فارس الخوري «1877-1962»

فارس الخوري «1877-1962»

نجم الأسبوع

الثلاثاء، ٢٢ أغسطس ٢٠١٧

غفران الناشف

في حياة الأمم محطات يسجلها التاريخ في صفحات من ذهب، يزداد بريقها تألقاً ولمعاناً وتأثيراً كلما تكالبت على الأمة قوى الشر من أعدائها، وأحكمت الدول الاستعمارية قبضتها الحديدية، وفي تاريخ وطننا المشرق، تتربع شخصيات وطنية على قمة المجد، وتفرض وجودها بالخلود على صفحات هذا التاريخ، فارس الخوري واحد من هؤلاء القادة الذين يكبرون بوطنهم، ويكبر الوطن بهم، ويدافعون عن قضاياه ضد قوى الاحتلال التي أنشبت أنيابها، ومخالبها في جسد الأمة تمتص دماءها، وتسلب خيراتها.
ويعتبر فارس الخوري من أبرز الزعماء الوطنيين وألمعهم، عرفه العالم في أروقة الأمم المتحدة وهو يصرخ في وجوه المحتلين ويزأر قائلاً: اخرجوا من بلادنا.
ولد فارس بن يعقوب الخوري في قرية الكفير التابعة لقضاء حاصبيا عام 1877م، حيث تلقى فيها دراسته الابتدائية. وكانت تابعة لسورية أيام الحكم التركي [إلا أن غورو عمل على سلخ أربعة أقضية من سورية (البقاع-راشيا- حاصبيا-بعلبك وضمها لدولة لبنان الكبيرة. ثم تابع دراسته في المدرسة الأمريكية في صيدا عام 1890 م، ثم انتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وكانت تسمى الكلية الأنجيلية السورية وتخرج فيها عام 1897م (دبلوم في الاقتصاد)، ثم عمل مُعيداً في القسم التحضيري بالجامعة الأمريكية لمدة عامين، انتقل بعدها فارس الخوري إلى دمشق وتسلم إدارة المدارس الأورثوذوكسية ثم ترجماناً في القنصلية البريطانية ووكيلاً لشركة جراشام للتأمين على الحياة. وبقي بالعمل في القنصلية البريطانية حتى إعلان الدستور العثماني 1908، وتزوج في العام نفسه من السيدة (أسماء جبرائيل عيد) وهي سيدة فلسطينية من عكا، أنجبت له ابنه الوحيد (سهيل عام 1912م) والد الأديبة السورية المتميزة (كوليت خوري).

الحياة العملية
وخلال انهماك فارس الخوري في حياته العملية هذه أخذ يطالع الحقوق لنفسه، ويدرس اللغة التركية والفرنسية في أوقات الفراغ القليلة، ثم انتخب نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان في العهد العثماني عام 1914 وهو بمثابة مجلس النواب، وتابع دراسة الحقوق في معهد استانبول إلا أن الأتراك اتهموه بالثورة ضدهم واعتقلوه في صيف 1916م. وكان قد نال شهادة الحقوق الرسمية عام 1904، واشتهر فيما بعد كمحام بارع وحقوقي لامع، وأسهم في تأسيس معهد حقوق دمشق وأصبح أستاذاً فيه، ثم كان أول نقيب للمحامين في النقابة التي أسسها في دمشق، ثم عضواً في لجنة الحقوق الدولية التابعة للأمم المتحدة، كما كان سجيناً في سجن خان أسعد باشا متهماً بالتآمر على الدولة العثمانية، وخرج بعدها من السجن بدفاعه القانوني بتبرئة نفسه، فنفي مع سائر الأحرار العرب إلى الأستانة عام 1917م. ولكنه مع دخول الجيش الفيصلي عام 1918م، عاد إلى دمشق ليشارك في أول حكومة وطنية بعد رحيل الأتراك.
وقد عين فارس الخوري عضواً في مجلس الشورى عام 1918، كما اختير عضواً في المجمع العلمي العربي منذ تأسيسه 1919. ووزيراً للمالية في الوزارات الثلاث: الركابي والأتاسي والدروبي التي شكلت إبان الحكم الفيصلي عام 1920. وبعد معركة ميسلون في 24 تموز 1920م ورحيل الأمير فيصل، عاد فارس الخوري إلى مزاولة مهنة المحاماة، ثم عين مستشاراً قانونياً في بلدية دمشق عام 1921م، ووضع مع مجموعة من رجالات دمشق مشروع جر مياه عين الفيجة لدمشق، واشترط تمليك المياه للمباني فقط وليس للأشخاص.

من الحياة السياسية
في مطلع 1925، جرى تأليف (حزب الشعب) برئاسة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وعضوية فارس الخوري نائباً للرئيس، وحسن الحكيم وفوزي الغزي، وسعيد حيدر. لكن الفرنسيين ما لبثوا أن قبضوا عليه -لنشاطه السياسي- بعد إعلان الثورة السورية الكبرى، ونفي إلى جزيرة أرواد عام 1925م. ثم أطلق سراحه ليتولى وزارة المعارف في نيسان 1926 م في وزارة الداماد أحمد نامي واستقال في حزيران مع زميليه: لطفي الحفار الذي كان وزيراً للزراعة، وحسني البرازي الذي كان وزيراً للداخلية بعد قيام الفرنسيين بالهجوم على حي الميدان وإحراقه وترويع أهله.
وقبضت السلطات الفرنسية عليه مجدداً مع فوزي الغزي والمحامي بدر الدين الصفدي، والصحفي أديب الصفدي، ونفتهم إلى الحسكة، ثم إلى أميون قضاء الكورة في لبنان مع الإقامة الجبرية، وفي نهاية شباط عام 1928م عاد فارس الخوري إلى دمشق.
وإزاء الأوضاع المتردية مع السلطات الفرنسية، تنادى الوطنيون لتنظيم صفوفهم، وتوحيد كلمتهم لمقاومة الاحتلال الفرنسي، فتشكلت (الكتلة الوطنية) التي انبثقت عن حزب الشعب في حزيران 1928، وكان من المؤسسين: هاشم الأتاسي، فارس الخوري، إبراهيم هنانو، جميل مردم بك، لطفي الحفار، سعد اللـه الجابري، حسني البرازي، توفيق الشيشكلي. وقد قادت الكتلة الوطنية حركة المعارضة والمقاومة ضد الفرنسيين، وكان لها الدور الكبير في نيل سورية الاستقلال.
وبعد معاهدة 1936 بدأت قوات الاحتلال بالتسويف والمماطلة بالرحيل عن أرض الوطن وقف دولة فارس الخوري على منصة الأمم المتحدة مطالباً برحيل قوات الاحتلال الفرنسية والبريطانية وقال بدبلوماسيته المعهودة: (إن خروج قوات الاحتلال لا يحتاج إلى مفاوضات مضنية، ولا ترتيبات معقدة، وإنما يحتاج فقط إلى رحيل هذه القوات، وإن هذه المماطلة تشبه إلى حد بعيد (قصة الفانوس الأحمر) بالوضع الذي نحن فيه الآن.
فقد تقرر وضع فانوس أحمر وسط أحد الشوارع، فسأل أحدهم: لماذا نصب فانوس أحمر هنا؟ فأجيب أنه نصب لكي لا يعثر أحد من المارة بالحجارة التي نصب عليها الفانوس، ثم سأل: ولماذا وضعت الحجارة؟ فقيل له باستخفاف: إنها وضعت لكي ينصب فوقها الفانوس الأحمر.
وقد درج على ألسنة الناس عن دولة فارس الخوري حين كان ممثلاً لسورية في إحدى جلسات الأمم المتحدة من أنه حضر إلى الجلسة مبكراً عدة دقائق، وجلس في مقعد المندوب الفرنسي، وحين حضر مندوب فرنسا. وجد فارس بك جالساً على كرسيه، فقال له: إنه يبدو أن السيد أخطأ محله، فأرجو أن تنتقل إلى محلك، فانتصب دولة فارس بك أمامه وقال له: لقد جلستم في بلادنا خمساً وعشرين سنة، وأنتم ترفضون الخروج إلى بلادكم، وأنت الآن منزعج لأنني جلست على كرسيك خمس دقائق؟

في مجلس الأمن
وقد استطاع بعدها فارس الخوري أن ينتزع عطف مندوبي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ليُقرَرَ أخيراً موعد للجلاء التام عن سورية في الخامس عشر من نيسان عام 1946.
وانتخب فارس الخوري رئيساً لمجلس الأمن عام 1947-1948، ثم انتدب مرة أخرى ليمثل سورية في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ناقش وجادل وأسمع العالم أن فلسطين أرض عربية منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، وعمل كل ما في وسعه بصبر وشجاعة، ولكن العالم كان قد أصم أذنيه بسبب الدعاية الصهيونية ودعم الدول الغربية من بينها بريطانيا صاحبة وعد بلفور.
كما ساند وأيد قضية جلاء القوات الإنكليزية عن مصر وتحقيق مطالبها العادلة، وتقديراً لخدماته ووطنيته الصادقة، أنعمت عليه مصر (وشاح النيل) وضمه مجمعها إليه عضواً مراسلاً، ومنح الجائزة التقديرية للعلوم الاجتماعية عام 1960.
وعاد فارس الخوري إلى أرض الوطن في العاشر من كانون الثاني من عام 1949م، بعد عامين ونصف العام قضاهما مدافعاً عن حقوق وطنه وأمته العربية.
وكان يوم العاشر من كانون الثاني يوماً مشهوداً في تاريخ سورية، حيث خرجت سورية من أقصاها إلى أدناها، لتستقبل فارسها الكبير أجمل استقبال.
وخرجت دمشق عن بكرة أبيها لتحيي الفارس العائد لوطنه بأكبر تحية، يتقدمهم رئيس الجمهورية المرحوم شكري القوتلي، والوزراء والنواب والشخصيات الرسمية والشعبية من مختلف المحافظات السورية، تقديراً لخدماته الجليلة التي قدمها لبلده الحبيب.
وفي الساعة الثامنة صباحاً، هبطت الطائرة في أرض مطار المزة، فدوى التصفيق بالمكان، ولما ترجل فارس الخوري سلم الطائرة، عانقه رئيس الجمهورية شكري القوتلي عناقاً حاراً، وتبادلا قبلات الأخوة، وبعد أن صافح فارس الخوري كبار مستقبليه من رجال الدولة والوزراء سأل نجله سهيل عن (الطربوش) الذي أوصاه أن يأتي به إلى المطار ليلبسه، فما كان من الشيخ بهجت البيطار إلا أن ناوله عمامته وقال له: أنت أولى مني بها، فاعتمّ فارس الخوري بها وسط عاصفة من التصفيق المتواصل، ليذهب فارس الخوري بعدها إلى القصر الجمهوري بسيارة شكري القوتلي، كان فارس بك جالساً على يسار رئيس الجمهورية، وعلى طول الطريق كان رجال الدرك يؤدون التحية وكان موكب المستقبلين قد وصل أوله إلى قرية المزة، بينما لم يتحرك آخره من أرض المطار كما توقف السير في دمشق نظراً للازدحام الشديد من الأهالي ووسائل النقل.
لم يكن فارس الخوري مندوب سورية وحدها لدى المجالس والمؤتمرات الدولية، كان مندوب الدول العربية، فقد دافع عن استقلال مصر (كما ذكرنا) ودافع عن فلسطين، حتى إنه كان مندوب كل أمة تنشد الحق وتكره العدوان، وتسعى إلى التحرر من الاستعمار ونيل الاستقلال. فقد وجد فيه ممثلو دول العالم، مثال الرجل الأمين على تأدية رسالته الوطنية والإنسانية، فأحبّه وأجلّه المظلومون، كما احترمه الخصوم الظالمون، كان فارساً يخطب بلسان الأمة بكل الصدق والصراحة، يتكلم ويناقش عن سعة اطلاع، فهو من الحقوقيين المرموقين الذين يُشار إليهم بالبنان، حتى وصل لأرفع مكانة في قلوب الناس من المحبة والتقدير والإجلال والاحترام.
كان في أروقة الأمم المتحدة يصهل غاضباً، ويهدر ساخطاً على المستعمر البغيض، وكانت كلماته تخترق جدار الزمان والمكان وتستشرف المستقبل بوعي، معبرة عن نبض الشعب والوطن.
وفي عام 1954 كُلف الخوري تشكيل الوزارة السورية بعد أزمة وزارية حادة، رغم بلوغه السبعين، واستمرت وزارته حتى عام 1955، وظل يمثل سورية في لجنة القانون الدولي بجنيف حتى عام 1960.

رحيله
وكان عام 1962 عام حزن وسواد على الشعب السوري، لقد ترجل فارس الوطن أخيراً، ورحل صوت الأمة الحق، وأحس الشعب السوري بفداحة المصاب والخطب الجلل، ولُفَّ جثمانه الطاهر بالعلم السوري ووضع على عربة مدفع، وشيع جثمانه الطاهر في احتفال رسمي وشعبي مهيب.
ومشى وراء نعشه الرئيس الراحل شكري القوتلي، رفيق درب نضاله، وناظم القدسي رئيس الجمهورية يومذاك، في حين كانت المآذن تصدح بآيات الذكر الحكيم، وأجراس الكنائس تقرع توديعاً وتأبيناً للراحل العظيم.
رحل صوت الوطن المدوي في ضميرها النابض، لقد كان فارس الخوري مناضلاً شجاعاً، جسَّد ضمير شعبه وآمال وأحلام أهل وطنه، كان رمزاً من رموز الأمة، والمدافعين عن حريتها واستقلالها الذين لم يغادروا ذاكرة تاريخ الوطن، رفع صوته عالياً مدوياً ليستقل الوطن، وهو يختزن في صدره آلام أمته، وليحول القهر والعدوان الذي أصابها وليفجره في وجه الغزاة المعتدين.
كما كان رحمه اللـه من كبار رجال الفكر والأدب، كاتباً وأديباً وشاعراً يهز المنابر بكلماته ويعبر عن نبض الأمة بكل صدق وعفوية، عشق -رحمه الله- وطنه عشقاً ملأ عليه كل ذرة من كيانه، وكان هذا العشق جسر العبور نحو الخلود.
رحم اللـه أبا سهيل، فالوطن يقدر ويجلُّ رجاله العظماء ويسجل أسماءهم في ذاكرته وفي صفحاته الذهبية إلى أبد الآبدين.