النشاط السياحي في طرطوس.. أسعار خيالية وغياب للخدمات.. والشواطىء تحت قبضة المستثمرين

النشاط السياحي في طرطوس.. أسعار خيالية وغياب للخدمات.. والشواطىء تحت قبضة المستثمرين

أخبار سورية

الثلاثاء، ١٥ أغسطس ٢٠١٧

الساعة الخامسة فجراً.. توقيت مناسب تماماً لدرس سباحة صباحي يمكن أن تمضي إليه برفقة بعض الأصدقاء أو الأقارب ممتلئاً بهمة عالية ونشاط شديد، فتعبر من شوارع مدينة طرطوس الهادئة، وزواريبها الضيقة إلى “كورنيشها” البحري، هناك ستشهد حركة خجولة لبعض الأشخاص الذين تستهويهم رياضة الركض أو الجري برفقة صدى الأمواج، ومنظر البحر الجميل في تلك الساعة.

تكمل المسير لتدخل عمق المكسر البحري، وعلى بعض الصخور المتراصة تودع ما لا تحتاجه من ملابسك، ثم تمضي عبر شاطئ رملي بسيط، شكّلته حركة الأمواج المتعاقبة لسنوات منذ انتهى العمل بالكورنيش.. أخيراً تسلّم نفسك برضا إلى مياه البحر الهادئة، فتحتضنك أمواج لطيفة، باردة قليلاً، تزيل عنك كل تعب وهم، وتخفف من عبء الرطوبة العالية والحرارة الشديدة التي يعرفها جيداً سكان المدينة في مثل هذا التوقيت من العام، حيث أصبحت السباحة عند معظمهم طقساً لابد منه، ونشاطاً شعبياً درج في ذلك الموقع للكثير من سكان عروس الساحل السوري.

طقس اجتماعي

وبخلاف منظر الكورنيش الذي يشهد حركة خفيفة، فالصورة في المياه مختلفة تماماً، وأعداد السكان الهاربين من موجات الحر والرطوبة ولهيب آب كثر.. يبدو المشهد للمراقب أشبه بطقس اجتماعي يجمع فئات مختلفة من سكان المدينة صباحاً، فتشاهد المدرس، والطبيب، والمهندس، وبعض الطلاب الجامعيين، وفئة لابأس بها من المتقاعدين وسواهم من فئات المجتمع الأخرى، والملفت أن معظم من كان هناك يحفظون وجوه بعضهم البعض، ويتبادلون تحية الصباح، وطقوس البريستيج الاجتماعي (صباح الخير يا أستاذ .. أهلاً بالمعلم)، الجميع يستمتعون بالرياضة التي اعتادوا عليها يومياً، قبل أن يمضوا إلى أعمالهم حين ينقضي وقت السباحة الجميل. يوضح المهندس عبد السلام أحد الأصدقاء الذين كنا برفقتهم: طرطوس مدينة صغيرة، ومعظم منازلها قريبة نسبياً من البحر، لذا يمكن لأعداد كثيرة من السكان أن يمارسوا هذا النشاط، والرياضة الصباحية المجانية التي تتطلب فقط مقداراً عالياً من الهمة وإرادة للاستيقاظ المبكر، يؤكد عبد السلام أنه اعتاد السباحة بشكل شبه يومي ابتداء من شهر آذار وحتى أوقات متأخرة من شهر تشرين الأول.

تبدأ الشمس بالارتفاع تدريجياً، تغادر المياه وأنت في شوق إليها، ربع ساعة إضافية مطلوبة لتجفف نفسك في الهواء الطلق بعد أن تغسل رأسك فقط بمياه حلوة ونظيفة، تشير الساعة إلى السابعة والنصف إلا خمس دقائق، موعد المغادرة إلى نقطة الانطلاق في أحد البيوت الشعبية لطرطوس التي تختفي خلف الواجهة البحرية، هناك يمكن أن تحظى بدوش سريع قبل أن تستكمل الروتين اليومي، وتنطلق إلى عملك، كما يفعل من اعتاد هذا النشاط من سكان مدينة طرطوس.

غير مخصص للسباحة

الملفت أن فئة كبيرة من سكان المدينة باتوا لا يعبؤون باللافتات المنتشرة على طول الكورنيش، والتي تشير إلى أن المكان غير مخصص للسباحة، ومعظم من سألناهم من الأصدقاء والسكان يبررون أن اللافتات تخص السياح القادمين من خارج المحافظة لرفع المسؤولية عن غرق أحدهم، ولعدم وجود مشالح تبديل نظامية على امتدادها، مثل تلك الموجودة في منطقة الشاليهات الشعبية المجاورة (شاليهات الأحلام)، وبالنسبة إليهم فمنازلهم قريبة من البحر، وإتقان السباحة من الأمور البديهية التي ينبغي عدم سؤالهم عنها، مع التذكير أن الكورنيش تتواجد به بعض النقاط الطبية للمسعفين والمنقذين للتدخل في الحالات الضرورية، لكن التوضيحات الأخرى، والأسباب الإضافية التي قدمت إلينا بشأن هذه التحذيرات أن منطقة  الكورنيش والمكسر البحري منطقة خطرة تحتوي على صخور، وهي أيضاً مصب صرف صحي، وترتفع فيها نسبة المياه الملوثة والآسنة، لذلك ينبغي بشكل قاطع تجنّب السباحة هناك، لكن تبرير هذه الإشكالية حاضر أيضاً بالنسبة للسكان، فهم يعرفون أقل الأماكن تلوثاً والتي يمكنك السباحة فيها دون أي مخاطر أو إشكاليات كما يقولون، حيث يوضح البعض أن البحر صباحاً يكون في حالة تجدد وتنظيف نفسه بنفسه، ولعل التفسير الأكثر منطقية الذي لمسناه لتحوّل هذه المنطقة من الكورنيش إلى منطقة سباحة شعبية هو قربها من المدينة، إضافة إلى الحالة المادية المتردية لمعظم السكان، وعدم تحمّلهم أعباء الحصول على سيارات أجرة لمناطق الشاليهات القريبة التي ترتفع أجورها أيضاً، إذ تتجاوز أجرة حجز الشاليه العشرة آلاف ليرة سورية ليوم واحد فقط مع خدمات سياحية متواضعة، أو 2500 ليرة لطاولة ومجموعة كراسٍ في حال كنت تريد السباحة والمغادرة.

يوم آخر في عمريت

جنوباً، وبعد الكورنيش البحري، تبدأ منطقة شاليهات الأحلام التي أصبحت تقريباً منطقة مغلقة بالنسبة لسكان طرطوس، رغم أنها مخصصة لما يسمى بالسياحة الشعبية، لكن “المأجورة”، أي أنك لا تستطيع الاستمتاع بالشاطئ وأمواجه مجاناً إلا بعد أن تدفع للمستثمرين الذين يؤمنون لك الطاولات، والكراسي، ومغاسل المياه النظيفة، والحمامات، حيث لا تخلو هذه العملية من بعض حالات الغبن والابتزاز والتحايل على المصطافين، سواء كان من داخل المدينة أو خارجها، نتجاوز شاليهات الأحلام لنصل شاطئ عمريت، تلك المنطقة المشهورة بجمالها وآثارها القديمة، والتي شهدت هذا الصيف أكثر من حادثة للغرق، فأثارت حفيظة سكان طرطوس، بعد أن عزوا أسباب الغرق لإغلاق بعض الشواطئ، ومنحها للاستثمار الخاص، فاتجه الفقراء لهذه المنطقة، وشاطئها الذي لا تخلو السباحة فيه من الخطورة نظراً للتكوين الجيولوجي الخاص، ووجود العديد من الحفر والانزلاقات العميقة بمياهه، إضافة لخلوه من المراقبين والمنقذين، وعدم وجود نقاط طبية بقربه!.

نحط الرحال في عمريت، وفي ضيافة أحد الأصدقاء نحظى بيوم سياحة إضافي على شاطئها الأثري، يقول السيد زين الذي يملك شاليهاً صغيراً في المنطقة: قمت باستئجار هذه القطعة الصغيرة على الشاطئ من محافظة طرطوس قبل ما يقارب الأربع سنوات، وعملت على بنائها تدريجياً، حيث اشتريت ألواح الخشب، وغيرها من مواد البناء الإضافية المطلوبة، ويكمل: يتوفر في هذا الموقع أيضاً مورد مياه عذب، وحمام نظامي، إضافة إلى غرفة للاستراحة، والأمر نفسه قامت به مجموعة من الأصدقاء الذين يجاورونني، لنشكّل على هذا الشاطئ ما يشبه قرية صغيرة يعرف السكان فيها بعضهم، ويعملون بشكل دائم على نظافة المكان، والاهتمام به، وهناك جلسات سمر مسائية، ونشاطات رياضية كثيرة نقوم بها بشكل شبه يومي، ويوضح السيد زين: سابقاً كان الآجار السنوي الذي ندفعه للمحافظة مقبولاً بحدود الـ 25 ألف ليرة سورية، لكننا اليوم ندفع ما يقارب الـ 200 ألف ليرة سنوياً لنحافظ على حقنا بارتياد هذه الأماكن، مشيراً إلى أن هناك من يقوم باستثمارها والاستفادة منها مادياً، فيؤجرها لمصطافين آخرين، ولكن بالنسبة إليه ولجيرانه فقضاء يوم واحد بصحبة العائلة والأولاد في هذا الشاطئ يعادل كل ثروات الدنيا.

المثير حقاً في شاطئ عمريت هو ينابيع المياه العذبة والباردة التي يمكن أن تلامس جسدك أثناء السباحة في مياهه، وتلك الكثبان الرملية المتنقلة التي يمكن أن تطأها أقدامك، فتجد نفسك تتمكن من الوقوف دون سباحة حتى لو كنت في عمق مياهه الساحرة.

سياحة ولكن!

على كورنيش طرطوس مجدداً، وقبيل الغروب بلحظات، يبدو المشهد أكثر حركة وحياة، نتأمل طائرات الورق التي تحلّق في الهواء عالياً على امتداد الشاطئ، والتي باتت مشهداً مألوفاً لسكان المدينة السياحية الصغيرة، وكذلك حال عربات الذرة، و”البوشار”، وبعض الأكشاك، والبسطات المتنقلة، أما منظر الكراسي والطاولات المصطفة في كل مكان أمام الواجهة البحرية مع “الشماسي”، فيبدو مثالياً جداً لحركة سياحية واعدة في عروس الساحل السوري، ولكن رغم هذه التفاصيل المشجعة، والمنظر الجميل، يبدو للمراقب أن الطاولات وكراسيها في حالة عدم إشغال بنسبة قد تصل لـ 75%، ومثلها المطاعم والاستراحات الموجودة هناك، ما يثير أسئلة كثيرة عن الأسباب، خاصة عندما نرى أعداداً جيدة من السكان والمصطافين افترشوا الصخور، أو شغلوا الكراسي المجانية القليلة، لعل في جعبة الحرب الطويلة وسنواتها العجاف جزءاً وافياً من الإجابات بعد أن جعلت معظم الناس في أحوال معيشية متردية، إذ يقول بعض من قابلناهم على الكورنيش: من غير المعقول أن ندفع مبلغاً لا يقل عن 1500 ليرة فقط لاستئجار طاولة دون أية طلبات، لماذا لا تقوم المحافظة بالتدخل عبر تخصيص المزيد من المقاعد للعموم، وصيانة التالف منها، أو الضغط على أصحاب هذه الطاولات لتقديمها للمصطافين بأسعار رمزية مقبولة، وفي المقابل لماذا تكون أسعار المطاعم خيالية، ويصبح ارتيادها حلماً عند الكثيرين؟!.

على أمل

أياً تكن الأسباب أو التفسيرات التي قدمها البعض للتراجع الملاحظ في النشاط السياحي لمحافظة طرطوس، والذي بدأ خاصة عند عودة قسم كبير من السكان الوافدين من محافظة حلب وغيرها إلى مدنهم التي أمنها الجيش العربي السوري من الإرهاب، لكن المؤكد أن في بعض الإجابات المقدمة، والاقتراحات والحلول المعروضة، مفاتيح لمواسم سياحية واعدة في السنوات المقبلة في حال تم العمل عليها من قبل المعنيين، فالكورنيش البحري بحاجة لكثير من الصيانة، والإشراف على الخدمات المقدمة في الكورنيش، والشواطئ، مطلوب بشدة، لتظل تلك المدينة الوادعة التي قدمت تضحيات عظيمة من أبنائها شهداء وقرابين على التراب السوري لطرد الإرهاب من أراضيه، قبلة السياحة والاصطياف، وعروس البحر الجميلة التي تزف إليه كلما لامست أمواجه صخور شواطئها، لينشدوا سوية لحن الطمأنينة والسلام.

محمد محمود