حنا مينه.... شيخوخة الجسد وشباب الإبداع المتوقد

حنا مينه.... شيخوخة الجسد وشباب الإبداع المتوقد

نجم الأسبوع

الأحد، ٤ أكتوبر ٢٠٠٩

 

من قال إن الروح لا تحلق بين العقل والقلب، ومن قال إن موج البحر لا يهدر في الصحراء، ومن قال إن الشمس لا تضيء الأيام الممطرة بالخير، ومن قال إن الحياة ملهاة عبثية ليس لها نهاية، فعندما نسكب دموعنا في مياه البحر الدافئة نلون ملح الحياة وعندما نقترب من محطات حياتنا بصدق أكثر نحلق في فضاءات الآخرين وبين هذا وذاك نحاول التواصل مع شعيرات القلب حتى لو أصبحت بيضاء، الإنسان يكبر دائماً بحلمه ويحاول بروحه أن يعزف على أوتار الروح وإشراقة الأمل، وأعتقد أن ترانيم أديبنا الكبير حنا مينه وحرائق عمره لم تكن مجرد طيف عابر في الحياة بل كانت أيقونات تغرد في جذوة الروح وتحاول أن تتلمس الضفة الأخرى من الحياة، وفي رحلة التشوق بين غبار الأرض وزرقة السماء لابد أن أقول بأن إيمائيات وخربشات الروح العذبة عند مبدعنا هي التي شكلت مفردات ذائقته الأدبية..

** أبا سعد عذراً واسمح لي أن أزفك بعض المواويل الممزوجة بالآهات والأحزان بعد أن وضعت الجميع بين سطورك ولامست بهم الحجارة فأورقت وأزهرت وردة، ظهرت متفرد عطرها، تصدرت كل بوابات الحياة معلماً لنا، نراقب من خلال طيفك كل الصباحات الرمادية فنرى ضوء عينيك يتسلل بين أصابعك فيضيء لنا الصباح، علمتنا أن الواقعية كفاح والحب ليس فيه غربة، كنت دائماً ولازلت توقد المصابيح في زرقة الليل الداكنة لتنير للأجيال دروبها، لم تخف يوماً من الحياة وأنت القائل " حسابي مسدد مع الحياة والتحدي لازال قائماً وأفضل حكمة خرجت بها من هذه الحياة بأن لا يخاف الإنسان من الحياة فتخافه...؟؟ نذرت حياتك لنشر الفكر الإنساني وقيمه النبيلة فكرَّمك سيد الوطن وكرمتك الشعوب في المشرق والمغرب، قدمت أوراق روحك اعتماداً للمعذبين والمقهورين والفقراء وتحملت كل سياط الحياة وكسرت قيود الزمن، في وجهك سرد طويل لحكايات عمرك الشائك، منحت عائلتك كل ما تستطيع، وظلت أم سعد (الزوجة )المتعبة والمريضة منذ أربعين عاماً جرحاً نازفاً وصورة مضيئة في وجدانك تتلمس فيها شراكة العمر وشقاوة الحياة، بقيت وفياً لها تخدمها وتعتني بها ولم تحاول خيانتها لأنك رجل ممتلئ بالحب والوفاء، ولعل هذه المأساة الإنسانية جعلت منك تبحر وترسم المرأة الشُجاعة والمُغامرة أكثر من الرجل، وبرغم كل الآهات وشطائر المرض فإنك سعيد بتجاوزك السادسة والثمانين، ونحن سعداء أكثر بقامتك الإنسانية التي أنجبت الكثير من ملاحم الحياة..

في آخر زيارة قمت بها مع والدي للاطمئنان عن صحته رأيته كعادته هادئاً كالعمق في جذوة الصمت ولكنني لمحت شهوة الموت في عينيه الذابلتين والغائرتين، قلت له: علمتنا بأن الحياة هي أكسير حب منفرد تتحطم على جذوته دموع الخطايا الكاذبة، وتتمايل أمام عنفوانه كل فلسفات الموت واليوم أراك متعب الفكر والجسد، أبا سعد أرجوك أن تطل من بيتك في أعلى جبل قاسيون لتقول للعالم بأنك لا تزال تصارع جلمود الحياة بسيف الحب والبساطة، ابتسم أستاذنا وقال: لاتهتمّي أبداً، لقد حاولت في كل محطات حياتي البحث عن حزم الضوء وقناديل الحب، عشت مع الفقراء وأنا منهم ولا زلت أحن إليهم وعليهم، والموت نوم ياصغيرتي وأريدها نومة شكسبيرية بعد هذا التعب الجميل.

قبل أن يودعنا عند الباب رفع يده وقال مردداً قول المتنبي:

أتى الزمان بنوه في شبيبته فسرهم وأتيناه على الهرم

تقلدتني الليالي وهي مدبرة كأنني صارم في كف منهزم

أديبنا حنا مينه... أديب الإنسانية والبحر والبؤس والواقعية لن تغادرك الحياة ولن تغادرنا، فجلجامش عرف أن الخلود في الأثر، لا في الجسد، وآثارك ستبقى حية باقية كما أنت، سنديانة العطاء لها الخلود والأثر..

صوفيا طيارة