غارة التنف.. الانزلاق الأميركي فرضته مبادرة الجيش نحو دير الزور

غارة التنف.. الانزلاق الأميركي فرضته مبادرة الجيش نحو دير الزور

أخبار سورية

السبت، ٢٠ مايو ٢٠١٧

ما حصل في البادية السورية، من اعتداء جوي أميركي أردني على قوات للجيش السوري وحلفائه، يحمل بين طياته مدلولين أساسيين، أحدهما هو الإشارة إلى كونه يمثل رسالة تحذيرية ومحاولة لرسم خطوط حمر بعد احتدام التسابق في المنطقة، في ظل توتر إقليمي متصاعد. أما الثاني فهو تعبير عن المأزق الأميركي الناشئ في ظل مذكرة «مناطق تخفيف التصعيد» وما أعقبه من إطلاق الجيش السوري لعملية عسكرية واسعة نحو ديرالزور، إذ تكشف الغارة الجديدة عن افتقار الولايات المتحدة إلى الخيارات الآمنة للتعامل مع الملف السوري واضطرارها إلى التلويح بأوراق تصعيدية قد تكون هي أول من يحترق بنيرانها.
ويبدو المدلول الثاني، هو الطاغي على المشهد أكثر من غيره، لأن الغارة لم تحصل إلا بعد أن كسر الجيش السوري بالفعل ما تعتبره واشنطن خطوطاً حمراً، وبالتالي يمكن القول: إن الغارة جاءت كنوع من رد الفعل على التجاهل السوري لهذه الخطوط، وعدم اعترافه بها وبالمحاذير الناتجة عنها، وهو ما أشار إليه صراحةً بيان المصدر العسكري في معرض تعليقه على الغارة إذ أكد على «أن الجيش العربي السوري يحارب الإرهاب على أرضه ولا يحق لأي جهة أيا كانت أن تحدد مسار ووجهة عملياته ضد التنظيمات الإرهابية».
وبالرغم من ظاهر الحال الذي يدل على القوة الأميركية في عرقلة تقدم الجيش السوري في بعض المحاور، إلا أن مواصلة الولايات المتحدة لهذه السياسة، سيفضي بها إلى الوقوع فيما حاولت تجنبه طويلاً، وهو النظر إليها كطرف عسكري معتدٍ وليس مجرد داعم، وقد كان بيان «حلفاء الجيش السوري» واضحاً في رسائله الاستباقية التي وجهها إلى كل من واشنطن وعمان في أعقاب حشدهما قوات عسكرية على الحدود مع سورية بالتزامن مع مناورات «الأسد المتأهب» حيث اعتبر أي عمل عسكري داخل الأراضي السورية خطاً أحمر لا يمكن السكوت عنه.
نفذت الولايات المتحدة، التي تقود «التحالف الدولي» حتى الآن، ثلاث غارات جوية ضد أهداف للجيش السوري، ويلاحظ من مسارها أن الذرائع تدرجت فيها من ادعاء الخطأ كما حصل في جبل الثردة بديرالزور، إلى الرد على استخدام الكيميائي بالنسبة إلى قصف قاعدة الشعيرات الجوية، وصولاً أخيراً إلى الادعاء أن قصف الرتل العسكري في البادية السورية جاء بسبب «التهديد الذي شكّله الرتل على القوات الأميركية والقوات الشريكة في قاعدة التنف قرب الحدود السورية العراقية الأردنية المشتركة» حسب بيان صادر عن التحالف الدولي.
ويوضّح هذا التدرج في خلق الذرائع، حقيقة أن واشنطن، بدأت بالانزلاق فعلياً نحو التدخل المباشر في الميدان السوري والانغماس أكثر فأكثر في تفاصيل معارك المنطقة الشرقية، وهو ما تعززه التقارير والمقاطع المصورة التي تؤكد أن رأس الحربة التي تقود تقدم الفصائل المسلحة نحو ديرالزور هي قوات برية أميركية تقاتل على الأرض مباشرة.
وتبدو الذريعة التي استند إليها التحالف الدولي لتبرير عدوانه الجديد، غير مقنعة بتاتاً، وللمفارقة فإن دحض هذه الذريعة جاء من الحليف الأردني حيث نقل الموقع الإخباري التابع للقوات المسلحة الأردنية «هلا أخبار» عن مصادر مطلعة أن «قوات التحالف رصدت رتلاً عسكرياً لقوات النظام السوري كان يتقدم باتجاه معسكر التنف لمسافة نحو 30 كيلو متر، ويتكون الرتل من دبابة T72 وبلدوزر وناقلة جنود BMP حيث كانت قوات النظام تهدف إلى إنشاء نقطة تفتيش قرب معسكر التنف»، إذ من الواضح أن هذا الرتل بتكوينه وطبيعة مهمته لم يكن في مهمة قتالية من شأنها «تهديد» القوات الأميركية».
ولعلّ الولايات المتحدة لا تستطيع أو لا تريد الاعتراف بحقيقة الأسباب التي دفعتها إلى استهداف الرتل العسكري جنوب ناحية الشحمي، ولكن مما لا شك فيه أن هذه الأسباب تتعلق بمحاولة ضمان فرض مشروعها القاضي بتقسيم الأراضي السورية والعمل على خلق كيان على طرفي الحدود السورية العراقية لاستدامة حالة الفوضى وعدم الاستقرار وإشغال دول المنطقة بالحروب الداخلية ضد بعضها بعضاً.
من هنا يبدو أن الولايات المتحدة لم تقرر توسيع غاراتها الجوية إلا بعد أن استشعرت خطورة الخطة التي وضعها الجيش السوري الرامية إلى التوجه نحو ديرالزور والحدود السورية العراقية، خاصةً بعد أن تمكن الجيش من إحراز نقاط هامة على طريق تنفيذ الخطة بما من شأنه إجهاض المشروع الأميركي برمته.
تقوم خطة الجيش على تنفيذ عملية ثلاثية الأهداف انطلاقاً من مدينة تدمر التي لم يعد خافياً أن واشنطن وعمان حاولتا في أعقاب سيطرة داعش عليها للمرة الثانية، الاستحواذ على عملية تحريرها واعتبارها «مهمة من مهام التحالف الدولي» الأمر الذي أفشله الجيش السوري بسرعة قياسية عبر استعادة السيطرة على المدينة خلال أسابيع قليلة.
وتتمثل الأهداف الثلاثة لعملية الجيش السوري في البادية السورية بما يلي: أولاً التوجه شمالاً للتضييق على تنظيم داعش في ريف حماة الشرقي، بموازاة الضغط العسكري عليه في ما تبقى من ريف حلب الشرقي ودفعه إلى الانسحاب من هذه المناطق تحت تأثير الالتفاف الميداني عليه. وثانياً، التوجه غرباً نحو بلدة السخنة التي تعتبر بوابة الدخول إلى مدينة ديرالزور، والهدف المباشر هو السيطرة على جبل عبارة ما سيمكن الجيش من الوصول إلى قواته المتمركزة في أحياء ديرالزور ومطارها العسكري، الأمر الذي سيخلق واقعاً ميدانياً جديداً لا يمكن تجاوزه، وأخيراً، التوجه جنوباً نحو معبر التنف الحدودي مع العراق، وهي النقطة الأكثر إلحاحاً التي اتخذها «التحالف الدولي» ذريعةً لتبرير الغارة الجوية الأخيرة، ولا تكتسي هذه الخطوة أهميتها من أهمية المعبر الحدودي فحسب، بل من كونها تعني في حال تحققها، محاصرة الفصائل المدعومة أميركياً في نطاق جغرافي ضيق وقطع الطريق أمامهم باتجاه مدينة البوكمال.
وبالرغم من أن عملية الجيش تستهدف أساساً استعادة السيطرة على ديرالزور باعتبارها المعركة الأكثر أولوية حسب تعبير وزير الخارجية وليد المعلم، إلا أن الأهداف الجانبية التي يمكن أن تترتب عليها لا تقل أهمية عنها خصوصاً لجهة التضييق على داعش في ريف حماة الشرقي، والعمل على إضعافه في المنطقة، تمهيداً لدفعه إلى الانسحاب، فهذا لا يعني الاحتراز من أي مخطط يتضمن الإبقاء على داعش قوياً في الوسط السوري، لاتخاذه أداة لاستنزاف الجيش وربما لإيهام داعش بإمكانية التمدد في هذه المنطقة من أجل إغرائه بالتراخي في الدفاع عن المناطق التي تستهدفها الفصائل المدعومة أميركياً سواء في البادية أو في ديرالزور، وقد يفسر ذلك الهجوم الوحشي الذي شنّه تنظيم داعش على قرى ريف حماة الشرقي، أمس الأول.
من الأهداف الجانبية أيضاً، منع الفصائل المدعومة أميركياً، من الوصول إلى مدن وبلدات القلمون الشرقي الخاضعة لاتفاق تسوية مع الجيش السوري، ويتضمن هذا الهدف محاصرة داعش في منطقة المحسا ومحيط القريتين، وهما آخر معاقله في ريف حمص الشرقي.
ومحصلة ذلك، أن الجيش السوري لن يكون له موطئ قدم في البادية السورية فحسب، بل سيكون قد أنشأ لنفسه امتداداً واسعاً على الأرض يمتد من جنوب الطبقة شمالاً، إلى شمال بلدة التنف جنوباً، مع ما يعنيه ذلك من تخفيف الضغوط العسكرية عليه من جهة، وتزايد قوته واتساع إمكانات التفرغ لمهمة ديرالزور من جهة ثانية، وهما ما لا تريد الولايات المتحدة أن تراه يتحقق على أرض الواقع، ولذلك على الأرجح كانت غارتها الأخيرة في محاولة منها لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإبقاء الجيش السوري في دائرة الاستنزاف المتواصل.