مازالت الحلم المزيَّن بالأوهام والصيت البائد..؟! لوثــة الوظيفة العامة.. تســتحوذ على طالبــي الفــرص فــي ســوق العمــل..

مازالت الحلم المزيَّن بالأوهام والصيت البائد..؟! لوثــة الوظيفة العامة.. تســتحوذ على طالبــي الفــرص فــي ســوق العمــل..

أخبار سورية

الأربعاء، ١٥ فبراير ٢٠١٧

لا تلبث وسائل الإعلام بالإعلان عن مسابقة ما لصالح وزارة، أو أي مؤسسة حكومية، حتى نرى منذ ساعات الفجر الأولى آلاف الشباب المندفعين المثقلة رؤوسهم بحلم الوظيفة الحكومية، يتهافتون إلى أبواب تلك المؤسسة لتقديم أوراقهم، لعل الحظ يحالفهم في تحقيق رغبتهم ورغبة أهاليهم في أن يكون ابنهم موظفاً أو ابنتهم موظفة لدى الدولة.
عندما ترى هؤلاء الشباب المندفعين، تتساءل بينك وبين نفسك : هل حقاً مازال حلم الوظيفة يراود شبابنا، سواء أكانوا خريجين جدد أم قدامى، ويعتبرونه قمة السعادة؟، أم أن الأمر مجرد تحقيق رغبة الوالدين في أن يكون ابنهم موظفاً؟.. أم أن كل ما ندعو له من ضرورة البحث عن فرصة العمل بدلاً من انتظارها هو مجرد مشروع لم يأخذ صداه بعد عند معظم الشباب السوري؟.
رغبة العاطلين عن العمل
المشكلة الأساسية برأي الدكتور عابد فضلية أستاذ الاقتصاد، تكمن في سوق العمل، فلا توجد في بلادنا سوق عمل تكفي، وتحقق طموحات طالبي العمل، حيث إن 90% من المؤسسات الخاصة في سوق العمل هي منشآت غير مستقرة،  وخاصة في ظل الأزمة الحالية، إذ لا يشعر الشباب بالأمان وضمان المستقبل في حال العمل لديها، فتحقيق الأمان الوظيفي يعد حاجة مهمة من الحاجات الرئيسة التي ينشدها الإنسان في الحياة، والملاحظ سلبية العمل في بعض قطاعات العمل الخاص، لذلك فقد ألقت الوظيفة الحكومية بظلالها على عقول الكثير من الباحثين عن العمل لمزاياها العديدة، وأصبح من الواضح قبل الأزمة وبعدها أن الغالبية من العاطلين عن العمل يرغبون بالوظيفة الحكومية.

ميّزات بطعم الفوضى
فيما يرجع الدكتور حسين جمعة ” جامعة دمشق ”  سبب تفضيل المواطن السوري للوظيفة الحكومية، ليس بسبب جودتها،  كما يسوق البعض، وإنما لحرية الهروب والغياب، وقلة العمل، وأخذ إجازات ساعية، وتحويلات مرضية، غير أن للدكتور إبراهيم زعرور “جامعة دمشق” رأياً مخالفاً، مبرراً سبب التهافت على الوظيفة الحكومية بقوله: من منا لم يكن طموحه العمل في قطاع الدولة لأنه كان، ومازال يمثل الاستقرار والأمان، وضمان التأمين المعاشي والصحي، وساعات العمل القليلة، ومعترفاً بغياب الرقابة.

استغلال العمال
في حين شن الدكتور عبد الله الشاهر “عضو اتحاد الكتّاب العرب” هجوماً عنيفاً على عقلية القطاع الخاص في بلدنا، معتبراً سلوكيات العمل فيه عكس سلوكيات العمل في بلاد العالم، فهو لم يزرع الثقة على مدار السنين، وتقادم الزمن في نفوس الجيل، وخاصة البنات، لأن إدارات الشركات والمعامل والمصانع، وحتى الورشات الخاصة تتهرب من حقوق العمال البسيطة، خاصة التأمينية والصحية والتقاعدية، وصولاً إلى استغلال العمال، وطرد بعضهم لمن لا يستجيب لرغباتهم مهما كانت قاسية تحت حجج واهية.

كلمة السر
ويجيب الدكتور آصف يوسف “كلية التربية” على سر تفضيل الفتاة العمل الحكومي لعدة أسباب أهمها: حالة الاستقرار التي تنشدها المرأة بطبيعتها، كذلك فإن الراتب الحكومي يكفيها في إطار المسؤوليات الاقتصادية الملقاة على عاتقها من قبل المجتمع، فالمسؤولية الاقتصادية تجاه الفتاة محدودة، ناهيك عن التحرشات التي تهدد بقاء المرأة في عملها بالقطاع الخاص، وهذه التحرشات غالباً ما نسمع عن وجودها في القطاع الخاص أكثر من تلك الموجودة في العمل الحكومي، ومنه تخضع المرأة لعلاقة المساومة بين البقاء في العمل والاستسلام لرضا رب العمل، بينما في العمل الحكومي نجد أن المدير لا يستطيع التخلي، أو فصل الموظف نهائياً من عمله، وأكثر ما يملك زمامه هو نقل الموظف من مكانه، لذا فالعمل الحكومي يجعل المرأة تشعر بالاستقرار الوظيفي، والأمان الذي تنشده بطبيعتها الأنثوية.
مقارنة
في حال وُجدت قوانين تحمي العامل في القطاع الخاص، كما في القطاع الحكومي، من إجازات وتأمين صحي وراتب تقاعدي، تحمي العامل في مستقبله، بالتالي يصل الموظف إلى حالة الاستقرار الوظيفي، عندها سيكون الإقبال على العمل الخاص أكبر، وفق تعبير الدكتور محمد أكرم القش “عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية” ولكن الذي يحدث  في القطاع الخاص أن حالات الطرد أو التخلي عن الموظف تخضع لمزاج أو تقييم ذاتي، بالتالي لحالة كبيرة من الفوضى يخشاها الموظف الخاص، والوضع في القطاع الحكومي ليس أحسن حالاً، فأخلاقيات العمل  المخلص معدومة عند معظم الموظفين لدينا، فموظفنا يتقاضى راتبه في الدولة بغض النظر عن الجهد المبذول، فالموظف الذي يعمل بشكلٍ متفانٍ يحصل على نفس راتب الموظف الذي لا يبذل أي مجهود،  في المقابل نجد أنه في القطاع الخاص عليك أن تقدم أولاً ومن ثم تتقاضى أجراً، فرب العمل في القطاع الخاص يحاول أن يستفيد ويستهلك كل ما لدى العامل من طاقة ليعطيه أجره، وهذا ما يجعل الشاب يلجأ للعمل الحكومي، إذاً العام والخاص، أحسنهم سيئ.؟

كلام في الصميم
ومن التنظير الأكاديمي إلى الرأي الخاص بما ينسب إليهم من تهم، فالمهندس فريد خوندا “شركة نقليات خاصة” يقول من المؤسف أن الشباب السوري حتى الخريج والمختص منه لا يجيد شيئاً، فهو يريد أن يقبض رواتب وزيادات دون أن يقدم شيئاً أو يطور نفسه، وهذه  الفلسفة لا تتناسب مع عقلية القطاع الخاص، فالقطاع الخاص يبحث عن نوعية الموظف واختصاصه وتميّزه، وهو لا يبخل لا بالتأمينات ولا بالزيادات ولا في الترفيعات، ولكن في المقابل، لا مكان للكسل والتفييش والتقاعس في القطاع الخاص كما هو الحال في القطاع العام، والشباب السوري للأسف  يفضلون القطاع العام ليس كما يسوقون ويبررون حول البحث عن الأمان والاستقرار، وإنما البحث عن الفوضى واللامسؤولية والرشوة.

من الواقع
وحتى نصل إلى عمق الصورة توجب علينا محاورة إدارة خاصة أخرى وكان القطاع المصرفي هدفنا، حيث يفند الدكتور المهندس شادي سابا “بنك خاص” الواقع بكل تجرد قائلاً: من خلال تجربتي في سورية توصلت إلى معضلة لم ألمسها في كل الفروع التي عملت بها سابقاً وهي أن السوري أو السورية يفضلان العمل في القطاع الحكومي رغم قلة الأجر على عكس كل المجتمعات الأخرى العربية والمجاورة، ففي الدول المجاورة وحتى الأوروبية، الجميع يفضل القطاع الخاص لبراغماتية العمل وتنظيمه وزيادة الأجر وتنظيم الدوام واحترام العاملين، ويضيف سابا من قال إن الخاص لا يضمن صحة وحياة موظفيه؟ بل هو يضمن التأمين الصحي والمعاشي  حتى أكثر من العام، ولكن ما لاحظته أن بعض الخريجين الشباب يفضل القطاع العام حتى يدفن نفسه فيه، حيث يضيع مع العامة وبين المجموع، بينما في الخاص المعيار هو الإنجاز والإبداع والعطاء، وعلى أساس ذلك يتم الارتقاء بالمناصب وزيادة الأجر.
أب وأم
ويرى سابا العلة مركبة كما هي واضحة للعيان من قبل المختصين، فهناك بعض الحق على الجهات الحكومية لأنها جعلت من نفسها الأم والأب وساوت بين أبنائها رغم التفاوت في التخصص والتميز والشهادة، وهذا ظلم وجور للمتميزين والطموحين، وهناك حق على طالبي العمل أيضاً فهم يفضلون الراحة والراتب البسيط وعدم تطوير أنفسهم، وهذا ما يجدونه طبعاً في القطاع العام ، ولكن في الحقيقة من يريد الإنجاز والإبداع والتفوق يجده في القطاع الخاص، ففيه لا مكان للكسل أو التراخي، وكلما أبدع كلما ارتقى من منصب إلى منصب، والخبرة والعطاء هي الضمانة له وليس الواسطة كما في القطاع العام.

تشكيك
ومن دفاع  الخاص  إلى مرافعة العام،  وإن كانت نفس الهواجس والمبررات والحجج، فهذا المهندس صافي صافي “مدير مزارع 8 آذار” يقول: يجب ألا نلوم طالب العمل في القطاع العام، لأننا على مدار عقود نزرع في أذهانهم أمان وضمان القطاع الحكومي لهم ولمستقبلهم، وفي المقابل كنا دائماً نشكك بعمل ودور القطاع الخاص.

المال جبان
فيما يقذف المهندس فياض فارس، “معاون مدير هاتف دمشق”، بالحق على الجهات المعنية، والمشرعين، وعلى القوانين التي جعلت من القطاع الخاص وكأنه يعمل خارج الدولة، فهو لا يتقيد بالقوانين التأمينية، ولا بالزيادات، ولا بالإجازات، بل لا ينفذ حتى الأحكام القضائية، ويسرّح عماله دون أدنى سبب، كل هذا أفقد القطاع الخاص ثقة العامة فيه، وهذا لا يزعج إدارات القطاع الخاص، بل يريحهم لأنه يخدم مصالحهم، وكل ما يعنيهم هو الربح، وتجميع المال أكثر من نيل ثقة الشعب، ولعب دور وطني، مثل البرجوازيات الغربية!.

كلام حق يراد به باطل
في حين دق الدكتور محمد عبد العزيز، “كلية الشريعة”، ناقوس الخطر، ووضع يده على الجرح مستفسراً: لماذا الوظيفة الحكومية؟ ولماذا يدفع طالب العمل الأموال للحصول على الوظيفة؟ ولماذا يدفع أكثر ليصبح نصف مدير؟ ويدفع الضعف ليصبح مديراً عاماً؟ ويستمر بالدفع ليبقى في منصبه أطول مدة؟! ما يقال عن أمان الوظيفة الحكومية هو كلام حق يراد به باطل، فهذه ليست الحقيقة كلها؟!.. وما وراء الحقيقة هو البحث عن المال، والجاه، والسلطة، والتنفع والاسترزاق، وهذه ممكنة في العام، بينما مستحيلة في الخاص، فالمواطن حينما يمد يده بالنقود إلى درج مكتب الموظف العام، وعلى مرأى ومسمع من أقرانه، يكونون جميعاً قد استحقوا صفة الرشوة، لأنهم مشتركون من حيث غض الطرف عنه، أو منعه، أو إخبار إدارتهم، ولكن بالمقابل هذا يدلل على أنهم يعرفون جيداً أن لا فائدة من إخبار الإدارة، لأنهم جميعاً شراكة، فهل هذا يحدث في الخاص، أجزم لا؟!.

شيخ الكار
وحتى يتضح الخيط الأبيض من الأسود في معضلة الوظيفة الحكومية، سألنا الخبير الاقتصادي، ووزير الصناعة الأسبق، الدكتور حسين القاضي: لماذا كل فريق يرمي بالكرة في مرمى الطرف الثاني، ويضع اللوم عليه، فأين تكمن المشكلة؟ وعلى من الحق، على الدولة وقوانينها؟ أم على عقلية الخاص؟ أم بتركيبة عقلية المواطن السوري؟ فقال: أنا لا أبرّئ أحداً، والجميع مرتكب ومشارك في الجريمة، فالحكومة على مدار عقود همشت القطاع الخاص، وشككت في وطنيته وانتمائه، وكانت هذه فرصة للقطاع الخاص حتى يتهرب من مسؤولياته تجاه وطنه، وأبناء شعبه، فكان جل اهتمامه وغايته الربح السريع دون أدنى التزام، بينما القطاع الحكومي استقبل الخريج، وطالب العمل على أساس “الدوكما”، أي الكم دون النظر إلى الاختصاص والتميز، ووضعهم جميعاً في مرتبة واحدة، وترفيعة واحدة، ومكافأة واحدة، ومن يحظ بالدعم ينل المراتب، بينما الأفضل يقبع في الزوايا المظلمة، فهمش نفسه برضاه، ورضي بالقليل، ولكن بعقلية من لا يعنيه شيء، ولا يغار على قطاع الدولة الذي يعمل فيه، وبات الجميع يشعر أن هذا القطاع ليس له، ما فاقم الوضع في ظل الأزمة، أما عن المواطن، وأنا شخصياً لا ألومه كثيراً، وإن كان عليه حق، فهمّه الأول والأخير أن يكون لديه راتب ثابت، وهذا لا يتطلب منه إلا القليل من الجهد، والقليل من الدوام، ويستطيع أن يتدرب، ويتعلّم، ويجرب في آليات القطاع العام، ويذهب ويبدع في الخاص، أو يهاجر خارج الوطن عند أول عرض!.

هاجس
نعم أصبح حلم غالبية شبابنا نيل شرف الوظيفة الحكومية، وخاصة في السنوات الأخيرة، حيث باتت الوظيفة العامة تشكّل هاجساً عند معظم الشباب، مشكّلة جزءاً مهماً في الحياة اليومية لأفراد المجتمع لما توفره من استقرار نفسي، واجتماعي، ومعيشي، على حد قول البعض، وما توفره من غنى، وثراء، وجاه، وسلطة، واسترزاق للبعض الباقي، أما الثابت، فهناك الكثير من الموظفين الشرفاء في القطاع الحكومي حتى وإن ذهب الصالح مع الطالح؟!.
عارف العلي