في المعادلة التفاضلية المعيشية المهن الحرة.. دخل مادي عال.. أرباح سريعة.. وتفوق واضح على امتيازات الوظيفة العامة!

في المعادلة التفاضلية المعيشية المهن الحرة.. دخل مادي عال.. أرباح سريعة.. وتفوق واضح على امتيازات الوظيفة العامة!

أخبار سورية

الاثنين، ٩ يناير ٢٠١٧

تنبئ نظرتها الغاضبة عن تلقيها صدمة للتو، فجلست في السرفيس تكلم نفسها، وتعابير وجهها تضج بالغضب والحقد، بينما الجميع مندهش لمفرداتها التي تجاوزت المسموح، لتلقي اللوم على الأزمة تارة، وعلى المستفيدين منها تارة أخرى، فتقول: “أفنيت عمري في الدراسة، والعمل، وراتبي نصف راتبها”، بعدما هدأت من روعها، بدأت تسرد تفاصيل صدمتها عن خبر سمعته من صديقتها يفيد بأن خادمة الصديقة تتقاضى مبلغ تسعين ألف ليرة سورية شهرياً لقاء خدماتها في المنزل، بينما السيدة عبير خريجة إعلام، وتعمل منذ عشر سنوات، ولايزال راتبها لا يرتقي إلى النصف، مع بعض الحوافز والإضافات.. حديثها فتح شجون الحضور، ليروي كل منهم معاناته مع ارتفاع تكاليف المعيشة، وفروق الرواتب، فيصب أحدهم حديثه على سنوات الدراسة، والآمال العريضة التي رسمها لتحقيق مستقبل لائق بجهده، ودراسته، ومكانة اجتماعية مرموقة لعلمه، ولكن الخيبة بدت في ملامحه بقراءته لواقع بعض الفئات ممن لم يرتد مدرسة، ولم يطلب العلا بسهر الليالي، لكنه حظي بفرصة لعمل حر يكسبه أضعاف راتب من يحوز شهادة علمية عليا، ليكون التوجه الأكبر إليها، في حين يبقى من أمضى سنوات عمره في الجامعات رهين مستحقات ثابتة لا تتلاءم مع مكانته العلمية، فهل تغير الأزمة توجهات السوريين إلى ميادين العمل الحر، ليتقدم على حساب العلم والثقافة التي خسرت قوتها في مواجهة ظروف الحياة، أم نعيد المكانة والاحترام للعلم برفع سويته، وتعزيز قدراته المادية؟!.
واقع الحال
بقراءة واقعية لواقع بعض أصحاب المهن الحرة، يحدثنا حسام محفوظ، “تاجر عقارات”، عن إيجابيات العمل الحر، بدءاً من الدخل المالي الذي يتناسب طرداً مع متطلبات الواقع، وغلاء الأسعار، بعكس الراتب الثابت تبدو المفارقات الصارخة.. فحسام ممن تركوا الجامعة بعد ثلاث سنوات في قسم علم الاجتماع، واستقال من وظيفته بعد معاناته من ضعف المورد المادي، ليتجه إلى عالم التجارة والعقارات، فبدأ بمغامرة، “على حد قوله”، بيع منزله، والمتاجرة بثمنه في مجال البناء لعدة سنوات، ثم طوّر عمله إلى تجارة واستثمار العقارات بفضل مهارته وخبرته، وأسس مكتباً للمقاولات، ويضيف: اليوم عملي عوّضني وعوّض عائلتي مادياً، بينما أخي لايزال يتقاضى راتباً لا يكفيه لنهاية الشهر، ويضطر إلى عمل مسائي آخر لسد احتياجاته المادية الشهرية، ما يكبده جهداً جسدياً، وضغطاً نفسياً وصحياً يجعله غير راض عن واقعه، ومنعزلاً عنه اجتماعياً، وهذه أحوال معظم الشباب السوري ممن تركوا دراستهم الجامعية، وانخرطوا في سوق العمل لمهن لا تحتاج شهادات جامعية، وها هم اليوم مواردهم تتفوق على من تابع دراسته، وحاز على الشهادات، أو يلتزمون بأعمال كثيرة منهكة صحياً ونفسياً!.

تقييم خاطئ
انجراف الشباب إلى سوق العمل على حساب الدراسة والتحصيل العلمي بسبب سوء الظروف المادية خلق أزمة في تقييم المجتمع للإنسان حسب إمكانياته المادية، وعلى حساب المكانة العلمية، وأثر سلباً على حرص العديد لمتابعة الدراسة، فنرى تغيّر نظرة الشباب  للعلم، وإلقاءه جانباً، والتقينا العديد من الشباب ممن فضّلوا العمل على العلم، منهم أحمد كنعان الذي بدأ الأمر به بتأجيل متتال لسنوات دراسته في كلية التاريخ، ليتسنى له الوقت ليلتزم بوظيفته في منشأة صناعية تضمن له على حد قوله مستوى جيداً من المعيشة، وكما يقول: عملي في المنشأة لا يحتاج إلى شهادات، أو خبرة، بل يحتاج إلى وقت طويل فقط لدوام كامل، ويؤمن دخلاً جيداً لأسرتي، كما استنكر فكرة العمل مع دراسته، فهي من المستحيل حسب قوله بسبب سوء الوضع المادي، بل ذهب إلى أكثر من ذلك حين سألنا: ماذا أفعل بعد التخرج في الجامعة، هل أبقى أنتظر وظيفة في قطاع حكومي براتب لا يكفي أياماً معدودة من الشهر، أم أبدأ عملي من الآن وأتقي شر الحاجة والانتظار غير المثمر؟!.

تغيير قيمي
وانطلاقاً من التخوف من سيادة النظرة المجتمعية لأصحاب المهن الحرة بمعزل عن تحصيلهم العلمي، وأثرها على المجتمع، وخاصة فئة الشباب ممن انعدم لديهم حافز التعليم، وانخراطهم في سوق العمل، شاركنا الرأي الدكتور طلال مصطفى “علم اجتماع” ليوضح لنا أثرها في مستوى المجتمع السوري، حيث أكد وجود حالات مقارنة يفوز فيها التاجر أو البائع الجوال “كبائع المحروقات” على حائز شهادة علمية عليا بالمكانة الاجتماعية لارتفاع دخله وقدرته على تأمين حاجيات أسرته، ولأن الأزمة خلقت خللاً في تأمين الحاجات الأساسية للإنسان من ماء وطعام ومحروقات، فقد تشكلت دوافع في المجتمع باتجاه الأعمال الحرة التي تؤمن مداخيل اقتصادية عالية وسريعة قد تكون “يومية” تكفي احتياجات الأسرة طيلة الشهر، ليتبعه تغيير سلبي للأسف لدى المجتمع بالتقييم الاجتماعي للأشخاص بحسب إمكاناتهم المادية وليست ثقافتهم وشهاداتهم العلمية، فيرى الدكتور مصطفى أن المكانة الاجتماعية مرتبطة بالمكانة الاقتصادية بشكل وثيق، لذلك خلقت الأزمة رأياً عاماً بتقييم اجتماعي أفضل لذوي الدخل الأعلى والميسورين بغض النظر عن المهنة أو التعليم، وحسب د. مصطفى، خسارة أصحاب المهن الفكرية والعلمية للمكانة المرموقة في المجتمع، تعني ارتفاع نسبة الأمية وتدني نسبة حاملي الشهادات العليا، ما ينحو بالمجتمع إلى التخلف والجهل وسيطرة الأعمال التجارية واليدوية عليه، وفي أسوأ الحالات إلى الاندثار، لانعدام مواكبته للتقدم والتطور والتكنولوجيا العلمية، ولكنه يختم حديثه بنظرة تفاؤلية بوصفها حالة مؤقتة في زمن الأزمة فقط، مع التأكيد على ضرورة عمل الحكومة والجهات المعنية على إعادة النظر برواتب ذوي الشهادات والأعمال الفكرية لإيجاد الحافزية للعلم والتحصيل العلمي، وضمان ارتقاء المجتمع السوري.

اتساع الفجوة
توجه أحمد إلى سوق العمل، كحال الكثير من الشباب ليشكلوا ظاهرة تفضيل العمل على الدراسة، واستثمار سنوات الجامعة في اكتساب خبرات لعمل أفضل مما ينتظرهم بعد التخرج، خاصة في ظل الأزمة التي سببت بارتفاع كبير للأسعار وتكاليف الحياة المعيشية لا يتحملها أعلى راتب في الوظائف العامة، حيث بين الدكتور زكوان قريط، خبير اقتصادي، الفجوة الهائلة التي أحدثتها الأزمة بين الرواتب والأسعار، ما خلق الحاجة إلى لأكثر من عمل واحد، وأكد على ضرورة اتباع سياسات لتقليص تلك الفجوة، قد يكون أهمها بزيادات مدروسة على الرواتب مع ضمان ضبط الأسعار في الأسواق وتخفيض نسبة الضرائب على الرواتب، وتطرق في حديثه إلى طرق تفعيل نظام الحوافز بشكل يضمن العمال للالتزام بعملهم، مع ربط الإنتاج بالدخل، الأمر الذي يحدث فوراق مادية بينهم ويحث الجميع على العطاء والإنتاج، بالإضافة إلى ضمانات الطبابة والمواصلات المجانية لكافة العمال لتخفيض النفقات.

تنظيم سوق العمل
ورأى قريط أن المشكلة في احتياجات سوق العمل الذي يملأ بكافة أشكال اليد العاملة دون الرجوع إلى الشهادات العلمية أو الخبرة، فتوجه الشباب إليه كبديل سريع لجني الأموال بعيداً عن سنوات الدراسة، بالإضافة إلى ميزاته بإحساس الفرد بالاستقلالية التامة وبعيداً عن السيطرة الإدارية التي توسم القطاع الحكومي، سيما وأنه مرتبط أيضاً بإنتاج الشخص وساعات عمله، ما يشكل لديه دافعاً أكبر للعطاء والجهد، أما الوظائف العامة فتبقى مرهونة برواتب ثابتة إلى حد ما، والحوافز المالية أو المكافآت تشوبها القرارات الفردية ومزاجية المدير، ويرجع السبب الأهم، د. زكوان، إلى عدم وجود هيئة تنظم سوق العمل، وترتب الفرص بحسب حاجاته كهيئة مكافحة البطالة التي أحدثت منذ سنوات، ولم يكن عملها على مقدار أهمية إحداثها، ويضيف اليوم نحن أحوج ما نكون إلى إحداث وتفعيل هكذا هيئات بطرق علمية فعالة تربط العمل بمعايير وخبرات علمية أو تدريبية وتحد من التدفق العشوائي إلى سوق العمل، وفي حديثه بيّن تقصير المؤسسات العامة عن إطلاق المسابقات التي تمتص فائض العمالة من الشهادات العلمية.

وأخيراً..
يبقى أن نؤكد نظرة علماء الاجتماع بأنها فترة مؤقتة يمر بها الوطن لاجتياز محنته، ونبقى مؤمنين بنصره القريب على أعدائه خارجياً وداخلياً، ومهمتنا الأساسية هي البقاء في مواقعنا نحارب بعلمنا وقلمنا ليتعافى من إرهاصات الأزمة، والعمل على تحفيز أبنائه إلى طريق العلم والمعرفة للارتقاء بمستوى بلدنا وضمان مستقبله.
فاتن شنان