إيداع الوالدين في دور المسنين..  حسن المعاملة أم إنكار للجميل؟!

إيداع الوالدين في دور المسنين.. حسن المعاملة أم إنكار للجميل؟!

أخبار سورية

الجمعة، ٢١ يوليو ٢٠١٧

شاءت الصدفة أن أزور دار المسنين في المزة مع صديق في زيارة قريبة له، وكانت تراجيديا المفاجآت، فلكل غرفة حكاية، بل حكايات، وللصالات والممرات، وصالة الاستقبال، والحديقة، والمستوصف حكايات أخرى، لها بدايات، ولكن نهاياتها لم تختتم بعد، يكفي أن تستجيب لسماع مسن أو مسنة في دار المسنين لتسمع من فن الألم والوجع ما يندى له الجبين، هذه تشكو فلذة كبدها، وتلك تشكو بكرها، وأخرى تشكو القدر والدهر معاً لما حل بها من إهمال وقطيعة وهجران من أطفال رعتهم وربتهم وضحت بحياتها، وقدمت لهم الغالي والنفيس، وسهرت عليهم الليل موصولاً بالنهار حتى يشفى مريضهم، ويأكل جائعهم، ويعود غائبهم، واليوم أودعوها في ملجأ المسنين، يزورونها في الأعياد في أحسن الأحوال، فلا يكفي ورق الدنيا  لاستيعاب بعض آهات وأحزان بعض نزلاء الدار، ومثله مداد القلم، نعم لكل نزيل حكاية، ولكن القاسم المشترك بينهم أنهم آباء أمس الأول قدموا الحنان والعطف والرعاية والسهر، واليوم جزاؤهم الإيداع في دار المسنين، لأن زوجة الابن لا ترغب بوالد زوجها، أو بوالدة زوجها، سبحان الله، كانت تسهر ليناموا، وتجوع ليشبعوا، وتتحمّل السهر عليهم ليصحوا، وتتضرع لله حتى يشفى عليلهم، ويكبر، ناهيك عن وهن الحمل ومخاض الولادة، فماذا يقول رأي علم الاجتماع والنفس والشرع؟!.

رأي الشرع

الدكتور محمود المعراوي، “القاضي الشرعي الأول بدمشق”، يرى أن لهذه الدور وسيلة من وسائل حماية كبار السن الذين لا يجدون عائلاً يخدمهم، ويتولى أمرهم، ويقوم على مصالحهم، وغالباً ما يلجأ إليها القادرون مادياً لأنها تحتاج إلى تكاليف كبيرة، وهي تقدم رعاية صحية واجتماعية وثقافية متميزة، وتهيئ لهم جواً يشبه الجو الأسري، إلا أن ذلك لا يعوض الحنان والرعاية التي يحتاجونها، ولكن إذا حتمت الظروف إقامتهم في دور المسنين، فيجب ألا ننساهم، وأن تكون هذه الدور مهيأة لرعايتهم.

إن دور المسنين أصبحت حقيقة واقعة بعد أن كانت فكرة إنشائها تقابل باستنكار شديد، وكان البعض يراها تعبيراً عن جحود الأبناء، ولكن بمرور الوقت، ونظراً للظروف الاقتصادية والاجتماعية، تغيرت نظرة المجتمع إلى تلك الدور، بل اعتبرها بعض الآباء والأمهات وسيلة لتخفيف الأعباء عن أبنائهم، وحتى لا نبخس هذه الدور حقها، فهي تقدم الخدمات بكل أنواعها النفسية، والاجتماعية، والترفيهية، وتعتبر الصحية من أولويات هذه الخدمات.

شروط

رعاية المسن نوع من أنواع البر، حسب تعبير القاضي المعراوي، ولا يصح أن يترك الابن أباه في دار للمسنين، لأنه من حقه إحساسه بوفاء الأجيال له، ويضيف بأنه يجوز عند الضرورة الذهاب بالمسن إلى هذه الدار، فمثلاً إن لم يكن عنده أبناء أو كانوا خارج البلاد، بشرط أن يكون ذلك برضاه،  وإذا ذهب الابن بأحد الوالدين إلى الدار، يجب التواصل معه دائماً، وأن يزار في أوقات الزيارة، ووجوب الإنفاق على الوالدين، وخدمتهما، وقضاء حوائجهما، وتحقيق رغباتهما، وتلبية طلباتهما قدر المستطاع دون تأفف أو ضجر.

الوفاء.. رد الجميل

فيما يرى الدكتور عبد الله الشاهر، “جامعة دمشق” أن لأحد الوالدين، أو لكليهما حقاً أخلاقياً وإنسانياً وقانونياً وشرعياً علينا بعد أن أديا واجبهما، وأنفقا زهرة عمرهما في رعاية أولادهما، فإذا بالسنوات تزدلف بهما، وتمضي تباعاً على عجل، فيعلو الشيب مفارقهما، ويدب الضعف إلى بدنيهما، ويصبح كل منهما في حال يحتاجان فيها إلى من حولهما، ولاسيما الأبناء والبنات، ليردوا لهما الجميل، أو بعض الجميل الذي بذلاه في سبيلهم، وليتقربوا إلى الله تعالى بخدمة والديهم اللذين طالما تعبا ليستريحوا، واهتما وبذلا الكثير لينعموا بالعيشة الهنية، فما موقف الأولاد من بنين وبنات من والديهم وهما في هذه الحال؟!.

موجبات

إن قصور السمع والبصر لدى المسن يجعله يبتعد شيئاً فشيئاً عن أحداث الواقع، ويعود طفلاً صغيراً، وفق تعبير الدكتورة سميرة القاضي، “كلية التربية”، ولذلك يجب علينا التحدث معه ومع من حوله بصوت مسموع مع محاولة جذب المسن للواقع بإخباره عما يدور حوله، وطلب رأيه ما أمكن ليكون قريباً من مجتمعه، مدركاً لما حوله، وعلينا أن ندرك أن المسن يستمتع بالحديث عن الماضي الذي عاش أحداثه، وشهد صولاته وجولاته، فعلينا ألا نحرمه من ذلك، بل نظهر التفاعل معه، والإعجاب به، وإشعاره بذلك.

إشغال المسن

أي أن نحرص، والكلام لايزال للقاضي، على إشغال المسن بما ينفعه في الأوقات المناسبة، والقراءة له في الكتب الملائمة لمستواه العلمي، وترغيبه في الحياة قدر المستطاع، وإشعاره بضرورة القبول، والصبر على ما يعانيه من أمراض أو عوارض، فلهذه من الفائدة ما لا يخفى، ومع ذلك كله لابد أن يشعر الوالدان بقرب أولادهما منهما، ومحبتهم للجلوس معهما، والأنس بهما، وتسابقهم في خدمتهما، فلنكن على علم بهذا، ولنحرص على بر آبائنا وأمهاتنا، ففي ذلك حسن رد الجميل، والأثر الطيب في الدنيا، وعلينا أن ندرك جميعنا أن شباب اليوم هم شيوخ وكهول الغد، ويمكن أن يكون مصيرهم أيضاً دار المسنين في أحسن الأحوال، فلنزرع البذار الطيبة في التربة الصالحة الخصبة لنحصد الثمر الطيب.

الجزاء من جنس العمل

كم دمعة ذرفها والد أو والدة على ما يلاقيان من الجحود والاستكبار من أولادهما، كم زفرة حارقة انطلقت من أب مكلوم وأم رؤوم يشتكيان الهجر والقطيعة من أقرب الناس إليهما، فمن وصل رحمه وبر والديه بارك الله له في المال والولد، وأبقى له الذكر الحسن، ومن أراد أن يبره أولاده فليبر والديه، ومن عقّ والديه فلينتظر العقوق من أبنائه، ولا يأمنن العقوبة العاجلة من المجتمع والقدير، فالجزاء من جنس العمل، فلنحسن معاملة آبائنا حتى يحسن إلينا أبناؤنا.

عارف العلي