رفيق سبيعي

رفيق سبيعي

نجم الأسبوع

الجمعة، ٦ يناير ٢٠١٧

 «أحبابي ونور عيوني» فنّان الشعب رفيق السبيعي (1932 ــ 2017) يودعكم، بعدما غلبته الشيخوخة التي غالبها لسنوات، وبقي مصرّاً على التجدد، وتقديم المزيد، والبقاء واقفاً حتى أيّامه الأخيرة. هكذا كانت حاله قبل أشهر حين لم يسمح لكسرٍ في عنق الفخذ بأن ينال منه، فرأيناه يجاهد نفسه للوقوف حين زرناه في أحد مستشفيات دمشق، بعدما أجرى عمليةً لتبديل المفصل وسط رعايةٍ حنونةٍ من عائلته، ومحبيّه. لكنّ القدر لم يمهله فرصةً أخرى، إذ فارق الحياة عصر أمس عن 85 عاماً. ولد السبيعي سنة 1932، في حي البزورية الدمشقي، على مسافة أمتارٍ قليلة من الجامع الأموي. هناك تشكّلت شخصية «القبضاي.. الشهم.. اللي ما بتهون عليه الزاحلة». مفرداتٌ شكّلت ملامح «أبو صيّاح»، أشهر شخصيات الراحل الدرامية، كممثلٍ، ومونولوجيست.
هوى الفن تملّك الشاب الدمشقي، الذي لم يعر اهتماماً لازدراء بيئته المحافظة لمهنة «المشخصاتي». غضب والده منه وطرده له لأنه «وطّا راس العيلة» بسبب عمله في الفن. بدأ مسيرته أواخر الأربعينيات بتقديم مقاطع كوميدية مرتجلة على مسارح دمشق، ثم انتقل إلى الغناء والتمثيل في فرقٍ فنيّة عدة كفرقة «علي العريس»، «سعد الدين بقدونس»، «عبد اللطيف فتحي»، «البيروتي»، و«محمد علي عبدو»، كما أسهم في تأسيس عدد من الفرق المسرحية الناشئة بعد الاستقلال (1946).

في ذاك الزمن، أدى الراحل شخصيّات شعبية لم تُكتب لها الشهرة مثل «أبو رمزي» و«أبو جميل»، إلى أن بدأت قصّته مع «أبو صيّاح» كما يروي في إحدى مقابلاته: «أوّل مرّة قدمتها عن طريق المصادفة، حين أراد الفنّان أنور المرابط أن يتغيبّ عن أداء فصل كوميدي يلعب فيه دور العتّال في إحدى مسرحيات الراحل عبد اللطيف فتحي. كنت أعمل وقتها ملقماً في مسرحه، لم أنم ليلتها من الفرحة، واعتبرت هذا الدور نوعاً من الامتحان يمهد لي الطريق كممثل، استعرت الشروال وباقي الاكسسورات، ففوجئ بي فتحي عندما رآني على المسرح، وجسّدت الشخصية على طبيعتها كما تبدو في الحياة. وقتها، شاهد أدائي المرحوم حكمت محسن، وتنبأ لي بالنجومية منذ ذلك الحين».
كان ذلك أواخر خمسينيات القرن الماضي، في عمل مسرحي مقتبس عن مسرحية مصرية للكاتب أبو السعود الإبياري نقلها عبد اللطيف فتحي إلى الشاميّة، قدمت على أحد مسارح دمشق، وحضرها وقتها صباح قبّاني أول مدير للتلفزيون السوري، وبقيت في باله. وعندما تأسس التلفزيون عرفّه إلى الراحل نهاد قلعي، والفنّان دريد لحّام، وبدأت مسيرة «أبو صيّاح» التلفزيونية مع «غوار الطوشة» و«حسني البورظان».
مسيرةٌ أثمرت عن مسلسل «مقالب غوار» (1967) وعملٍ كوميدي خالد، ما زال يصنَّف في خانة السهل الممتنع هو «حمّام الهنا» (1968).
توقف الراحل نهاد قلعي عن العطاء مبكراً، بسبب تعرضّه لاعتداء أصابه بالشلل، في حادث منتصف سبعينيات القرن الماضي، ثم كانت المحطة الأخيرة التي جمعت بين السبيعي ودريد لحّام في مسلسل «وادي المسك» (1982)، ولم يجمع بينهما عملٌ تلفزيوني بعد ذلك. قيل إنّ ذلك يعود إلى خلافٍ مالي بينهما، أشار إليه رفيق السبيعي في الكتاب الذي روى فيه سيرته الذاتية «أبو صياح يدفع ثمن الحب» (1999 ــ للكاتب السوري وفيق يوسف).

قدّم عشرات الأدوار
التلفزيونية المميزة، تحت إدارة أربعة أجيالٍ من المخرجين


الخلاف أسدل الستار على علاقة رفيقي الدرب حتى آخر حياة السبيعي، وتم تناوله عبر الإعلام خلال السنوات الأخيرة، حين نقل موقع «النشرة الفنيّة» عن لحّام قوله (سنة 2013): «عندما يذكر رفيق السبيعي في سيرة حياته أنني نصبت عليه الكثير من الأموال، وعندما يأتي ليعترف أنّه أخطأ، أنا مستعد للتعاون معه».
وأتى رد فنّان الشعب بعد عام تقريباً عبر «إذاعة المدينة» بأن «القلوب ليست صافية»، مؤكداً أنّه «سعى للصلح، وتغاضى عن الماضي، وأعطى فكرة عمل فنّي يمَكّنهما سوياً من العودة إلى الشاشة، ولكن لم تكن هناك استجابة من الطرف الآخر» مضيفاً: «أحزن على الجمهور الذي أحبّنا سويّاً، ولم يكن علينا أن ندير ظهرنا له».
وفي هذا السياق، نذكر محاولات لم يكتب لها النجاح بذلها صنّاع مسلسل «طالع الفضّة» (2011)، بخاصّة الفنّان عبّاس النوري، والمخرج سيف الدين السبيعي للجمع بين الصديقين القديمين مجدداً في هذا العمل التلفزيوني، ليكون من نصيب رفيق السبيعي نجاحٌ استثنائي بدور «طوطح اليهودي»، أثبت فيه قدرته على التجدد في الثمانين من العمر، كأنه انتصر أخيراً للممثل بداخله، في مواجهة سطوة «أبو صيّاح». دورٌ قال عنه الراحل: «كاتِبَا العمل (عنود الخالد، وعبّاس النوري) رسما ملامح شخصية أقرب إلى المثالية، وهذا سبب محبتي لها، فطوطح متعلق بالمكان الذي ولد وعاش فيه، وجذوره ضاربة في أعماق الشام، ولا يستطيع أن يفارق رائحة النارنج، إلى جانب معرفته الشاملة بكل الأشياء، والعواطف، والواقع، والحِكَمْ التي تبرز من خلال حديثه، وتعامله مع باقي شخصيّات المسلسل. كنت سعيداً بأداء الدور، صحيح أنني تعبت كثيراً، لكّن هذا التعب زال بظهور النتيجة». ولم يجد ضيراً من القول بأنّ دور «طوطح» لم يكن معروضاً عليه، وطلبه على وجه التحديد من ابنه المخرج سيف، وقيل في الكواليس إنّ الاسم المقترح لأداء الدور كان بدايةً دريد لحّام.
على مدى ستة عقود، قدّم رفيق السبيعي عشرات الأدوار التلفزيونية المميزة، تحت إدارة أربعة أجيالٍ من المخرجين، كما في مسلسلات: «لك ياشام»، «الخشاش»، «دمشق يا بسمة الحزن»، «صلاح الدين الأيوبي»، «مبروك»، «صقر قريش»، «مرايا»، «فسحة سماوية»، «عن الخوف والعزلة»، «عمر»...
وبما يملكه من كاريزما «الزكرت الشامي»؛ كان دور «الزعيم» في المسلسل الشهير «أيام شاميّة» (1992)، فاتحة لتصّدر أدوار الزعامة في معظم المسلسلات التي تنتمي إلى هذا النوع من الأعمال، ليختم مسيرته التلفزيونية بدور الزعيم «أبو راغب» أحد أبطال «بنت الشهبندر» (إخراج سيف الدين السبيعي)، و«الشيخ صالح» في مسلسل «حرائر» تحت إدارة المخرج باسل الخطيب. علماً أنّ المسلسلين عرضا خلال موسم دراما رمضان 2015.
وشهد عام 2016 أداء الراحل دوره السينمائي الأخير، وللمفارقة كان أيضاً أمام كاميرا باسل الخطيب، في فيلم «سوريّون.. أهل الشمس»، ليترك في أذهان محبيّه الصورة الأخيرة، للأب المتسامح... أيقونة لا يدنس قداستها كل ذلك الجحود والنكران، والحقد الذي يسيطر بسواده على سنواتنا العجاف. صورةٌ تتقاطع حياتياً مع صورته كأب، وقف بشموخ خلال تلقيه العزاء بابنه البكر عامر قبل عامين... ابن رحل بعيداً عنه، وكان بينهما خلاف سياسي، وتباين في المواقف إزاء الصراع في البلاد.
بفيلم «سوريّون»، اختتم فنّان الشعب مسيرة سينمائية قدّم خلالها أكثر من خمسين عملاً، بينها فيلمان للأخوين رحباني، وقف فيهما أمام السيدة فيروز هما «سفر برلك»، و«بنت الحارس»، ومن أفلامه أيضاً: «أحلام المدينة»، «الشمس في يومٍ غائم»، «الليل»، «صندوق الدنيا»، «الليل الطويل»، إلى جانب الأدوار التي أدّاها في موجة الأفلام التجارية خلال سبعينيات القرن العشرين.
وللإذاعة حكاية أخرى، روى فيها ذكرياته في برنامجه الشهير «حكواتي الفن»، عبر أثير إذاعة دمشق، التي شارك فيها بعشرات المسلسلات الإذاعية، وقدّم برامج عديدة... إذاعةُ لطالما رددت صدى أغنياته على مسارح دمشق وحلب، كمونولوجيست: «يا ولد لفلك شال»، «تمام تمام هدا الكلام»، «شروال أبو صياح»، «لا تدور ع المال»، «حبوباتي التلموذات»، «شيش بيش»، «قعود تحبك»، «الحب تلت لوان»، «الخنافس»، وأغنياتٍ أخرى أدّاها خصيصاً للسينما كـ «زحليقة وتلج»، «ليش هيك صار معنا»، و«الاوتو ستوب».
وتبقى في البال أغنيته للشام التي غنّاها في 2012 من كلماته وألحان سمير كويفاتي: «أنا سوري من أرض الشام وعطر الياسمين الفواح... مهما درت وشفت بلاد.. غير بحضنا ما برتاح».
«أبو عامر» سيلف شاله اليوم، ليودعه محبّوه من منزله في منطقة المزة إلى مثواه الأخير؛ مقبرة «باب الصغير» في حضن الشام، المدينة التي ولد ونشأ فيها... وتتلقى أسرته العزاء في صالة «جامع الأكرم» أيام الجمعة، السبت، والأحد بين الساعة السادسة، والثامنة مساءً.