مكسيم غوركي كاتب البؤساء

مكسيم غوركي كاتب البؤساء

نجم الأسبوع

الجمعة، ٥ ديسمبر ٢٠١٤

 
ماجدة البدر
 
«إنّ الأدب هو علم الإنسان، لأنّ المادة الأساسية هي الإنسان فـي أعماله وأفكاره، وفـي أحاسيسه ومساعيه، وكلما تعمق الكاتب فـي الحياة الإنسانية لمس أفكار  قرائه وأحاسيسهم»
مكسيم غوركي
 
ولد الطفل «ألكسي مكسيموفتش بشكوف» فـي (16 آذار1868)، عمل أبوه «مكسيم سافاتيفتش بشكوف» نجاراً، وكانت أمه «بربارة واسيليفنا كاشيرينا» منصرفة للعناية بمنزلها وطفلها النابغة، توفي والده وهو فـي الرابعة من عمره، فعاش «غوركي» فـي كنف جده «واسيلي » كبير الأسرة، الذي يملك مصبغة يعمل فيها، أثرت طباعه القاسية فـي تربية حفيده ومعاملته، فكان للجدة الرائعة كولينا التي تمتعت بالطيبة المطلقة، والبساطة، الأثر الكبير فـي تهذيب طباعه فقد تولت تربيته تربية صالحة وتوجيهه وتعليمه، فغرست فيه حب المطالعة من خلال قصصها التي كانت تسردها له قبل النوم، إذ كانت واسعة الاطلاع محبة للعلم، ساعدته فـي دخول المدرسة، والتعليم، ولكن هذا الطفل البائس اضطر فـي الصف الثالث الابتدائي إلى العمل لتأمين النقود اللازمة للدراسة، ومد يد العون إلى أسرته، لأنّ أعمال جده كانت تسير من سيئ إلى أسوأ، فجمع الورق والخرق وباعها، .. ثم اضطر إلى ترك المدرسة نهائياً، حيث عمل فـي حانوت ما لبث أن اضطر إلى ترك العمل بعد أن أحرق يديه، ثم عمل فـي منزل مهندس يمسح الأرض، ويغسل الأطباق، واضطر بعد ذلك إلى أن يعمل مع الحمالين عند شواطئ نهر الفولغا، ويشاركهم عيشهم على الأرصفة وله من العمر عشر سنوات، ما قاده إلى العمل فـي سفينة كمساعد لطاهٍ اتخذه ولداً له.. كان هذا الطاهي يحب المطالعة والعلم، فعمل على تثقيف غوركي وتشجيعه على القراءة حيث قرأ مؤلفات نكراسوف، ودوماس ، وسكوت، واوسبينسكي وغيرهم..
انتقل غوركي إلى قازان حيث تعرف على الأوساط الأدبية والسياسية التي تنزع إلى الحرية، فغرست فيه الأفكار والنظريات الاشتراكية، ازداد ولعه فـي المطالعة فقرأ مؤلفات الكلاسيكين الروس والأجانب، كتب أول قصيدة له فـي عام 1889 وهي بعنوان «أغنية الفلاح العتيق» وتلتها قصائد أخرى...
شغف غوركي بروسيا حتى إنه قام برحلة كبرى فـي الأراضي الروسية، فقطع سيراً على الأقدام معظم الأراضي الروسية، فتجمعت لديه معلومات جمة عن طبيعة هذا البلد الرائع، وتلا هذه الرحلة العديد من المؤلفات منها (مكارتشودرا، والعجوز أيزرغيل، وأميليان بلياي، وفيفود.. وغيرها..).
نضجت تجربة مكسيم غوركي، وصار نجماً لامعاً، فاتجه إلى  كتابة السيرة الذاتية حيث وضع سيرة حياته فـي سلسلة من الكتب وهي[«الطفولة»1913، و«فـي الناس»1916، و«جامعاتي»1923)]...
كتب فـي كتابه الطفولة: «كلما أذكر تلك الحياة الروسية الهمجية القذرة تراني أسائل نفسي: هل من موجب للتحدث عنها؟.. فأجيب بلهجة الواثق: أجل، يجب التحدث عنها.. لأنّ هذه الحياة لا تزال قائمة حتى أيامنا هذه، ولابد من استئصالها كي تتطهر النفس الروسية، وينمو فيها الأمل فـي البعث، والسير نحو حياة إنسانية نيرة» ..
وبطل الكتب الثلاثة فـي «سيرته الذاتية» هو «اليوشا»، تحدث مكسيم غوركي من خلاله عن مساعيه لكسب قوته، والمشاق التي واجهته فـي سبيل كسب رزقه، حيث اضطر إلى التنقل من عمل إلى عمل.. فنشأت عنده نزعة إنسانية تسعى إلى تحقيق العدالة، ومقت الجور والظلم، والاندفاع وراء تحصيل العلم والمعرفة.. ثقف اليوشا نفسه، حيث تتالى قصص جدته، ثم الطاه المثقف، وقصائد بوشكين.. فشخصية اليوشا هي شخصية الشاب المكافح، الذي سعى إلى تثقيف نفسه بنفسه وتطوير تجربته الأدبية..
نشر غوركي أولى قصصه «ماكار تشودرا» فـي صحيفة القوقاس، فوقعها لأول مرة باسم مكسيم غوركي المستعار، وكان عمره أربع وعشرين سنة. ثم تابع رحلته فـي الأراضي الروسية، «ولما سأله ضابط: لماذا تجوب البلاد؟.. أجابه بكل ثقة: لأنني أريد أن أعرف روسيا..!.»
التقى غوركي بـ «كرولينكو» عام 1893، حيث قدم له قصة «تشلكاس»، فلما قرأها قال له: «لقد اتضح لي أنك قادر على خلق الشخوص وهي تتكلم وتعمل من تلقاء ذاتها، من جوهرها، وإنك قادر أيضاً على عدم التدخل فـي سير أفكارها، وأحاسيسها، وأهم ما يسترعي الانتباه فـي قصصك أنك تقدر الإنسان من حيث هو إنسان.. إنك واقعي رومانسي فـي آن واحد..».. فكان لهذه الكلمات الأثر الكبير فـي صقل تجربة غوركي وتشجيعه على المضي قدماً, حيث إنّه أصدر سنة 1898 مجموعتين قصصيتين، فذاع صيته فـي الآفاق الأدبية الروسية، فتعرف فـي تلك الفترة إلى تشيخوف وتولستوي، وصارت كتبه تترجم إلى اللغات الكبرى..
اتصل غوركي سنة 1884 بالمنظمات المناوئة للقيصر، ثم اعتقل فـي بطرسبورغ بعد حوادث دامية سنة 1905، وأفرج عنه بعد ذلك، وانتقل إلى موسكو، ولما اندلعت نيران ثورة 1905 تحول منزله إلى مقرٍ للديمقراطيين الأحرار، ولكن عندما أخمدت الحركة بوحشية هرب غوركي إلى إيطاليا.. ولم يعد إلى روسيا إلاَّ سنة 1913، ساهم مساهمة فعالة فـي المؤسسات الثقافية المهمة فـي روسيا، عين رئيساً لتحرير مجلة «الآداب العالمية»، ولكن وطأة مرض السل، أرهقته، وقضت مضجعه.. فاضطر إلى مغادرة روسيا ثانية سنة 1921... عاد إلى بلاده سنة 1928، حيث رحبت به الأوساط الأدبية الروسية، وبمناسبة مرور أربعين سنة على حياته الأدبية، استبدلت اسم مسقط رأسه من «نيجنى نوفوغورود» إلى «غوركي» وصنعت على شرفه طائرة تدار بثمانية محركات، تحتوي على بهو كبير ومطعم، ومكتبة، وغرف للنوم، وحديقة صناعية، ولها أوركسترا خاصة بها تعزف الألحان الراقصة.. فتحلق هذه الطائرة كل يوم بركابها فـي فرح ومرح، يقودها طيار شاب، وفـي يوم من الأيام قادها طيار شاب متهور فأحب أن يقوم بألعاب بهلوانية، أدت إلى ارتطام الطائرة بالأرض واستحالت إلى رماد..
عاش غوركي فـي ظل الاتحاد السوفييتي وكان له العديد من المؤلفات منها «قضية أرتامونوف» و«حياة كليم سامغين»، وتمثيليات منها «إيغور بوليتشيوف» و«ستيغايف»  وغيرها من الدراسات، وعين رئيساً لاتحاد الكتاب الروس.. أصيب غوركي بمرض السل المزمن الذي جعله يقضي آخر أيامه فـي المشفى.. بعد أن تمكن المرض من جسده الضعيف الذي أنهكته الأزمات التي مرَّ بها... ثم لم يلبث هذا المرض أن انتصر عليه.. حيث لفظ أنفاسه الأخيرة فـي المشفى سنة 1936..
رثاه مولوتوف بخطبة منها: «إن موت غوركي لهو أعظم خطب عرفناه بعد خسارة لينين، كان كاتبنا الكبير يقف فـي مصاف جبابرة كتابنا أمثال بوشكين، وغوغول، وتولستوي، وهو المتمم لتقاليدهم الأدبية.. بل إنّ أثره أفعل فينا من أثر أي أديب روسي آخر...»...