أبو الطيب المتنبي

أبو الطيب المتنبي

نجم الأسبوع

الجمعة، ١٠ أبريل ٢٠١٥

أبو الطيب المتنبي (303هـ - 354هـ) (915م - 965م) هو أحمدُ بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي أبو الطيب الكندي الكوفي المولد، نسب إلى قبيلة كندة نتيجة لولادته بحي تلك القبيلة في الكوفة لانتمائه لهم. عاش أفضل ايام حياته واكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب وكان أحد أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية. فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء. وهو شاعرحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي. وتدور معظم قصائده حول مدح الملوك. ويقولون عنه بانه شاعر اناني ويظهر ذلك في اشعاره. قال الشعر صبياً. فنظم أول اشعاره وعمره 9 سنوات. اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً. [1][2][3]

صاحب كبرياء وشجاع وطموح ومحب للمغامرات. وكان في شعره يعتز بعروبته، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. ترك تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدأ فيها وكأنه يودعه الدنيا عندما قال: أبلى الهوى بدني.

شهدت الفترة التي نشأ فيها أبو الطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب كانت نشأة أبي الطيب، وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة مستغلاً شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام أثمر عن عبقرية في الشعر العربي. كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، أعلن عنه في شعره تلميحاً وتصريحاً حتى أشفق عليه بعض اصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في دهوك فلم يستمع له وإنما أجابه ً: أبا عبد الإله معاذ أني. إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن.
المتنبي وسيف الدولة الحمداني
تمثال المتنبي في شارع المتنبي ببغداد

ظل باحثاً عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 هـ، واتصل بسيف الدولة ابن حمدان، أمير وصاحب حلب، سنة 337 هـ وكانا في سن متقاربه، فوفد عليه المتنبي وعرض عليه أن يمدحه بشعره على ألا يقف بين يديه لينشد قصيدته كما كان يفعل الشعراء فأجاز له سيف الدولة أن يفعل هذا وأصبح المتنبي من شعراء بلاط سيف الدولة في حلب، وأجازه سيف الدولة على قصائده بالجوائز الكثيرة وقربه إليه فكان من أخلص خلصائه وكان بينهما مودة واحترام، وخاض معه المعارك ضد الروم، وتعد سيفياته أصفى شعره. غير أن المتنبي حافظ على عادته في أفراد الجزء الأكبر من قصيدته لنفسه وتقديمه إياها على ممدوحه، فكان أن حدثت بينه وبين سيف الدولة فجوة وسعها كارهوه وكانوا كثراً في بلاط سيف الدولة.

ازداد أبو الطيب اندفاعاً وكبرياء واستطاع في حضرة سيف الدولة في حلب أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرماً مميزاً عن غيره من الشعراء في حلب. وهو لا يرى إلا أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة، إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده، إلى أنه مطمئن إلى إمارة حلب العربية الذي يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعداً وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحياناً بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه. ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية، إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان.

وفي المواقف القليلة التي كان المتنبي مضطرا لمراعاة الجو المحيط به، فقد كان يتطرق إلى مدح آباء سيف الدولة في عدد من القصائد، ومنها السالفة الذكر، لكن ذلك لم يكن إعجابا بالأيام الخوالي وإنما وسيلة للوصول إلى ممدوحه، إذ لا يمكن فصل الفروع عن جذع الشجرة وأصولها كقوله:
من تغلب الغالبين الناس منصبه         ومن عدّي أعادي الجبن والبخل
خيبة الأمل وجرح الكبرياء

أحس بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير. وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر والأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما. وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وأصابته خيبة الأمل لاعتداء ابن خالويه عليه بحضور سيف الدولة حيث رمى دواة الحبر على المتنبي في بلاط سيف الدولة، فلم ينتصف له سيف الدولة، ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، لم يستطع أن يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها : (لا تطلبن كريماً بعد رؤيته). بعد تسع سنوات ونصف في بلاط سيف الدولة جفاه الأمير وزادت جفوته له بفضل كارهي المتنبي ولأسباب غير معروفة قال البعض أنها تتعلق بحب المتنبي المزعوم لخولة شقيقة سيف الدولة التي رثاها المتنبي في قصيدة ذكر فيها حسن مبسمها، وكان هذا مما لا يليق عند رثاء بنات الملوك. انكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربط سيف الدولة بالمتنبي.

فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقه يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلب، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة وبعد ترحاله في بلاد عديده بقي سيف الدولة في خاطر ووجدان المتنبي.

مدح كافوراً الإخشيدي وأبا شجاع، وأقام في مصر ردحاً من الزمن يرقب الفرصة من كافور فيصعد المجد على كاهله، فماهو إلا أن قال:
أبا المسك ، هل في الكأس فضلٌ أناله         فإني أغني منذ حين وتشرب

وقال:
   
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا         ودون الذي أملت منك حجاب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة         سكوتي بيان عندها وجواب

حتى أوجس كافور منه خيفة، لتعاليه في شعره وطموحه إلى الملك، فزوى عنه وجهه، فهجاه وقصد بغداد، وكان خروجه من مصر في يوم عيد، وقال يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على كافور وحاشيته، والتي كان مطلعها:
   
عيد بأية حال عدت يا عيد         بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم         فليت دونك بيدا دونها بيد

وفي القصيدة هجوم شرس على كافور وأهل مصر بما وجد منهم من إهانة له وحط منزلته وطعنا في شخصيته ثم إنه بعد مغادرته لمصر قال قصيدةً يصف بها منازل طريقه وكيف أنه قام بقطع القفار والأودية المهجورة التي لم يسلكها أحد، وفي مطلعها يصف ناقته:
   
ألا كل ماشية الخيزلى         فدى كل ماشية الهيذبى
وكل نجاة بجاوية         خنوف وما بي حسن المشى
ضربت بها التيه ضرب القما         رِإما لهذا وإما لذا
إذا فزعت قدمتها الجياد         وبيض السيوف وسمر القنا

وفيها يصف منازل طريقه:
   
وجابت بُسيطة جوب الرَّداء         بين النَّعَام وبين المها
إلى عُقدة الجوف حتى شَفَت         بماء الجُرَاوِيّ بعض الصدا
ولاحَ لها صورٌ والصَّبَاح         ولاحَ الشَّغور لها والضَّحَا

وهي قصيدة يميل فيها المتنبي إلى حد ما إلى الغرابة في الألفاظ ولعله يرمي بها إلى مساواتها بطريقه. وذكر في قصائده بعض المدن والمواضع الواقعة ضمن الحدود الإدارية لدُومة الجندل، والتي منها:
   
حَتّامَ نحنُ نُساري النّجمَ في الظُّلَمِ         ومَا سُرَاهُ على خُفٍّ وَلا قَدَمِ
وَلا يُحِسّ بأجْفانٍ يُحِسّ بهَا         فقْدَ الرّقادِ غَريبٌ باتَ لم يَنَمِ
تُسَوِّدُ الشّمسُ منّا بيضَ أوْجُهِنَا         ولا تُسَوِّدُ بِيضَ العُذرِ وَاللِّمَمِ
وَكانَ حالهُمَا في الحُكْمِ وَاحِدَةً         لوِ احتَكَمْنَا منَ الدّنْيا إلى حكَمِ
وَنَترُكُ المَاءَ لا يَنْفَكّ من سَفَرٍ         ما سارَ في الغَيمِ منهُ سارَ في الأدَمِ
لا أُبْغِضُ العِيسَ لكِني وَقَيْتُ بهَا         قلبي من الحزْنِ أوْ جسمي من السّقمِ
طَرَدتُ من مصرَ أيديهَا بأرْجُلِهَا         حتى مَرَقْنَ بهَا من جَوْشَ وَالعَلَمِ
تَبرِي لَهُنّ نَعَامُ الدّوّ مُسْرَجَةً         تعارِضُ الجُدُلَ المُرْخاةَ باللُّجُمِ

ولمّا وصل إلى بسيطة، رأى بعض غلمانه ثورًا فقال : هذه منارة الجامع ورأى آخر نعامة برية فقال: هذه نخلة، فضحك أبو الطيب وقال:
   
بُسيطة مهلاً سُقيت القطارا         تركت عيون عبيدي حيارا
فظنوا النعام عليك النخيل         وظنوا الصوار عليك المنارا
فأمسك صحبي بأكوارهم         وقد قصد الضحك فيهم وجارا

ومما قاله في مصر ولم ينشدها الأسود ولم يذكره فيها، وفيها يشكو معاناته من الزمن:
   
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا         وعناهم من شأنه ما عنانـا
وتولو بغصة كلهم منه         وإن سـر بعضـهم احيــانـا
رُبما تُحسِنُ الصّنيع لَيَالِيـ         ـهِ ولكِن تكدرُ الإحْسَانا
وكأنا لم يرض فينا بريب الـ         دهر حتى اعانه من اعانـا
كلما انبت الزمان قناة         ركب المرء في القناة سنانـا
ومراد النفوس اصغر من أن         نتـعـادى فيه وأن نتـفـانـى
غير أن الفتى يلاقي المنــــايـــا         كالـــحات ولا يـلاقي الهوانا
ولو أن الحياة تبقى لحي         لــعددنا أضــلـنا الشجــعـنــا
وإذا لم يكن من المــوت بد         فمن العجز أن تكون جبانا
كل مالم يكن من الصعب في الأنـــ         ــفس سهل فيها إذا هو كانا

لم يكن سيف الدولة وكافور هما من اللذان مدحهما المتنبي فقط، فقد قصد امراء الشام والعراق وفارس. وبعد عودته إلى الكوفة، زار بلاد فارس، فمر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد، وكانت له معه مساجلات. ومدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز وذالك بعد فراره من مصر إلى الكوفة ليلة عيد النحر سنة 370 هـ.
شعره وخصائصه الفنية

شعر المتنبي كان صورة صادقة لعصره، وحياته، فهو يحدثك عما كان في عصره من ثورات، واضطرابات، ويدلك على ما كان به من مذاهب، وآراء، ونضج العلم والفلسفة. كما يمثل شعره حياته المضطربة: فذكر فيه طموحه وعلمه، وعقله وشجاعته، وسخطه ورضاه، وحرصه على المال، كما تجلت القوة في معانيه، وأخيلته، وألفاظه، وعباراته.وقد تميز خياله بالقوة والخصابة فكانت ألفاظه جزلة، وعباراته رصينة، تلائم قوة روحه، وقوة معانيه، وخصب أخيلته، وهو ينطلق في عباراته انطلاقاً ولا يعنى فيها كثيراً بالمحسنات والصناعة.ويقول الشاعر العراقي فالح الحجية في كتابه في الأدب والفن ان المتنبي يعتبر وبحق شاعر العرب الأكبر عبر العصور.
أغراضه الشعرية

المدح الإخشيدي، وقصائده في سيف الدولة تبلغ ثلث شعره أو أكثر، وقد استكبر عن مدح كثير من الولاة والقاده حتى في حداثته. ومن قصائده في مدح سيف الدولة:
   
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف         كأنك في جفن الرَّدى وهو نائم
تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمـةً         ووجهك وضاحٌ، وثغرُكَ باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى         إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم

و كان مطلع القصيدة:
   
عَـلَى قَـدرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ         وتَــأتِي عَـلَى قَـدرِ الكِـرامِ المَكـارِم
وتَعظُـم فـي عَيـنِ الصّغِـيرِ صِغارُها         وتَصغُـر فـي عَيـنِ العَظِيـمِ العَظـائِمُ
الوصف

أجاد المتنبي وصف المعارك والحروب البارزة التي دارت في عصره وخاصة في حضرة وبلاط سيف الدولة، فكان شعره يعتبر سجلاً تاريخياً. كما أنه وصف الطبيعة، وأخلاق الناس، ونوازعهم النفسية، كما صور نفسه وطموحه. وقد قال يصف شِعب بوَّان، وهو منتزه بالقرب من شيراز :
   
مَغَاني الشِّعْبِ طِيباً في المَغَاني         بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ
وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيّ فِيهَا         غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ
مَلاعِبُ جِنّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَا         سُلَيْمَانٌ لَسَارَ بتَرْجُمَانِ
طَبَتْ فُرْسَانَنَا وَالخَيلَ حتى         خَشِيتُ وَإنْ كَرُمنَ من الحِرَانِ
غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا         على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ
فسِرْتُ وَقَدْ حَجَبنَ الحَرّ عني         وَجِئْنَ منَ الضّيَاءِ بمَا كَفَاني
وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي         دَنَانِيراً تَفِرّ مِنَ البَنَانِ
لها ثمر تشـير إليك منـه         بأَشربـةٍ وقفن بـلا أوان
وأمواهٌ يصِلُّ بها حصاهـا         صليل الحَلى في أيدي الغواني
إذا غنى الحمام الوُرْقُ فيها         أجابتـه أغـانيُّ القيـان

وقال يعاتب سيف الدولة ويفخر بنفسه وشعره:
   
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي         و أسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها         ويسهر الخلق جراها ويختصم
و جاهل مده في جهله ضحكي         حتى أتته يد فراسة وفم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة         فلا تظنن أن الليث يبتسم
و مهجة مهجتي من هم صاحبها         أدركته بجواد ظهره حرم
رجلاه في الركض رجل واليدان يد         وفعله ماتريد الكف والقدم
ومرهف سرت بين الجحفلين به         حتى ضربت وموج الموت يلتطم
الخيل والليل والبيداء تعرفني         والسيف والرمح والقرطاس والقلم
الهجاء

لم يكثر الشاعر من الهجاء. وكان في هجائه يأتي بحكم يجعلها قواعد عامة، تخضع لمبدأ أو خلق، وكثيراً ما يلجأ إلى التهكم، أو استعمال ألقاب تحمل في موسيقاها معناها، وتشيع حولها جو السخرية بمجرد اللفظ بها، كما أن السخط يدفعه إلى الهجاء اللاذع في بعض الأحيان. وقال يهجو طائفة من الشعراء الذين كانوا ينفسون عليه مكانته:
   
أفي كل يوم تحت ضِبني شُوَيْعرٌ         ضعيف يقاويني، قصير يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل         وقلبي بصمتي ضاحكُ منه هازل
وأَتْعَبُ مَن ناداك من لا تُجيبه         وأَغيظُ مَن عاداك مَن لا تُشاكل
وما التِّيهُ طِبِّى فيهم، غير أنني         بغيـضٌ إِلىَّ الجاهـل المتعاقِـل

ومن قوله في هجاء كافور:
   
من أية الطرق يأتي مثلك الكرم         أين المحاجم ياكافور والجلم
جازا الأولى ملكت كفاك قدرهم         فعرفوا بك أن الكلب فوقهم
سادات كل أناس من نفوسهم         وسادة المسلمين الأعبد القزم
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم         يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
ألا فتى يورد الهندي هامته         كيما تزول شكوك الناس والتهم
فإنه حجة يؤذي القلوب بها         من دينه الدهر والتعطيل والقدم
ما أقدر الله أن يخزي خليقته         ولا يصدق قوما في الذي زعموا

بيد أن أبرز ما أتى به المتنبي على مستوى الهجاء كان القصيدة الشهيرة التي كتبها بعد فراره من مصر حيث استبقاه قسرًا كافور الإخشيدي. وتعتبر قصيدة هجاء كافور من أكثر قصائد الهجاء قسوة. ومما جاء فيها:
   
يا ساقيي أخمـر فـي كؤوسكمـا         أم فـي كؤوسكمـا هـم وتسهيـد
أصخرة أنـا مالـي لا تحركنـي         هذي المدام ولا هـذي الأغاريـد
إذا أردت كميـت اللـون صافيـة         وجدتها وحبيـب النفـس مفقـود
ماذا لقيـت مـن الدنيـا وأعجبـه         أني بما أنـا شاكٍ منـه محسـود
إني نزلت بكذابين ضيفهم         عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي وجودهم         من اللسان فلا كانوا ولا الجود
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهـم         إلا وفي يـده مـن نتنهـا عـود
أكلما اغتال عبـد السـوء سيـده         أو خانه فله فـي مصـر تمهيـد
صار الخصي إمام الآبقين بها         فالحر مستعبد والعبد معبود
نامت نواطير مصر عن ثعالبها         فقد بشمن وما تفنى العناقيد
العبد ليـس لحـر صالـح بـأخ         لو أنه فـي ثيـاب الحـر مولـود
لا تشتر العبد إلا والعصـا معـه         إن العبيـد لأنـجـاس مناكـيـد
ما كنت أحسبني أحيا الـى زمـن         يسيء بي فيه عبد وهـو محمـود
ولا توهمت أن الناس قد فقدوا         وأن مثل أبي البيضاء موجود
وأن ذا الأسود المثقـوب مشفـره         تطيعه ذي العضاريـط الرعاديـد
جوعان يأكل من زادي ويمسكنـي         لكي يقال عظيـم القـدر مقصـود
وَيْلُمِّها خُطّةً ويْلُمِّ قابِلها         لمثْلها خلق المهْرِيّةُ القود
وَعِنْدها لذّ طعْم الموْت شاربه         إنّ المنيّة عنْد الذّلّ قنْديد
من علم الأسود المخصيَّ مكرمـة         أقومه البيـض أم آباؤه الصيـد
أم أذنه فـي يـد النخـاس داميـة         أم قدره وهـو بالفلسيـن مـردود
أولى اللئام كويفيرٌ بمعذرة         في كل لؤم، وبعض العذر تفنيد
وذاك أن الفحول البيض عاجزة         عن الجميل، فكيف الخصية السود؟؟
الحكمة

اشتهر المتنبي بالحكمة وذهب كثير من أقواله مجرى الأمثال لأنه يتصل بالنفس الإنسانية، ويردد نوازعها وآلامها. ومن حكمه ونظراته في الحياة:
   
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ         فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ         كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
يرَى الجُبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ         وتِلكَ خَديعَةُ الطّبعِ اللّئيمِ
وكمْ من عائِبٍ قوْلاً صَحيحاً         وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمِ
ولكِنْ تأخُذُ الآذانُ مِنْهُ         على قَدَرِ القَرائحِ والعُلُومِ

كذلك يقول:
   
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به         في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
والهجر أقتل لي مما اراقبه         أنا الغريق فما خوفي من البلل
مقتله

كان المتنبي قد هجا ضبة بن يزيد الأسدي العيني بقصيدة شديدة مطلعها:
   
مَا أنصَفَ القَومُ ضبّه         وَأمهُ الطرْطبّه
وإنّما قلتُ ما قُلـ         ـتُ رَحمَة لا مَحَبه

فلما كان المتنبي عائدًا إلى الكوفة، وكان في جماعة منهم ابنه محمد وغلامه مفلح، لقيه فاتك بن أبي جهل الأسدي، وهو خال ضبّة، وكان في جماعة أيضًا.فتقاتل الفريقان وقُتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول غربيّ بغداد.

قصة قتله أنه لما ظفر به فاتك أراد الهرب فقال له غلامه : اتهرب وأنت القائل :
   
الخيل والليل والبيداء تعرفني         والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فرد عليه بقوله قتلتني قتلك الله.