الفوعة وكفريا: ناشدنا كل العالم.. لكنْ عبث!

الفوعة وكفريا: ناشدنا كل العالم.. لكنْ عبث!

أخبار سورية

الجمعة، ١٦ ديسمبر ٢٠١٦

انضمّت قريتا الفوعة وكفريا المُحاصرتان في ريف إدلب الشمالي إلى الاتفاق الذي تمّ التوصّل اليه برعاية تركية ـ روسية لإجلاء مُقاتلي المعارضة ومدنيين من آخر المناطق التي تسيطر عليها الفصائل في شرق حلب. واتجهت الحافلات التابعة للحكومة السورية وسيارات الإسعاف إلى البلدتين المُحاصرتين لإخراج الدفعة الأولى المُتّفق عليها، وتشمل 1200 شخص من ذوي الحالات الانسانية (مرضى وشيوخ) إضافة إلى أطفال ونساء.
منذ 28 آذار 2015، وبالتزامن مع انتصارات الجيش السوري السريعة التي حقّقها في مدينة حلب، ارتفعت وتيرة الموت في البلدتين اللتين تتعرّضان لقصفٍ يومي عنيف، تخلّلته هدنة يتيمة لم يلتزم بها مسلّحو ما يسمى بـ«جيش الفتح» سوى لأربع ساعات في اليوم السابع من الشهر الحالي.
لا يُمكن إحصاء عدد الصواريخ التي أُطلقت على البلدتين في الأيام السابقة، إلا أن مصدراً عسكرياً من داخل الفوعة قدّرها بأكثر من 800 صاروخ، معظمها من نوع «غراد» والفيل» و«كاتيوشا»، مصدرها مرابض راجمات ومدافع موجودة في مزارع مُحيطة بالبلدتين أدت إلى استشهاد أكثر من عشرين شخصا أغلبهم من الأطفال والنساء، بعضهم تمّ انتشال جثمانه من تحت الأنقاض بصعوبة لعدم توفر المعدات اللازمة.
الحدث المؤلم، بالنسبة لأهالي البلدتين، والذي تسبّب به القصف هذه المرة هو «خروج المستشفى الوحيد في الفوعة عن الخدمة بشكل نهائي»، يقول المصدر. ويتابع خلال حديثه لـ«السفير»: «تهدّم المبنى وتعطّلت التجهيزات الطبية».
تعطل المستشفى الوحيد عن الخدمة. كان يُداوي أكثر من عشرين ألف شخص يعيشون وطأة الحصار، ما زاد من قتامة الصورة وسوداويتها في البلدتين المنكوبتين، خاصّة مع استمرار القصف العشوائي وانتشار الأمراض بسبب نقص التغذية. وبعد تعطّل المستشفى لم يبق أمام طاقمه المتبقي إلا إنشاء غرفة عمليات صغيرة كانت عبارة عن مستودعٍ لا تتعدّى مساحته 40 متراً (طولاً) و30 متراً (عرضاً). ويشتمل الفريق الطبي على جراحين إثنين فقط وما يقارب الممرضين العشرة الذين يعملون بإمكانيات متواضعة قد تنجح بتضميد جراح المصابين ما أمكن.
احتمال الموت يتسع مع وجود قنّاصين يُحيطون بالبلدتين، لا يكاد يهدأ لهم بال أو تغمض لهم عين حتى يُصيبون ضحاياهم ويردونهم قتلى. فالقناصون يتمركزون داخل رافعات الكهرباء ما يجعل البلدتين مكشوفتين تماماً أمام أعينهم. أبو علي، أحد سكان الفوعة، قُنص طفله البالغ من العمر ست سنوات أثناء تواجده على شرفة البيت، فيما أصيب ابنه الآخر برصاصة القناص نفسه، وهو بين الحيّاة والموت الآن. ينتظر أبو علي معجزة إلهية تشفي ابنه وتنهي مأساتهم في ظلّ عدم توفر مستشفى مُجهّز بالمعدات اللازمة لإجراء عمل جراحي مستعجل له. بصوت متوتر مصحوب بقلق وخوف، تحدّث إلى «السفير» قائلاً: «من سنتين ونحن عم نناشد المجتمع الدولي والمُنظّمات الانسانية بس عبث كأنه عم تحكي مع حيط، لك حتى الحيط بيبكي ع حالنا». ويتابع بالنبرة ذاتها: «ما في مهرب من القنّاص قادر يوصلك حتى وأنت بالحمام»، عند تلك الكلمات انقطع الخط مع الوالد المفجوع نتيجة ضعف التغطية لدى شبكة الاتصالات.
يوسف زكريا الحسن من داخل بلدة الفوعة تحدث لـ«السفير»، قائلاً: «يومياً هناك ما يقارب الـ100 حالة تأتي إلى المستشفى الصغير الذي يكاد لا يتسع لشيء، جميعهم يعانون من التهاب الكبد وسوء التغذية»، وأكّد الحسن، في حديثه، أنه منذ أيام دخلت مساعدات طبية إلى البلدتين إلا أن «جيش الفتح» اعترضها وسرق حوالي 60 في المئة من الشحنة، مؤكداً أن حالات الوفاة نتيجة نقص الأدوية تتزايد أسبوعياً.
حلم الخبز
وانعدام وسائل التدفئة
على الرغم من المُساعدات الانسانية التي تصل البلدتين إلا أنها تأتي في غالبها خجولةٌ جداً لا تكفي سوى لبضع مئات من المدنيين وتكاد تفتقر إلى المقوّمات الأساسية مثل الحليب والطحين، وهي محكومة بمزاج «جيش الفتح» الذي قد يسمح بمرورها أو لا، وأحياناً يقوم بتفريغ بعض الصناديق التي تحوي مواد غذائية هامة، وهذا ما حصل في آخر مرة دخلت فيها المساعدات إلى بلدة الفوعة. تجويع ممنهج يتمّ فرضه على الأهالي في الداخل. يتصدّر الخبز قائمة النقص، إذ تحوّل منذ بداية الحصار إلى حلم يتحقّق بين فترة وأخرى، حيث يحظى كل شخص برغيف ونصف كل ثلاثة أسابيع. يقول الحسن: «صار الخبز متل البسكوتة لما بشوفوه الأطفال بيبتسموا. الحاجة أمّ الاختراع. صرنا نخترع أكلات متل عدس كباب» متمتماً : «الحمدلله».
شتاء البلدتين قاسٍ كما صيفها. ومع انعدام وسائل التدفئة بشكل تام، يُبدي الأهالي تخوفاً كبيراً مع قدوم فصل الشتاء. يوسف زكريا تحدّث في هذا السياق، وأكد أن تأمين وسائل التدفئة أشبه بالعملية المستحيلة، وحتى الحطب الذي اعتمدوه كوسيلة تدفئة في العام الماضي لم يعد متاحاً. وقال: «تأمين الحطب بات عملية انتحارية مع وجود القنّاص بشكل دائم واستمرار القصف». ومع اشتداد البرد ما كان أمام الأهالي إلا اختراع وسائل خاصة بهم، فلجأوا إلى حرق الملابس والبلاستيك، وراحت أيادي النساء المُنهكة تحيك من بطانيات المعونات معاطف وملابس قد تقيهم شر البرد.
موت جماعي
تتعدّد قصص الموت وفصوله. فما حدث خلال وقت الحصار الطويل لا يُمكن لعدسة السينما أن تصوّره. أبو فراس، فقد عائلة أخيه بالكامل جراء قصف شنّه «جيش الفتح» في تشرين الثاني الماضي. تحدّث والغصّة تكاد لا تفارق صوته عن ذلك اليوم المأساوي: «لم نستطع إنقاذهم من تحت الأنقاض نتيجة استمرار القصف... ضاعت أشلاؤهم كلها». وبينما يتذكّر أبو فراس عائلة أخيه ببالغ الألم، يُحاول الطفل رامي أن يتأقلم مع حياته الجديدة بعدما فقد جميع أفراد عائلته وحتى منزله.
أكثر من 80 في المئة من المنازل فقدت صلاحيتها كنتيجة طبيعية للقصف. مئات العائلات باتت تعيش في ملاجئ وأبنية غير صالحة للسكن، ولا تمتلك أدنى مقومات الحيّاة، فضلاً عن كونها غير آمنة ولا تقيهم خطر القذائف والقنّاصات.
مع كل هذا الدمار والموت بقيت في الفوعة وكفريا مدرستان تقسّمان دوامهما إلى أربعة مجموعات من فئات عمرية مختلفة. نصيب كل مجموعة هو ساعتان من العلم الذي بقي الخيار الوحيد أمامهم لفتح نافذة أمل على المستقبل. وتبقى قلوب الأهالي على نار إلى حين عودة الأطفال إلى المأوى بانتظار أن تسمع المنظمات الانسانية أصواتهم التي لا تهدأ.