أم كلثوم

أم كلثوم

نجم الأسبوع

الثلاثاء، ٣١ يناير ٢٠١٧

وائل العدس

تقف «الست» مرفوعة الهامة بجبين شامخ إلى السماء، يترنح منديلها الوردي متمايلاً بين يديها على أنغام صوتها العذب، تقدم قدماً عن الأخرى وتضرب بإحداهما الأرض بخفة حينما تتجلى وتنسجم مع مقطوعة من مقطوعتها الساحرة.
تراها دوماً محتشمة، أنيقة، متميزة بتسريحة شعر منمقة، حنجرة تبعد دوماً عن الميكروفون بأمتار في تحدٍ مبهر لقوة صوتها وعذوبته، حتى نظارتها السوداء التي استخدمتها ستاراً لجحوظ عينيها إثر مرضها بالغدة الدرقية أضفت عليها شموخاً وعظمة.
من فلاحة بسيطة في إحدى القرى الريفية إلى سيدة الغناء العربي، رحلة مليئة بالكفاح والإصرار على التفوق حتى آخر العمر، وفي وسط الحروب والصراعات والملوك والبسطاء غنت أم كلثوم لمجد الجميع ولرفعتهم وأنشدت ما اهتزت له مشاعر العرب من المحيط إلى الخليج.
«كوكب الشرق».. هكذا عرفها الملايين على مدى نصف قرن من العطاء المتواصل والنجاح الباهر بصوتها الرنان وأدائها الفتّان وتعبيرها الأخاذ بأحب ما تغنى به الناس من كلمات وألحان.
42 عاماً مرت على رحيلها ومازلنا نحتفل بها لأنها تمثل «شهيق وزفير» الغناء العربي، فقد غنت لرفعة الموسيقا ولم تسع وراء الأموال، لذا بقي صوتها على قيد الحياة، وقد عرف عنها شخصيتها القوية واحترامها لنفسها ولفنها فاحترمها الملوك والزعماء كما احترمها عامة الشعب وأحبها الناس في كل مكان، وتفردت بمكانة عالية في الفن والمجتمع لم تصل إليها أي مطربة في الشرق.
لم تتفق أمة من الأمم على ذوق واحد.. ولم تصفق معاً لفنان واحد مثلما فعلت الأمة العربية مع سيدة الغناء، ففي حنجرة أم كلثوم توحدت المشاعر، وعبّر صوتها عن آمال ووجدان الشعب العربي في لحظات انتصاره وانكساره.. وفى لحظات الاستنفار والحشد.
كل ما يكتب وكتب عنها لن يمنحها حقها، وكل ما يكتب وكتب عنها ليس بجديد، لكن الكتابة عن أم كلثوم ضرورة لأننا نتحدث عن ثروة قومية، مازالت تعطي وتمنح من فنها، وكبريائها الكثير رغم رحيلها عن عالمنا، فكل عمل من أعمالها يساوي تاريخاً، هكذا يقول الواقع والمنطق، هكذا تقول كل الحسابات والأرقام، وكل مفردات التقييم، فأم كلثوم وحدها صنعت تاريخاً غنائياً لا يقارن بأحد، ولم ولن يصنعه أحد.
أنها أم كلثوم، أعظم المجوّدات من نساء العرب التي نسج لها من الألحان أعظم مُنشئي اللحن عند العرب في القرن العشرين.

ما بين البداية والنهاية

ما بين الثلاثين من كانون الأول عام 1904 والرابع من أيار1890، تضاربت الأقوال حول تاريخ الميلاد، حين ولد صوت جميل قوي نادر بقرية صغيرة في محافظة الدقهلية، أنها فاطمة إبراهيم البلتاجي التي عرفت فيما بعد باسم أم كلثوم في قرية صغيرة قرب مدينة المنصورة تسمى طماي الزهايرة، ولم يكن أحد يتوقع مستقبلاً يذكر لطفلة من أسرة فقيرة تقطن بقرية صغيرة ليس بها مدرسة واحدة.
امتلكت صوتاً جميلاً وغنت أول مرة وهي في الثانية عشرة من عمرها في منزل شيخ بلد القرية ثم عمدتها حيث شدت بالقصائد والموشحات، واشتهرت منذ صغرها بجمال صوتها حيث كانت تردد أناشيد أبيها وأخيها خالد وشجعها والدها وأصدقاؤه على تكرار الغناء واصطحبها معه في حفلاته فجابت معه قرى ومدن ومحافظات مصر.
التقت الشيخ أبوالعلا محمد في المحلة الكبرى وتتلمذت على يديه في الغناء، غنت للملحن أحمد صبري أولى أغنياتها «مالي فتنت بلحظك الفتان» ثم ظهر الشاعر أحمد رامي فكتب لها أغانيها منذ عام 1924 حتى آخر لحظة في حياتها، فقدم لها ما يزيد على مئتي أغنية، وجاء الملحن رياض السنباطي ليلحن لها أروع أغانيها مثل رباعيات الخيام، الأطلال، ولد الهدى، عودت عيني، لسه فاكر، يا ظالمني، هجرتك.
كان لظهور الملحن محمد القصبجي أثر كبير في تنوع الشكل الغنائي لأم كلثوم، فقدم لها ألحاناً كانت أغلبها للشاعر بيرم التونسي منها «هو صحيح الهوى غلاب»، «أنا في انتظارك»، «الفوازير»، و«النيل»، وجاء الملحن زكريا أحمد ليقدم لها ألحاناً لأغنيات عاطفية منها أغنيات أفلامها وبذلك عاشت أم كلثوم عصراً ذهبياً لوجود عدد كبير من المؤلفين والملحنين الذين قدموا لها أجمل الألحان.
في عام 1925 سجلت أم كلثوم أغانيها على أسطوانات، وغيرت التخت الشرقي من «المعممين» إلى «المطربشين» من أمهر العازفين، وأطلق عليها محمد فتحي الشهير بكروان الإذاعة، لقب «كوكب الشرق» وتزوجت أم كلثوم من الدكتور حسن الحفناوي عام 1947.

شعر وموسيقا
غنت أم كلثوم لكبار الشعراء، فتفردت بقصائد أحمد شوقي من خلال عشر قصائد هي «أعيد الدهر» عام 1936، وبعد هذا التاريخ بعشر سنوات غنت له ست قصائد هي «ولد الهدى – السودان – نهج البردة – سلوا قلبي – سلوا كؤوس الطلا – أتعجل العمر»، وفي عام 1949غنت «النيل»، وغنت «بأبي وروحي الناعمات» عام 1954، وفي 1969 تغنت بقصيدة «إلى عرفات الله».
ومن روائع أبي فراس الحمداني غنت قصيدة «أراك عصي الدمع»، كما غنت قصيدة «ثورة الشك» من أشعار الأمير عبدالله الفيصل.
أما تجربتها مع الشاعر عمر الخيام فغنت قصيدة «رباعيات الخيام»، ومن أشعار إبراهيم ناجي قصيدة «الأطلال»، وقصيدة «هذه ليلتي» من أشعار جورج جرداق، ومن قصائد شاعر الباكستان محمد إقبال «حديث الروح»، وغنت أم كلثوم أيضاً رائعة من روائع الشاعر السوداني الهادي آدم وهي قصيدة «الغد» أو «أغداً ألقاك»، كما غنت من أشعار محمود بيرم التونسي رائعة «جميلة».
ومن أشعار شاعر الياسمين نزار قباني غنت قصيدة «أريد بندقية».

ثلاثة رجال
تمتلك صوتاً ساحراً قوياً خشناً في بعض الأوقات وناعماً كثيراً في أوقات أخرى، حالة ما بين قوة الشخصية والعقل وبين شوق القلب للحب، جعلها للرجال مثالاً للحب، وحلماً يطمح الكل للاقتراب منه على مدى حياتها ومسيرتها الفنية، من شعراء وملحنين وشخصيات عامة، وكان من أشهرهم أحمد رامي الذي كتب لها الكثير من القصائد وأعظم ما غنت (ما يزيد على 100 أغنية) فقال فيها: (ح أفضل أحبك من غير ما أقولك.. إيه اللي حير أفكاري، لحد قلبك ما يوم يدلك.. على هوايا المداري).
يليه الموسيقار محمد القصبجي الذي كان متيماً بها لحد الجنون، والذي آثر أن يبقى خلفها بعد أن أخفق في لفت نظرها ويجعلها تحبه مثلما يحبها، واستمر في العزف خلفها بعد أن ابتعد عن التلحين لها، لكن أم كلثوم التي كانت عشق الكثيرين، أحبت 3 رجال فقط.
الأول الدكتور أحمد صبري التجريدي الذي كان يعمل طبيباً للأسنان في بلدته طنطا وكان أيضاً من هواة الموسيقا وتلحين الأغاني وكانت موسيقاه تتميز بالموهبة والأصالة وبعيدة تماماً عن الموسيقا التي كانت منتشرة في ذلك الزمن، وقد تعرف على أم كلثوم عن طريق الوجيه (علي بك البارودي) والذي كان من أشد المتحمسين لأم كلثوم وكان هو الذي خلصها من ردائها القديم «العقال» وجعلها ترتدي الفستان لأول مرة وهو الذي خلصها من تخت المنشدين المكون من والدها وشقيقها وابن عمها وجعلها تغني أمام تخت شرقي حقيقي من العازفين الكبار وكان هو الذي اختار التجريدي ليلحن لها مجموعة أغنيات خفيفة.
ترك التجريدي عيادته وانتقل للإقامة في القاهرة، وخلال عامين قدم لأم كلثوم 17 لحناً قدمتها في حفلاتها الشهرية وطبعتها على أسطوانات وكلها أغنيات عصرية خلصتها للأبد من شكل المطربة التي ترتدي ملابس فتيان البدو وتضع العقال على رأسها، وحققت الأغنيات نجاحاً كبيراً مثل (يا كروان والنبي سلم) و(اللي انكتب عالجبين لازم تشوفه العين) و(شفت بعيني ما حدش قال لي).
وتفرغ التجريدي تماماً لأم كلثوم وترك عمله كطبيب أسنان وأصبح يغار من منافسة أحمد رامي له في حب أم كلثوم وإن كان قد لحن له أشعاره التي كتبها لها مثل (خايف يكون حبك ليا) و(الحب كان من سنين).
وتناثرت شائعات ونشرتها الصحف الفنية وقتها من أن زواجاً سرياً قد تم بين أم كلثوم والتجريدي، ولكن حقيقة الأمر أن التجريدي كان قد طلب يد أم كلثوم منها ولكنها طلبت منه أن يسأل والدها لأنهم فلاحون ووالدها هو المسؤول عنها، ولكن والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي رفض الخطبة، فاعتبر التجريدي الرفض إهانة له ولمكانته كطبيب وكملحن كما أنه يعد نكراناً لجميله على أم كلثوم فآثر الانسحاب من حياتها للأبد.
أما الثاني فهو الملحن محمود الشريف (سي السيد)، أول أزواج السيدة أم كلثوم، كان ذلك في بداية عام 1947، وكانت أم كلثوم نقيبة منتخبة للموسيقيين ومحمود الشريف وكيلاً للنقابة وكانت بينهما قصة حب وتفاهم رغم أن الأخير كان زوجاً لامرأة أخرى، ولكن الذي جعل من الزواج الرسمي أمراً ضرورياً هو احتياج أم كلثوم لإجراء جراحة عاجلة في الغدة الدرقية وقرر طبيبها المعالج د. نجيب محفوظ ضرورة أن يوقع على أوراق الجراحة زوجها حتى لا يتحمل هو مسؤولية الجراحة الخطيرة، وصارحت أم كلثوم محمود الشريف بذلك فاصطحبها للمأذون على الفور وعقد قرانه عليها، ولكن هذا الزواج لم يستمر طويلاً بعدما فوجئت أم كلثوم بمفهوم محمود الشريف عن الزواج، فقد كان يرى أن الزوجة خادمة لزوجها ولو كانت أم كلثوم بجلالة قدرها، وكان يفرض عليها أن تغسل قدميه بالماء الساخن وأن تضع له القهوة بيديها ووصل الأمر بينهما إلى حد ضربها وجذبها من شعرها فكانت النهاية الطلاق.
وقد دق قلب أم كلثوم للمرة الثالثة عام ‏1952، ‏ بعدما تعرفت على الدكتور حسن الحفناوي وأحبته وتزوجته بشكل مفاجئ، وكان متزوجاً وأباً لـ3 أطفال ويصغرها بحوالى 17 عاما‏ً، وكانت تبلغ من العمر 56 عاماً في حين كان عمره 39 عاماً، ولم يعلن زواجهما سوى في عام ‏1954‏ واستمر حتى وفاتها.
الحفناوي هو أحد أطباء أم كلثوم وكان مسؤولاً لفترة طويلة عن أمراضها الجلدية، ويعتبر الكثيرون أن زواج أم كلثوم بعد رفضها لسنوات طويلة يأتي بناء على رغبتها في الأمومة، وتردد أن حقيقة الزواج هو أنها أرادت أن تحتفظ بطبيب خاص لها طول الوقت.
استغرب كثيرون تفضيل أم كلثوم لطبيب الأمراض الجلدية على غيره من طالبي الزواج، وخاصة أنه متزوج وله 3 أبناء، وعندما أخبرها بأنه يفكر في الطلاق من زوجته، وكانت قريبة له، لكي يتفرغ لها، نهته عن ذلك وطلبت منه متابعة الاهتمام بزوجته وبأولاده منها.
وقال مصطفى أمين في أحد مقالاته: «قالت لي أم كلثوم إنها تشعر بالوحدة وتريد رجلاً يقف بجوارها وتعتمد عليه، وإن الدكتور الحفناوي تقدم لها وطلب يدها، وإنها ترددت مدة طويلة لأنه متزوج وله أولاد، وأضافت إن بعض صديقاتها اللواتي استشارتهن اعترضن على أن تتزوج من رجل متزوج، لكنها لم تهتم بهذا الاعتراض، وقالت إنها لا تشعر بأي غيرة من الزوجة الأولى، بل إنها على العكس تشجع الدكتور الحفناوي على اهتمامه بأولاده».
ستة عناصر

امتاز صوت كوكب الشرق بستة عناصر قوية، يكفي كل منها ليجعل صوتَها ظاهرة عظيمة.
1- المساحة؛ إذ يغطي صوتها ديوانين، من وسط موقع صوت الباريتون، الصوت الرجالي المتوسط في تصنيفات الأصوات الغربية.
2- التملك من الصوت؛ فهي كانت تستطيع أن تؤدي بسهولة جملة غنائية صعبة للغاية، بزخرف صوت يصل إلى حد الإعجاز.
3- قوة الصوت؛ فالغناء المعتمد على الحجاب الحاجز في أسفل الرئتين، يجعل ضغط الهواء في الحنجرة مساوياً مرتين ونصف مرة للضغط الجوي. أما غناؤها فكان يعتمد على الضغط المباشر على الحنجرة.
4- القوة البدنية؛ ذلك أن أطول حصة غنائية في أطول الأوبرات الأوروبية لمغنٍ بمفرده، لا تزيد على أربعين دقيقة ولا تتجاوز مدة الغناء المتواصل خمس عشرة دقيقة. في حين كانت أم كلثوم تغني أربع ساعات وحدها، في سهرات تستمر في المعتاد، مع الاستراحة واللوازم الموسيقية ست ساعات تقريباً.
5- طول العمر؛ فأم كلثوم غنت مذ كانت في الثالثة عشرة حتى الثالثة والسبعين، أي ستين سنة كاملة. وليس في تاريخ الغناء في العالم ظاهرة مماثلة أو مقاربة، ولم يعرف مغنون أوروبيون غنوا أكثر من أربعين سنة.
6- دقة الصوت؛ إذ أجريت سنة 1975 تجارب إلكترونية لقياس نسبة النشاز في الأصوات المصرية المعروفة. ويذكر أن الطنين الكامل بين مقام (دو) ومقام (ري) يتخذ معياراً في القياس، إذ إن تسع الطنين هو الفارق الذي تستطيع الأذن العادية أن تميزه. وأظهرت الآلات الإلكترونية أن دقة صوت أم كلثوم بلغت واحداً على الألف من الطنين، ودقة صوت عبد الوهاب واحد على ألف ومائتين من الطنين.

مؤلفة نكت
كانت معروفة أم كلثوم أنها تحب المزاح، وكان لها العديد من المواقف الكوميدية مع أعضاء فرقتها أو مع شخصيات أخرى مهمة، لدرجة أنها كانت تلقي نكاتاً من تأليفها أحياناً.
كانت تحرص على حضور مباريات كرة القدم، وكانت حينذاك من مشجعات النادي الأهلي، وفي إحدى المباريات جلست في الصف الأول وبجوارها المرحوم توفيق رفعت «باشا» الوزير في تلك الفترة، وكان قصير القائمة ضئيل الجسم، وتصادف أثناء المباراة أن فتحت أم كلثوم حقيبة يدها لتخرج منديلها، فإذا بتوفيق رفعت ينظر إلى الحقيبة محاولاً أن يداعبها، فإذا بها تقول له: «حاسب يا باشا أحسن تقع فيها».
وفي موقف ثان، انتهت أم كلثوم من إحدى حفلاتها في الرابعة صباحاً، فلما ذهبت إلى سيارتها لتعود إلى البيت، وجدت في انتظارها شخصاً معروفاً في الوسط الفني، وكان الرجل أسود جداً، فضحكت وهي تقول له: «ما تروح بقى يا أخي خلي النهار يطلع».
وفي إحدى الحفلات التي أقيمت داخل عوامة على النيل، وكان الحفل يضم فريقاً من الفنانين، وأثناء الحفل قالت: «الواحد خايف أحسن العوامة تسيب من الحبال بتاعتها وبعدين ما نعرفش نعوم لغاية البر، فرد القصبجي متحمسا: «ولا يهمك، أنا أشيلك على راسي»، ونظرت أم كلثوم إلى صلعة القصبجي قائلة: «بصراحة أخاف أتزحلق برضه يا قصب».