة اليونانية بالعربية في ديوان المحاسبة، وعُيِّنَ - بحسب ابن عبد ربه - سليمان بن سعد ليخلف سرجون.

وهكذا عندما شارف سرجون بن المنصور على الوفاة ومات، ولّى عبد الملك مكانه سليمان بن سعد، وهو أول مسلم تولّى الدواوين كلها، وأبدل اللغة اليونانية بالعربية، وكانت وفاة سرجون في أواخر سني عبد الملك، وقد ناهز الثمانين من العمر على الأقل، وقضى ستين سنة في خدمة الخلافة.


القديس يوحنا الدمشقي



حياة يوحنا الدمشقي



المحيط العائلي للقديس يوحنا الدمشقي ومولده


وُلِدَ يوحنا في دمشق. ولُقِّبَ بالدمشقي إشارة إلى مسقط رأسه، ولُقِّبَ بـ «دفاق الذهب» أو «ناقل الذهب»، وهو اسم لنهر بردى، نهر مدينته، لما تحوي مؤلفاته من كنوز روحية ثمينة. وقد تم تحديد مولده بين سنتي 670 و680 م.


اسمه


قد يكون حمل اسمين أحدهما يوناني (يوحنا) والآخر عربي (منصور) وقد دعاه ابن العبري «كوريني بن منصور»، أما الكتبة الأقباط فدعوه «ينَح بن منصور» أما أبو الفرج الأصفهاني فاكتفى بـ «ابن سرجون».


حداثته


بدَت عليه منذ نعومة أظفاره إمارات النجابة ورجاحة العقل والقلب التي تجلّت في كتاباته. وقد وفّر له والده قسطاً قيّماً من الثقافة العالية يتناسب مع ثروته ومكانتِه الاجتماعية. وعلى الرغم من وجود مدارس دمشق المسيحية، فقد آثرت الأسر الغنية أن تعهَد إلى معلمين خصوصيين بتربية أولادها وتثقيفهم. وقد اختار سرجون معلماً لابنه – بحسب شهادة ميخائيل الراهب ومن أخذ عنه – أسيراً مسيحياً من جزيرة صقلية اسمه قزما، وقام هذا الصقلي بتدريس تلميذه اللامِع مراحل العلوم المعروفة آنئذ كلها، خلال مدة قصيرة.


قزما الصقلي أستاذ يوحنا


كان قزما رجلاً كاملاً طويل الباع في العلوم، وصل إلى دمشق مع فريق من الأسرى المعدّين للبيع وقد ألقى القراصنة عليهم القبض، وكانوا يقطعون رأس كل أسير لا يُباع. وكان المسيحيون المعدّون للإعدام ينطرحون على قدمي قزما الراهِب الفيلسوف، قبل ذهابهم إلى الموت، ويتوسلون إليه أن يلتمس الرحمة الإلهية لينالوا نعمة الصبر في المِحَن، والمغفرة ساعة الموت. فدُهِشَ القراصنة من مظاهر الإجلال هذه وتقدّموا من قزما، وسألوه «هل أنت بطريرك النصارى؟»، فأجابهم: «لستُ بطريركاً ولا رئيساً بل راهباً حقيراً فيلسوفاً».

تلقّى يوحنا تربيته وثقافته مع أخيه بالتبنّي المسمّى قزما أيضاً، وهو أورشليمي المحتد، وقد تيتّم باكراً، فتبنّاه سرجون وشارك يوحنا حياته العائلية والتربوية. وتفسّر لنا هذه الحياة التربوية والثقافية المشتركة تلك الروابط الحميمة التي جمعَت في ما بعد هذين القديسين، حتى بعد اعتلاء قزما سدّةً ما في مقبل الأيام.


الثقافة في عهد الأمويين


لم يفصِل المسلمين عن المسيحيين من أصل عربي أية روح تفرقة أو تحزّب حتى عهد المروانيين الأوائل. وقد حفظ التاريخ أسماء مسيحيات عديدات تزوّجن من مسلمين، واحتفظن بحرية ممارسة دينهن. وأخبرنا يعقوب الرهاوي أن الإكليركيين قاموا بمهمة التعليم والتهذيب في عائلات الأمراء الإسلامية، كما يُقال أن يزيداً نفسه، وَكَلَ أمر تثقيف ابنه خالد إلى الراهِب المسيحي مريانس، وإن عبد الملك عهد إلى أثناسيوس الرهاوي المهمة نفسها. إن ميل معاوية إلى المسيحيين وعشرة ابنه المسيحية تحملاننا على الاعتقاد أن يزيداً وليّ العهد ويوحنا بن سرجون وزير المالية نهلا ثقافة مشتركة في بعض المواد. وهكذا استفاد يزيد من تعليم أساتذة الدمشقي واقتبس عنهم الثقافة العلمية التي جعلَت التقليد يلقّبه بالمهندس. أما يوحنا فكان يتحسّس الشعر ويتذوّقه، وتهتز مشاعره لدى احتكاكه بشعراء الصحراء، وقد تأثرت بعض تآليفه بهذا الاحتكاك ولاسيما أناشيده وقوانينه، وقد اكتسب من تربيته الثقافية المشتركة معرفة القرآن الكريم والديانة الإسلامية.


ثقافة يوحنا الدمشقي


تثقّف يوحنا الدمشقي ثقافة عالية متقنة. فدرس – خصوصاً - الفلسفة اليونانية وطوّعَها لإيضاح العقائد المسيحية. وكانت اللغة اليونانية قد ظلّت لغة الإدارة كما بقيت لغة الأشراف المسيحيين، واحتفظت بأهميتها، فأقبل أولاد الأسر على درسها. ولما أدرك سرجون أن المسلمين سيفرضون عاجلاً أم آجلاً لغتهم العربية في المعاملات الإدارية، عمل على إضافة المنهج المعوَّل عليه في الأوساط الأرستقراطية الإسلامية في ذلك العصر إلى منهج الأسر الدراسي.


فتوة يوحنا


نشأ يوحنا ويزيد بن معاوية معاً، وتعلّق أحدهما بالآخَر. وعند انعتاقهما من قسر المربّي، كانا يتردّدَان تارة إلى قصر سرجون في بستان القط، وتارة إلى أحد الأماكن المحبّبَة إلى يزيد، إلى قرى ضاحية دمشق الخلاّبَة: دير مرّان، جلّق (الكسوة) ماطرون، وتارة إلى بيت الراس، ولا سيما إلى البادية حيث كانا يطلقان العنان لتسليات حفظ لنا المؤرّخون المسلمون ذكرها.


منصب يوحنا الدمشقي في الإدارة الأموية


شغل يوحنا منصباً رفيعاً في الإدارة الأموية. هذا ما أثبته ميخائيل الراهب واضع سيرته، والتراث الخاص بسِيَر القديسين، وبعض المؤرّخين المسلمين. وكتَبَ المؤرّخ ميخائيل: «وبعد ذلك توفي منصور (أي سرجون) وصار ابنه كاتباً لأمير البلد، متقدماً عنده، صاحب سرّه وجهره وأمره ونهيِه». وإذا صحّ أن سليمان بن سعيد مارس حقاً إدارة المالية، فيكون الدمشقي قد شغل وظيفة أمين السر الخاص، أمين سر القيادة.


استقالته من منصبه وتوجهه إلى الدير


في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز، استقال يوحنا من وظيفته ووزّع أمواله على المحتاجين والفقراء، وابتعد إلى الأبد عن ذلك المحيط الذي يذكّره بأيام شبابه، وترَف الحياة السهلة، وذهب وقرع باب دير القديس سابا.


القديس يوحنا الدمشقي

يوحنا في دير القديس سابا


كانت أول بدعة خاض الدمشقي صراعاً مقدساً ضدها هي بدعة محطّمي الأيقونات، وهكذا استعدّ يوحنا الدمشقي بالصلاة والتأمل والدرس للخوض في حلبة الدفاع والصراع المقدس.

مع بدء خلافة هشام بن عبد الملك (724-743)، شغر الكرسي البطريركي الأنطاكي بوفاة أثناسيوس اليعقوبي (702-742)، وأدار شؤون البطريركية على ما يبدو متروبوليت صور. وفي سنة 742، ولسدّ الفراغ الذي تركه أثناسيوس تم انتخاب اسطفانس الثالث الراهب السوري (وأليف الخليفة)، شريطة أن يقيم البطريرك في أنطاكية.


يوحنا وقزما في دير مار سابا


عندما وفَدَ كل من يوحنا وقزما إلى الدير، دعا الرئيس عدة رهبان من ذوي المهابة والوَقار عارضاً عليهم الاهتمام بإرشاد الوافدَين الجديدَين، فرفضوا كلهم معتبَرين أنهم غير أهل لأن يقودوا في طريق الكمال نفساً سامية مثل نفس يوحنا. أخيراً، قَبِلَ راهب جليل بار وبسيط هذه المهمة الدقيقة الخطيرة. ولما دخل يوحنا صومعة الشيخ الجليل بادر هذا إلى تلقينه منهج الحياة الجديدة وقال له: «يا بنيّ، أرغب إليك أن تُقصي عنك كل فكرة دنيوية وكل تصرّف أرضي. اعمل ما تراني أعمله، لا تتباهَ بعلومك. إن العلوم الرهبانية والنسكية لا تقل عنها، لا بل تعلوها مقاماً وفلسفة. أمِت ميولك المنحرفة، وتصرّف ضد ما يرضيك...الخ»، فأحنى يوحنا رأسه أمام مرشده وسجد احتراماً له، ووعد أن يحقق نصائحه كلها.

أخذ مرشد يوحنا المبتدئ في رهبانيته بامتحان طاعته، فنجح في الاختبار الأول،
وكان جار معلّم يوحنا الروحي، وهو راهب في مار سابا أيضاً، قد استولى عليه حزن شديد لوفاة أخيه، فلم يكفّ عن البكاء والنحيب كلّما تذكّر أخاه المتوفّى. فقصَدَ المعلم في أحد الأيام يوحنا، وتوسَّلَ إليه أن ينظم للراحِل مقطوعةً شعرية تسكّن أحزان الراهب الممتحَن بوفاة أخيه. فأجابه يوحنا المبتدئ في رهبانيته: «إني أتوقّى لائمة الشيخ معلّمي، وما اشترطَه عليّ في ابتداء رهبانيتي». فأجاب الراهب: «إني ما أبوح بها ولن أقولها إلا لنفسي منفرداً، ولدى إلحاح الراهب، ظنّ يوحنا أنه يصغي إلى واجب المحبة إذا لبّى رغبة الراهب فصاغ الطروبارية[1] الرائعة اللطيفة التي تُتلى حتى اليوم في رتبة الجنّاز: في الحقيقة كل ما في هذا العالَم باطل، والعالَم أيضاً كالظلّ والمنام. وباطلاً يضطرب كلُّ ابن التراب كما يقول الكتاب. لأننا ولو ربحنا العالَم، فلابد أن نسكن القبر حيث الملوك والفقراء معاً. فلذلك أيها المسيح أرح عبدَك المنتقِل بما أنك محبٌّ للبشر».

وفيما كان يوحنا جاداً في تلحين هذه الطروبارية، فاجأه مرشده: «أهكذا تفي بوعدك يا بنيّ؟ هل طلبتُ منك أن تترنّم بدلاً من أن تبكي؟». فحاول يوحنا أن يشرح لمرشده حالة الراهب جاره المفجوع واعتذر عن فعله، ولكنه لم يُفلِح بل طرده الشيخ المتصلّب من حضرته. فانصرف المبتدئ الحزين النادم ليبكي مخالفته.

ولكن ما حصل هو أن ظهرت العذراء في إحدى الليالي في الحلم للراهب الشيخ، ولامته على تصرفه مع يوحنا لأنه سدّ منهل المياه الغزيرة العذبة والصافية، وقالت له: «إن يوحنا معدٌّ ليُزيّن كنائس الله وأعياد القديسين بأناشيده وأنغامه، وسيستسيغ المؤمنون عذوبة تآليفه، فأطلِق له الحرية ليكتب ما يشاء، لأن الروح القدس يتكلم بفمه». وعند الصباح اطّلع الراهب الشاب من معلّمِه على ما جرى. وقال له الشيخ: «افتح فمك وانطق بما يوحيه الروح القدس إليك»، فأخذ يوحنا منذ ذلك الوقت ينظم «قانون القيامة».

ومن الجدير بالذكر أن صنع السلال كان العمل الأكثر شيوعاً في الأديرة الفلسطينية، ومن المحتمل أن يكون الراهب الشيخ قد أرسل تلميذه المبتدئ ليبيع السلال التي اشتركا في صنعِها، في امتحان الطاعة الأول، بغية إذلاله، وتمرّسِه في فضيلة التواضع.


سيامة يوحنا الكهنوتية – تاريخها


وإذ بلغَت أصداء فضائل الدمشقي وعلمه مسمع بطريرك أورشليم، توقّع أن يجني منها الخير العميم لأبرشيته، فأمره أن يقبَل السيامَة الكهنوتية، فرضخ يوحنا وسيم كاهناً رغم تمنعّه. وعند عودته إلى الدير انعكف على حياة نسك أشد، وتقشّف متزايد، وانصرف إلى وضع تلك المؤلفات البليغة التي انتشرت في أنحاء العالَم. والحق يقال أن من أهداف القديس سابا في إقصاء رهبانه عن الكهنوت كان سببه أنه بحسب اعتقاده «يلعب برؤوسهم» حتى تردد هو نفسه طويلاً قبل قبوله سر الكهنوت. وفي الحقيقة أن يوحنا الدمشقي لم يتلقّ علومَه الكنسية في دمشق مسقط رأسه على يد قزما، خلافاً لما ورد في سيرة حياته، بل تلقّى العلوم الإلهية في دير مار سابا، وعلى الأرجح في أورشليم، وكان معلمه البطريَرك يوحنا الخامس الذي ارتقى سُدّة البطريركية الأورشليمية سنة 706، ومكث حتى سنة 727 بطريرك الكنائس الملكية الوحيد، وترأس أساقفة سورية وفلسطين ومصر الكاثوليكيين، ثم قاوم بدعة محطمي الأيقونات. وقد وجد في يوحنا الدمشقي خير نصير ومعبّر عن أفكاره وكلامه ضدّ البدعة الجديدة. ومات سنة 735م.


سنوات يوحنا الأخيرة



عمل الدمشقي في دير مار سابا والقدس


أهم أعمال الدمشقي في دير مار سابا كانت تلك الموسوعة اللاهوتية الفلسفية «ينبوع المعرفة» التي لخّص فيها تعليم الآباء في أهم العقائد المسيحية فضلاً عن قيامِه بالتعليم، وإلقائه المواعظ. وما وصَلَنا من مواعظه تسع عظات على الأكثر، أهمها عظته في مولد العذراء التي ألقاها في المعبد نفسه حيث وُلِدَت، قرب بركة الغنم، وهتف قائلاً: «السلام عليكِ، با بركة الغنم، هيكل والدة يسوع الجزيل القداسة. السلام عليكِ، يا بركة الغنم، مسكن الملكة الوراثي. السلام عليكِ، يا بركة الغنم حظيرة يواكيم في ما مضى، والحظيرة السماوية لقطيع المسيح الروحي الآن. لقد كنتِ تستقبلين في ما مضى ملاك الله مرة واحدة في السنة، يأتي ليحرّك الماء، ولا يشفي إلا مريضاً واحداً، أما الآن فأنتِ حائزة على قوات سماوية كثيرة، تحتفِل معنا بوالدة يسوع لجة العجائب وينبوع الأشفية للعالَم أجمع. السلام عليكِ، يا مريم طفلة القديسة حنة الجزيلة الوداعة».


القديس يوحنا الدمشقي

مزاولة الدمشقي عمله رغم شيخوخته


قضى الدمشقي شيخوخة سعيدة خصبة. فلم يقف عبء السنين دون نشاطه، وكان الشعب الأورشليمي يستمتِع بفصاحة هذا الشيخ الجليل. كما تؤكّد السيرة المرسانية أنه «قضى سبعين سنة متواصِلَة في النسك وممارسة الفضائل والتأمل بالشريعة الإلهية». وهذا يصحّ إذا أخذنا بعين الاعتبار ما جاء في أحد السينكسارات أن يوحنا عاش مئة وأربع سنوات.


وفاته


توفي يوحنا الدمشقي في الدير الذي شهد كفاحه الروحي، وحيث تدرّب على طرق الزهد في الدنيا والنسك والتأمل وأتقنها جميعاً. ويُعتقَد أن تاريخ وفاته كان حوالي سنة 749/750م. ودُفِنَ الدمشقي في دير مار سابا. وأشار دانيال الراهب الروسي إلى وجود بقايا القديس سنة 1106م في البناء الصغير القائم فوق ضريح المؤسس مار سابا. ثم بعد انقضاء 71 سنة (أي سنة 1177) ذكر يوحنا فوكاس أنه في البناء الصغير نفسه، بدَت إلى جانب ضريح مؤسس الدير «مغارة تحوي قبور قديسين آخرين، منهم يوحنا الدمشقي وقزما».


لقَب يوحنا الدمشقي


لقد اتّسمَت كتابات الدمشقي بالبلاغة والفصاحَة، ولذا استحق أن يُدعَى «دفّاق الذهب»، وهو اسم النهر الذي يروي دمشق وطنه. وأول من أطلق عليه هذا الاسم المؤرّخ اليوناني ثيوفانس لأناقة إنشائه وخطاباته، وسموّ فضائله. ونهَجَ المؤرّخون واللاهوتيون البيزنطيون في ما بعد نهج ثيوفانس، وطبّقوا على الدمشقي هذا اللقب. إن هذا اللقب الذي أقرّته ليوحنا الدمشقي سيَر القديسين والليتورجيا منذ قرون طوال، قد منحته إياه السلطة العليا في البيعة في 19 آب 1890م لدى إعلان البابا لاون الثالث عشر قديسنا علاّمَةَ الكنيسة.


إنتاجه الأدبي


1) ينبوع المعرفة:
ويُعتبَر من أهم مؤلّفات يوحنا الدمشقي، وتحفته الفريدة الحقيقية، وهو أفضل تلخيص للتقليد اليوناني، ولاسيما قضايا المعتقَد الخاص باللاهوت الشرقي العقائدي. وقدم كتابه هذا لقزما أخيه بالتبني وزميله السابِق في دير مار سابا.
2) المدخل الأوّلي للعقائد.
3) كتيّب في العقيدة الحقيقية.
4) مبحث في اللاهوت.
5) بيان الإيمان القويم وشرحه.
6) شرح الكتاب المقدس: وهو في تفسير رسائل القديس بولس.
وهنالك أبحاث ورسائل جدلية بين يوحنا الدمشقي والفرَق المسيحية الأخرى.


الشعر، الموسيقى، والليتورجيا



يوحنا والشعر الكنَسيّ


لقد ألّفَ الدمشقي الشعر منذ حداثته، حيث عرف الشعر العربي نوعاً من النهضة في عهد الأمويين، وعُنِيَ يزيد، وعبد الملك بالشعر، وقد عاش الدمشقي بصحبة يزيد، وكان موظفاً عند عبد الملك. إذن، يبقى الدمشقي في نظر التقليد البيزنطي أفضل من أنشد الشعر.


يوحنا والنغم الكنسي والموسيقى الكنسية


لم ينحصِر عمل القديس بتأليف الأناشيد، بل وضع أنغاماً كنسية تتماشى ومؤلفاته الشعرية. واعتبر المنهل الأول للموسيقى الكنسية وواضع الكتابة الموسيقية المعروفة بالكتابة المقدِسية أو الكتابة المربّعَة. وأضاف الدمشقي إلى الموسيقى الكائنة قبله بعض العلامات. فقد كانت تسع عشرة علامة فصارَت خمسة وعشرين بزيادة ست علامات. وكان هدفه من عمله هذا تحسين العلامات الصوتية، وأوجد قواعد وعدّلَها، فكانت للأجيال اللاحِقَة عملاً ثابتاً دائماً. وقسَمَ العلامات إلى فئتين: علامات الكمية أو علامات الصوت، وعلامات الكيفية الصوتية أو العلامات الخرس.


كتاب عن يوحنا الدمشقي

نشر مؤلفات الدمشقي


أول كتاب نُشِرَ له هو «بيان الإيمان الأورثوذكسي»، نقَلَه إلى اللغة اللاتينية جاك لوفيفر في باريس، سنة 1507، وأُعيدَ طبعه سنة 1512 و1519 مع تعليقات كليشتوف. وطُبِعَ هذا البيان بنصّه اليوناني مع خطاب حول الذين رقدوا على الإيمان سنة 1531، بعناية مطران فيرون متّى جيبرتي.

وفي سنة 1546، نشر هنري غرافيوس تآليف الدمشقي في مدينة كولونيا الألمانية، وظهَرت طبعة أخرى في باريس، سنة 1577. وأصدر لوكويّان أول وآخر طبعة لتآليف الدمشقي (باريس، 1712) مجموعة في مجلدين، وظهرت في البندقية نسخة عنها سنة 1748 بدون أدنى تغيير.


أناشيد الدمشقي


قال كرومباكر: «أناشيد الدمشقي من أرقى شعر الكنائس المسيحية بعمقها الشعري وقوة الإيمان المتجلية فيها، لقد بلغَت أناشيد الكنيسة بقلم يوحنا أوجّ ازدهارها وجمالها».

ويقول في مكان آخر: «لقد فاق يوحنا بشعره الغنائي القديس غريغوريوس النزينزي، وكاد يكون فنه أدنى بقليل من فن القديس رومانس المنشِد الفريد. إن قانون الفصح، كما ينشده الكهنة الروس اليوم، يجعل نفس المؤمن تهتز ابتهاجاً حِيَال المسيح المنتصِر على الموت. الكلام أجمل من النغم. ما يحملنا على الاعتراف بأن العالَم المسيحي الشرقي يملك كنوزاً عظيمة في الشعر الكنسي».


ملحق آثاري: بيت القديس يوحنا الدمشقي


لقد أتى المؤرّخون العرَب، أمثال الطبري وابن البطريق وابن عبد ربّه والمسعودي وابن عساكر والجهشياري وابن العميد، على ذكر الدور الذي لعِبَه يوحنا الدمشقي وأسرته في عهد السفيانيين وأوائل خلافة المروانيين، ونستطيع العثور عند هؤلاء الكتَبَة على مكان بيت يوحنا الأبوي وأسرته. ولدينا ثلاث شهادات واضحة: الأولى أوردها مؤرّخ دمشق الكبير ابن عساكر (1105 – 1176) والثانية لابن شاكر (1287 – 1363) والثالثة لسيَد الناس (+1334). قال ابن عساكر: «سرجون بن منصور الرومي، كاتب معاوية وابنه يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، ذكره أبو الحسن الرازي في تسمية كتّاب أمراء دمشق، وذَكَرَ أنه كان نصرانياً فأسلم، وهو الذي يُنسَب إليه حَير (أي بستان) ابن سرجون عند باب كيسان، ويُقال له سرجه، وله عقب».

لقد أرشدنا الحافظ الدمشقي إلى نقطة واضحة لتحديد قصر السرجونيين وهي باب كيسان، وهو أحد أبواب دمشق الرومانية، ويطلّ على جهة السور الجنوبي من المدينة القديمة، وأصبح بعد تعديلات القرن الثاني عشر في الجهة الجنوبية الشرقية بدون أن يتغيّر مكانَه. وقد جعل التقليد المسيحي هذا الباب، منذ القرن الثالث عشر موضع هرب القديس بولس. وفي 23 أيلول 1924، وضع البطريرك ديميتريوس قاضي بطريرك الروم الكاثوليك، الحجر الأول لمعبد مكرَّس لرسول الأمم بولس. والمعبد مبني في داخل الباب نفسه بحيث أصبح باب المدينة القديم باب المعبد.

كما أورد سيد الناس: «حيَر (ويعني بستان) سرجون داخل باب كيسان، يُنسَب إلى سرجون بن منصور كاتب معاوية: قلت، هذا اليوم يُعرَف ببستان القط».

أيقونة بيزنطية

وقد حفظ بستان القط اسمه حتى أيامنا الحاضرة ولم يزل بستاناً حتى سنة 1908، لصاحبه عبدو الشيخ عمر، وقد باعَه حيث بُني فيه مدرسة كبرى (وهي مدرسة الأليانس المعروفة اليوم في حي الأمين بدمشق). ويخترق قسم البستان الغربي طريق معبدة. وبستان القط غير بعيد عن باب كيسان، وقد قامت فوقه الآن بنايات كثيرة حتى انطمسَت معالِمَه.


مختارات من كتابات الدمشقي


من لاهوت الدمشقي ومسائل المتكلمين



بين الإثبات والإنكار:
إن القسم الأخير من هذا الباب يشتمل على ثلاث مسائل، اختلفت مواقف المفكرين حيالها بين الإثبات والإنكار. الأولى إثبات وجود الله، والثانية ماهية الخير والشر، والثالثة حقيقة أحوال المعاد. وسنكتفي في هذه الدراسة بالفقرتين الأوليتين فقط، أي إثبات وجود الله، وماهية الخير والشر.

1) إثبات وجود الله:
إن المشكلة الأولى التي يتعرض لها يوحنا الدمشقي في «الأمانة الأورثوذكسية» هي إثبات وجود الله. فهو ينساق تلقائياً إلى الإيمان بوجود الله، قال: «إن المعرفة بأن الله موجود قد زرعها هو (الله) بالطبع في كافة براياه قاطبة. وهذه البرية، وضبطُها وسياستُها تنادي بعظمة الطبيعة الإلهية وجسامتها. فجميع ما سلّمه إلينا بشريعته وأنبيائه، ورسله المبشرين بمواعيده، نقبله ونعرفه ونوقره»[2].

ويعود إلى هذا الموضوع في مستهل مقالته الثالثة، فيضيف إلى دليل الطبع السليم، شهادة الكتب المقدسة، إذ يقول: «أما البرهان على أنه يوجد إله، فليس مشكوكاً فيه عند الذين قد اقتبلوا الكتب المقدسة، أعني العهد القديم والجديد، ولا مرتاباً به، عند كثيرين من اليونانيين. لأن المعرفة بأنه يوجد إله قد زُرِعَت فينا – على ما ذكرنا – بالطبع. فإذ قد اقتدر شر إبليس الخبيث على طبيعة الناس اقتداراً هذا مبلغه، حتى أهبط أقواها منهم إلى هاوية الهلاك، بأن قالوا: ليس إله موجوداً، وهم قد أظهر داود النبي عدمهم التمييز، فقال: إن العادم التمييز قال في قلبه: ليس يوجد إله، مع أن تلاميذ ربنا ورسله حكموا بالروح القدس في كافة خواصّه، وبقوته ونعمته اجترحوا جرايح الله – عزّ اقتداره – اصطادوا الناس أحياء بشبكة عجائبهم، ورفعوهم من قعر الجهل إلى ضوء المعرفة بالله، وصاعدوهم».

ولا يفوت القديس يوحنا، أن دليل الفطرة السليمة، ودليل الإيمان بالكُتُب المقدّسَة، ليسا مما يقنع مَنْ لا تثبت عندهم دعوى إلا بدليل عقلي وبرهان منطقي. لذلك يعمد إلى إيراد أدلة أخرى برهانية، منها دليل الخلق والإبداع، فيقول: «أن الموجودات كلها، إما توجد مخلوقة، وإما عديمة أن تكون مخلوقة، فإن كانت مخلوقة، فهي على سائر الجهات متغيرة. لأن ما ابتدى كونه من تغيّر، فذلك على كل حال موضوع للحؤول والتغيّر. فمن لا يتحقق أن الموجودات كلها الواقعة تحت حسّنا متقلّبة؟! فإذا كانت البرايا متقلبة، فهي بلا شك مخلوقة، وإذا كانت مخلوقة، فقد أبدعها على كل حال مبدع. ويجب أن يكون مبدعها عديماً أن يكون مخلوقاً؛ لأن ذلك، إن كان قد خُلِقَ، فقد خلقه بلا امتراء خالِق، إلى أن يبلغ إلى شيء عديمٍ أن يكون مخلوقاً. فالخالِق لم يزل عديماً أن يكون مخلوقاً. وهو على سائر الجهات، عديم أن يكون متقلّباً؛ وهذا ماذا يكون الإله»[3].

ثم يعمد إلى إيراد دليل عقلي آخَر هو دليل التكوين والعناية والتدبير، فيستأنِف قائلاً: «وضبط البرية هذا، وصونها وسياستها، يعلمنا أنه يوجد إله. فهو مكوّن هذا الكون، وضابطه وحافظه، ومهتمّ به دائماً. لأن كيف اقترنَت الطبائع المتضادّة التي هي طبائع النار والماء والهواء والتراب لتمام عالم واحد، وتآلف بعضها ببعض، وليس يحتجز انفكاكها، لو لم تكن قوة قادرة على الكل نظّمَتها؛ وهي تحفظها دائماً، ناجية من انفكاك ينالها؟». ويورِد أخيراً دليل الحركة الدائمة فيتساءل: «من حرّكَها بحركة تعتاد أن تكون منتهية، ويحتجز منعها؟ أفما هو مبدعها، الواضِع فيها كلها حداً على حدوده تندفع وتتحرك كلها؟»[4].

وهكذا أورد الدمشقي على وجود الله خمسة أدلة هي دليل الفطرة، ودليل النص المقدس، ودليل الإبداع والخلق، ودليل التكوين والتدبير والعناية، ثم دليل الحركة.

إحدى الأيقونات



2) في ماهيّة الخير والشر:
كان يوحنا الدمشقي يُثبِت للخير وجوداً ذاتياً لا يثبته للشر، بل يذهب إلى أن الشر مجرد اعتبار سلبي هو نقص في الخير. فالخير عنده اعتبار حقيقي، في حين أن الشر اعتبار مجازي، فوجود الأول ذاتي، ووجود الثاني نسبي. والإنسان، فيما يرى الدمشقي، مفطور على الخير، فإذا فسد طبعه نقص خيره؛ وهذا النقص في الخير هو الشر؛ قال: «وينبغي أن نعرف أن الفضيلة قد خوّلها الله لطبيعتنا، وهو ابتداء كل خير وعلته. وليس يمكننا – خلواً من إسعاده وإعانته – أن نشاء الخير ونعمله. لأن مفوضاً إلينا هو إما أن يثبت في الفضيلة، وأن يتبع إلهنا المستدعي إليها، وإما أن ينحرف عن الفضيلة. ومعنى انحرافنا هو أن نحصل في الرذيلة، وأن نتبع إبليس المَحَالّ المُستدعي إليها، خلواً من اقتسار. لأن الرذيلة ليست شيئاً آخر إلا الانصراف عن العمل الصالِح، كما أن الظلام هو انصراف الضوء. فإذا ثبتنا فيما يختص بطبيعتنا، كنا حاصلين في الفضيلة، وإذا زغنا عما يختص بطبيعتنا – أعني عن الفضيلة – وافينا إلى ما هو منحرف عن طبيعتنا، وحصلنا في الرذيلة»[5].


الحواشي


[1] الطروبارية: كلمة أصلها يوناني، وهي نشيد خاص محتفَل بعيد أو بصاحب العيد أياً كان هذا العيد، وعيد أفراد عاديين كالقديسين الشهداء أو غير الشهداء، أو أعياد قديسين كبار كإيليا النبي أو الرب أو العذراء، ولهم أناشيد خاصة يعاد ترتيلها، وتستمر لأسبوع، أما عيد القيامة فطروباريته تُكرَّر لمدة أربعين يوماً.
[2] الأمانة الأرثوذكسية، المقالة الأولى.
[3] الأمانة الأرثوذكسية، المقالة الثالثة.
[4] الأمانة الأرثوذكسية، المقالة الثالثة.
[5] الأمانة الأرثوذكسية، المقالة الرابعة والأربعون.