مجدداً الأرض تبتلع أملاكاً لساكنين فـي المزة 86 ..المتضـررون: لن نغادر بيوتنا حتى لو سقطت فوق رؤوسنا

مجدداً الأرض تبتلع أملاكاً لساكنين فـي المزة 86 ..المتضـررون: لن نغادر بيوتنا حتى لو سقطت فوق رؤوسنا

أخبار سورية

السبت، ٢٣ سبتمبر ٢٠١٧

يسرى ديب  

وضعت قدراً على الموقد وخرجت لبرهة، وفي العودة التفتت فلم تجد المطبخ كله!
ابتلعته الأرض… عبارة تتكرر في أحاديث كل من يقطنون في الحي الأكثر فقراً ضمن الأحياء الفقيرة في منطقة المزة 86.
معرضون لأن تبتلعهم الأرض في كل لحظة، وآخر تلك الحوادث كان الانهيار الذي ابتلع سيارة أجرة ولحسن الحظ غادرها السائق قبل وقت قصير من اختفاء أثرها، أحدث ابتلاعها حفرة قدرت بنحو سبعة أمتار طولاً ومثلها عرضاً. يقول صاحب السيارة: إنها المرة الأولى التي تركن فيها تلك السيارة بهذا المكان وشاءت الأقدار أن تكون الأخيرة، خسارتها بالنسبة لتلك الأطراف التي تعيش على مداخيلها لا تقل كارثية عن الذين سيخسرون منازلهم.
من القصص التي يتم تداولها أيضاً حكاية الزوجة التي تركت زوجها في مقر عمله كحارس مع بندقيته، وفي الصباح اكتشفت أن زوجها اختفى هو والمقر الذي يقيم فيه، وكان عليهم أن يعيدوا إخراجه من الحفرة وإعادة قبره ثانية.
تغريبة جديدة تنتظر أكثر من ثمان وعشرين عائلة، أربع منها أخليت على عجل قبل أن تلتهمها الأرض كما حصل أكثر من مرة في تلك المنطقة، التي شيّدت أبنيتها على ردميات وغالباً بلا أعمدة بشكل يجعل الأمطار الغزيرة من عوامل الخطر على بنيانها.
يعيش كل فرد من أفراد هذه العائلات رعباً يظهر واضحاً في عيون تسأل كل طارق لأبوابهم «ما مصيرنا، أين سنذهب، هل يمكن أن نحصل على أي مساعدة»؟ وفي نهاية كل جولة وحديث يردد الجميع خلاصة تلخص الحال: لن نغادر هذه البيوت حتى لو كانت ستبتلعنا أو تسقط فوق رؤوسنا!
ولبعث شيء من الطمأنينة في النفوس نؤكد ما قاله مدير دوائر الخدمات في محافظة دمشق محمد طارق النحاس، إن هناك قراراً بعدم إخلاء أي منزل وترك أصحابه في الشارع، وأن هناك تكليفاً من المحافظ لمديريته بدراسة خيارات لحل مشكلتهم قد يكون من بينها منازل مؤقتة ولفترات محددة.

قبل تسديد الديون
بثقة يقول معنيون من المحافظة: إن الأخيرة أعطت إنذارات للساكنين منذ العام الماضي بضرورة إخلاء المنازل ذاتها التي تم تبليغها مجدداً، وإن المحافظة أخلت مسؤوليتها القانونية بتبليغ لم يلتزم به الأهالي، ولكن هل يمكن لأي جهة رسمية أن تتعامل مع موضوع بكل هذه الخطورة بطريقة رفع العتب فقط، ولاسيما أن جميع الأطراف المعنية على علم بواقع الساكنين، ويعلمون علم اليقين أن إخراجهم من بيوتهم غير الآمنة من دون إيجاد بديل أو حل لهم يعني رميهم في الشارع؟
يسكن نزار عدرا في بيته الذي أخلاه على عجل لأنه من ضمن الأربعة منازل الأكثر خطراً منذ سبع سنوات، اشتراه بنحو نصف مليون ليرة، لم يكن لديه خيارات تمكّنه من الاستفسار عن واقع المنطقة ومدى مطابقة البيت لشروط البقاء، بعد عامين على سكنه شاهد تشققات على جدار المطبخ الواقع بمحاذاة شارع فرعي، ظلت تتوسع وتكبر، حتى استيقظ في أحد أيام الشهر الماضي فلم يجده نهائياً، لقد ابتلعته الأرض بمعداته.
يقول تمكنت من إخراج بعضها كالغسالة، ثم عاد ثانية لبناء غرفة صغيرة أخرى عوضاً عن المطبخ، بلغت تكلفتها نحو مئتي ألف ليرة لم ينته بعد من تسديد كامل ديونها، لكنه قبل أن ينقل معدات مطبخه إليها هوت مع «الانخفاس» الأخير، وكان عليه مغادرة المنزل في الحال. لا حاجة لسماع أي كلمة من نزار لأن الحيرة في عينيه تقول كل شيء:
«أين أذهب.. هل يمكن أن يساعدنا أحد؟ ماذا أفعل لا أستطيع أن أدفع إيجار بيت؟» فراتبه لا يتجاوز 40 ألف ليرة ولديه ولدان صغيران، ولأنه في القطاع العسكري فلا يستطيع القيام بأي عمل آخر، هو الآن بضيافة جيرانه، لكن إلى متى يستطيعون البقاء عند الجيران سؤال لا يجد له جواباً من ضمن أسئلته الكثيرة؟
أبو محمد لن يخلي كامل بيته، عليه أن يهدم المطبخ والمنتفعات، تبلغ هذا الكلام منذ العام الماضي، لكن حاله كمن تعرض لكارثة، يحاول إخفاء العيوب والشقوق من على جدران مطبخه، فربما لا تطالب اللجان التي تزور المنطقة وتفحص واقع البيوت بإزالة هذا القسم من بيته، وعندما نسأله، عن الفائدة من إخفاء عيوب قد يشكل وجودها إنذاراً بخطر على حياتهم يقول: «إنشالله ما بيصير شي، فأنا لا أستطيع أن أسدد تكاليف المعيشة اليومية، فكيف لي بتكاليف بناء حجر على حجر مع الأسعار الحالية»؟

تسكن عائلة أبو أُبيّ منذ سنوات طويلة في تلك المنطقة، يقولون: إنهم كانوا يعرفون أنها منطقة مخالفات فقط، لكنهم لم يكونوا على علم بما يُشاع عنها من أنها منطقة ردميات وانهدام، وإنهم فوجؤوا العام الماضي بإنذار من المحافظة تطالبهم فيه بالإخلاء كما الكثير من المنازل على امتداد الشارع، وكذلك حال حسن صالح الذي يروي قصته مع البناء على أرض غير ثابتة، وبعد مرور نحو ثلاثة عشر عاماً على تشييد بيت فوق أرض متحركة بدأت الشقوق تظهر على الجدران. يضيف صالح: إنهم عندما تقدموا بشكوى للبلدية لم يعالج السبب، بل عالجوا الأهالي كما يقول، أي طالبوهم بالإخلاء.

«المغسل السبب»!
لا يحب سكان ذاك الحي الأحاديث التي تعيد الأسباب إلى ما يقال عن خط انهدامي أو فوالق، ويرون أن الأسباب أبسط من ذلك بكثير، ويطالبون بحلول سريعة ومباشرة لها، ألا وهي إيقاف الماء الذي يتسرب بشكل كبير من مغسل السيارات المجاور، ومن المزرعة التي يملكها صاحب المغسل وتتدفق مياهها «المسروقة» طوال الوقت عبر قنوات «مسطمة» تجعلها تتغلغل تحت منازلهم وتسرع في تخلخلها، وعند الحديث عن وجود مشكلة بالأساس في المنطقة تسمع الجواب ذاته: لولا تسرب الماء الدائم لكانت تلك المنازل صمدت لمدة أطول! هذا هو حال الساكنين العمل على سرقة الزمن لأطول فترة ممكنة للعيش ضمن بيوت يعرفون أنها مهددة ولكن لا خيارات فدونها الشارع.
يلقون جام غضبهم على صاحب هذا المغسل الذي استثمر سنوات طويلة في نقل الردميات وتكديسها في تلك المنطقة، ومن ثم تسببت المياه المتدفقة من مشروعاته اللاحقة بتحرك الأرض تحت منازل شيدت بطريقة تناسب إمكاناتهم، فأكثرها من دون أعمدة وعلى أرض غير ثابتة.
ويرون أن وفود البلدية وغيرها من الواصلين إلى تلك المنطقة لا يعالجون الأسباب الحقيقية والإسعافية التي يرونها ناتجة عن الماء المتدفق من المنطقة المجاورة لمنازلهم، وليس كما يقال عن «فالق انهدامي» ويرون أن المحافظة أعطتهم إنذارات إخلاء منذ العام الماضي لا يمكن تنفيذها كي تخلي عنها مسؤولية ما يحصل لهم من انهدامات وأضرار.
يقول أبو إبراهيم، الذي حصل على إنذار بإزالة قسم من بيته «فوق الموتة عصة قبر، بوسنا أيدي القادمين من المحافظة لتبليغه بالهدم والإخلاء قبل هذه الحادثة، كي يوافقوا على مساعدتنا في تكاليف الهدم والترحيل لكن دون جدوى».
لم يكترث رئيس بلدية المزة فكرت عاقل بقصة المياه المتدفقة سابقاً من المغسل، بل هناك من تحمس أكثر من موظفي البلدية وأكد أن المغسل متوقف بسبب قذيفة أصابته، وهو للحقيقة متوقف الآن لكن ليس بسبب قذيفة بل بسبب المخاطر الكثيرة التي نتجت عن تسرب الماء في تلك المنطقة ضعيفة البنية، والآن ظلت المياه تتسرب لكن من المزرعة المجاورة للمغسل، كما يضيف المتضررون، وهم يشيرون إلى المزرعة المملوءة بالأشجار، بعدما تحول إلى استثمار تلك الدونمات كموقف مأجور للسيارات!
أضاف عاقل: إن الأمر ينتهي بجملتين مختصرتين: المشكلة في البناء على خط الانهدام وبطريقة جاهلة وغير علمية فقط. وعن مسؤولية البلدية تاريخياً في السماح بالبناء على منطقة ردم كحد أدنى، علماً أنهم يتمكنون من منع إدخال حتى لوح من البلور لترميم شباك مكسور في منزل عندما يريدون ذلك؟ قال: إن قصص البناء قديمة تعود للثمانينيات عندما كان في المرحلة الابتدائية!
اختفت السيارة
كما إن مصيبة الساكنين المنذرين كبيرة، كذلك حال صاحب سيارة الأجرة عمار ديوب، الذي يروي كيف أن الشاب «العسكري» الذي يعمل على السيارة، أوقفها في الساعة الواحدة والنصف ليلاً، وجلس مع بعض زملائه أقل من نصف ساعة في الشارع ذاته، ليسمعوا صوتاً مرعباً، التفتوا ليكتشفوا أن السيارة اختفت.
يعتب ديوب على أفراد من المحافظة منعوهم من محاولة الاقتراب من المنطقة واستخراج سيارة تعيش على مداخيلها أكثر من أسرة، وخسارتها تعني خسارة سعرها ودخلها اليومي، علماً أنه مدرك لأسباب المنع، والتي تتمثل بخطورة قد تلحق بهم عند الاقتراب من الحفرة بمعدات ثقيلة.
وإذا كان هناك من يتحدث ويبث همومه، فهناك من رفض الحديث من أساسه إلى الصحافة، إذ إن الكثير من المسؤولين والجهات وصلت إلى هذه المنطقة ولم تقدم لهم شيئاً، فماذا ستقدم لهم الصحافة والحديث إلى الإعلاميين سوى اجترار الجراح ثانية كما قال البعض؟
إسعافات
يرى رئيس بلدية المزة عاقل أن الإجراء الفوري الذي اتخذ هو ردم الحفرة، بل أكثر من ذلك كما يضيف ويعده إنجازاً، وهو أن الحفرة تم ردمها بالبحص وليس التراب، وأن ردمها بالبحص سيمنع الخطر الآتي منها ومن حولها!
في حين يبدي مدير دوائر الخدمات في محافظة دمشق طارق النحاس الكثير من التعاطف مع ساكني المنطقة المهددة، ويؤكد أنه زار الموقع عدة مرات، وتحدث مع الكثير من الساكنين وشاهد بأم عينه حالات شبان مطالبين بالإخلاء في ريعان الشباب أصيبوا خلال هذه الحرب، وبعضهم ممن يصنفون ضمن الشهداء الأحياء، وأكد أنه في كل مرة كان يتابع الأمر مع محافظ دمشق، وأن هناك دراسة وعملاً حثيثاً للوصول إلى حلول مناسبة لأوضاع الشاغلين المتضررين.
ويؤكد أن المشكلة الأخرى هي أن المنطقة هي منطقة مخالفات والقانون لا يضمن لهم أي حقوق أو يسهل إيجاد حلول، ولكنه أكد أنه لن يتم إخلاء أي منزل وترك أصحابه في الشارع، فهناك حلول تدرس لحالة أصحاب الثمانية وعشرين بيتاً مهدداً.
ظلت على الورق
أضاف النحاس أن المحافظة أرسلت كتاباً إلى المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية في دمشق تطلب فيه من المؤسسة موافاتهم بمحور «الفالق الانهدامي» في منطقة المزة 86، وذلك من أجل تحديد المنازل الواقعة عليه، لاتخاذ الإجراءات اللازمة منعاً لحدوث انهيارات مفاجئة في الموقع، ولدراسة وضع الأبنية الموجودة من الناحية الإنشائية وإمكانية إخلاء المنازل من شاغليها وإزالتها.
المدير العام للمؤسسة العامة للجيولوجيا، الجيولوجي- سمير الأسد أكد أنه سبق للمؤسسة أن قامت في عام 2010 بتنفيذ دراسة جيولوجية متكاملة لمصلحة محافظة دمشق، لتحديد المخاطر «الجيوديناميكية» في منطقة المزة 86 واقترحت المؤسسة حينها التعاون مع محافظة دمشق لتوسيع منطقة الدراسة والأخذ بمقترحات الدراسة المنفذة لمعالجة المواقع حسب درجة الخطورة المقيمة من قبلها!
ومع مزيد من التفاصيل التخصصية يضيف الجيولوجي سمير أن المنطقة تشكل جزءاً من الجناح الجنوبي الشرقي لبنية طي محدب الخاشن الذي يكمل بنية أكبر ذات انتشار معروف تعرف ببنية طية قاسيون الممتدة من جبل أبو العطا في الشمال الشرقي وحتى قطنا في الجنوب الغربي. ويؤكد الأسد أن بنية قاسيون هي إحدى البنيات الرئيسة والمتميزة بأشكال الطي غير المتناظر، نتيجة القوى الضاغطة الناجمة عن فعل الحركة الأساسية شبه الأفقية باتجاه الشمال الغربي، والمتمثلة بخطوط فالقية موازية لمحاور الطي وهي ما تسمى بفوالق الدثر.
عوامل مجتمعة
أما بنية موقع الدراسة فهي أنموذج لهذه الطيات والمتأثرة بهذه القوى والمتمثلة بفالق دمشق الذي يشكل حداً بنيوياً بين طية قاسيون ومقعر حوض دمشق. وقد نجم عن حركة فالق دمشق كسور سلمية وريشية توازي اتجاه فالق دمشق، الذي أدى لنطاق زحف واضح المعالم نتج عنه عدة مخاطر «جيوديناميكة».
كما بيّن الدكتور ابراهيم الطحان- مدير المشروعات التعدينية في المؤسسة أنه نتج عن هذه الدراسة تحديد عدة نطاقات مخاطر جيوديناميكية تم إسقاطها على خرائط تفصيلية تمثلت بتأثر الصخور بشدة بالعوامل التكتونية والمؤثرات السطحية من مياه أمطار وصرف صحي وانفصال بعض الكتل تحت تأثير الثقالة، ووجود طبقة السلكسيت (الصوان) المزحون التي تشكل منطقة خطر كبير نتيجة إحلال الطبقات وتشكل مغاور وكهوف بعضها ملأ بالردميات وتم تشييد الأبنية عليها، إضافة إلى عدم وجود نظام صحيح لتصريف المياه السطحية والصرف الصحي.