ما بعد الحرب استثمارات تبحث عن القاعدة التشريعية لانطلاقتها.. وضياع الهوية الاقتصادية يشوش على البوصلة الاستثمارية

ما بعد الحرب استثمارات تبحث عن القاعدة التشريعية لانطلاقتها.. وضياع الهوية الاقتصادية يشوش على البوصلة الاستثمارية

أخبار سورية

الخميس، ٩ نوفمبر ٢٠١٧

كيف سيكون شكل الاقتصاد السوري بعد سنوات الحرب الطويلة، وهل سيتم العمل على بناء قاعدة استراتيجية ذكية لتوجيه بوصلة الاستثمارات التنموية بطريقة تنسجم فيها، وتتناغم قطاعاتنا الإنتاجية المختلفة مع بعضها، فيكون النشاط التجاري مبيناً على حاجات السوق الفعلية، وتكون الصناعات التي ترفد هذا النشاط، وتغذيه مبنيةً أيضاً على أساس إنتاج زراعي دقيق، فنحفظ قدر الإمكان ماء وجه موادنا الأولية، وخيرات الأرض السورية التي يُهدرُ معظمها عندما نصدّر تلك المواد، ونسمح لها بمغادرة أراضينا خاماً بقيم زهيدة، لتترك لنا ذلك الشعور بالحزن والأسف حين نراها تعود إلينا بأسعار مضاعفة بعد التصنيع في دول مجاورة، والسؤال المهم أيضاً: هل ستستمر صورة الاستثمارات الخاصة التي تبحث عن تحصيل الأرباح بأسرع طريقة ممكنة، فتكرر بعضها، وتقلد الأفكار والمشاريع، وتكثر من معامل “الشيبس والبسكوت والعلكة” على حساب مشاريع إنتاجية وأفكار رائدة قد تكون أكثر جدوى استثمارية وفائدة اقتصادية، لكنها بحاجة للتخطيط والتوجيه والدعم، ومن المؤكد أن إجابات تساؤلات هامة تحظى بشغف واهتمام معنيين كثر في الشأن الاقتصادي، والأمل أن تكون في حسابات المخططين والمنفذين للمرحلة المقبلة.
عناوين عريضة
ومع عناوين عريضة ومؤتمرات وملتقيات ومنتديات مختلفة تعقد بين الحين والآخر منذ سنتين وحتى اليوم تمهيداً لنهضة اقتصادية تواكب مرحلة إعادة الإعمار، وتؤسس لها، تبدو الصورة جميلة نظرياً، لكن الأجمل فعلاً أن نخرج من الإطار النظري بصورة أكثر ديناميكية، فالكلام كما يقال “ببلاش”، والتحرك الميداني الذي يخطوه الجيش سريعاً في تحرير مناطق مختلفة من الجغرافيا السورية ينبغي أن يرافقه تحرك من نوع آخر في جانب التأهيل والإعداد للبنية التحتية، ونوع الاستثمارات القادمة، خاصة في الجانب الصناعي الذي يعد واحداً من أهم القطاعات الإنتاجية للاقتصاد السوري، ويمثل حوالي 25% من الناتج المحلي الإجمالي، لذا فهو محرك أساسي للاقتصاد السوري من خلال ارتباطه بمختلف القطاعات الأخرى، مثل الزراعة والنقل والتأمين والمال والتجارة، كما أنه يمتلك قاعدة متنوعة من الصناعات المختلفة (الاستخراجية والتحويلية)، وبالتالي فإن أي استثمارات مقبلة ستحتاج إلى أرضية مقبولة من البنى التحتية، وكذلك القوانين والأنظمة المتعلقة بالعمل الاستثماري والصناعي في سورية، فماذا عن القاعدة التشريعية التي ينبغي لها أن تواكب المرحلة المقبلة، فمن المؤكد أن مرحلة خاصة كالمرحلة القادمة، تحتاج إلى قرارات وتشريعات من نوع خاص.

ردود متأخرة
ولما كانت هيئة الاستثمار السورية الجهة الأكثر ارتباطاً بالاستثمار والمستثمرين، ويعوّل عليها الكثير في المرحلة المقبلة من ناحية هندسة الاستثمارات، وتوجيهها، وعرض الفرص، وتقديمها، والترويج لها، كانت بداية وجهتنا، في البحث عن أفكار ورؤى غير تقليدية، لكن الأمور بدت غير مبشرة بالخير، خاصة بعد تأخير استمر عشرين يوماً، وللإجابة عن مجموعة أسئلة ، تتمحور حول فرص الاستثمار الاستراتيجية ودور الهيئة في توجيه البوصلة الاستثمارية في المرحلة المقبلة، والسؤال: هل بمثل هذه الآلية البطيئة التي جاءت فيها الردود والإجابات يسير تشميل المشاريع أيضاً؟!، فالهيئة التي شهد عملها نشاطاً كبيراً في سنوات سبقت الأزمة تراجعت بشكل واضح، وهو أمر مبرر ومفهوم بسبب ظروف الحرب، ويؤكده واقع الحال، وقلة الاستثمارات، والمشاريع المشملة، حيث بلغ عدد المشاريع المشملة بحسب الهيئة خلال العام الجاري 53 مشروعاً لغاية 19/10/2017 بتكلفة إجمالية بلغت 952 مليار ليرة سورية، في حين أن المنفذ منها كان أربعة مشاريع فقط في كل من محافظات السويداء وحمص وطرطوس وريف دمشق في المجالات الصناعية والزراعية، والخشية أن تعتاد الهيئة هذا النمط، فالمرحلة القادمة تنتظر وتيرة عمل مختلفة.
خارطة استثمارية
على الخارطة الاستثمارية تبدو الأمور فوق الجيدة، لدينا مشاريع مختلفة وأفكار ورؤى عديدة للاستثمار في سورية، حتى في دير الزور المحافظة التي تم تحريرها من دنس الإرهاب بالكامل مؤخراً بتضحيات عظيمة للجيش العربي السوري، هناك فرص لمشاريع مختلفة ومتنوعة فيها، وبحسب الهيئة فالخارطة الاستثمارية تعد إحدى أهم وسائل الترويج للمشاريع الاستثمارية في سورية، فتعرف المستثمرين على الفرص المتوفرة في مختلف المحافظات استناداً إلى المعلومات والبيانات المتوفرة عن كل فرصة، حيث تعرض الفرص على شكل بروشور ترويجي يتضمن البيانات الضرورية عن كل فرصة، وهي أهمية الفرصة، وكلفتها التقديرية، واسم المحافظة، ومساحة الأرض، والسوق المستهدف، وشكل الاستثمار المقترح، إضافة إلى توفر البنية التحتية في الموقع المقترح، وتؤكد الهيئة أن الخارطة الاستثمارية تساعد المستثمر الحقيقي على اختيار الفرصة التي يراها مناسبة وفق رؤيته وإمكانيته، وذلك بالاستناد إلى البيانات والمعلومات المتوفرة عن كل فرصة.

تصنيفات وأرقام
وبحسب هيئة الاستثمار فإن الفرص الاستثمارية المتوفرة في الخارطة مصنفة بطريقتين، إما بحسب المحافظة، أو نوع النشاط الاقتصادي، وقد حرصت الهيئة على اختيار وطرح الفرص الاستراتيجية، وذات الأولوية في مرحلة إعادة الإعمار التي يتوفر لها مواقع وأرض محددة لتكون فرصاً جاهزة للتنفيذ على أرض الواقع، ويبلغ عدد الفرص الاستثمارية المتوفرة للعام الحالي 204 فرص، بحسب المحافظات: ريف دمشق 30، القنيطرة 18، السويداء 15، درعا 12، حمص 34، حماة 16، طرطوس17، اللاذقية 13، حلب 29، دير الزور 11، الحسكة 3، وكافة المحافظات 6، وبحسب نوع الاستثمار، فالأولوية كانت لفرص إعادة الإعمار والبنية التحتية 39 فرصة، تليها الصناعات الكيميائية 38 فرصة، ثم الهندسية والنسيجية 32، ثم الغذائية 27، ثم الطاقة المتجددة 25، ثم فرص زراعية 18، والنفط والثروة المعدنية 16، وفرص الصحة والأدوية 9 فرص، وتؤكد الهيئة أنها قامت أيضاً بإعداد دراسات جدوى اقتصادية أولية لبعض الفرص الاستثمارية، حيث يتوفر لديها 93 دراسة أولية، وعن آلية الترويج لهذه الفرص تؤكد الهيئة أنها تقوم داخلياً بإقامة نشاطات ولقاءات تشاركية مع اتحادات الغرف، ومجلس رجال الأعمال والمستثمرين، وإطلاق حملات ترويجية تستهدف معظم المحافظات، أما خارجياً فتعمل على استقطاب المغتربين، ورجال الأعمال، وسفارات الدول الصديقة، والتنسيق المشترك مع الجهات المعنية، ووزارة الخارجية والسفارات، وخاصة دول البريكس، وتزويدهم بالفرص الاستثمارية المتوفرة.
سياسة صناعية ومشاريع
في وزارة الصناعة يبدو حال سير المشاريع بطيئاً هو الآخر ومتأثراً بواقع الحرب وظروفها رغم سياسة صناعية تؤكد عليها وزارة الصناعة في العمل على خلق قطاع صناعي يلبي حاجة الاقتصاد السوري عبر نقاط مختلفة يتحدث عنها الدكتور إياد مقلد مدير التخطيط والتعاون الدولي في وزارة الصناعة كتأمين مستلزمات الشركات العامة الصناعية، ورفع طاقتها، واستثمار مواقع الشركات المتوقفة وبنيتها التحتية لإقامة مشاريع صناعية عامة ومشتركة بتكنولوجيا جديدة، وإقامة الصناعات المعتمدة على المواد الأولية المتوفرة محلياً، وكذلك الصناعات الخاصة بإحلال المستوردات، والصناعات المتعلقة بإعادة الإعمار، وإقامة العناقيد الصناعية، ويؤكد د. مقلد أنه، انطلاقاً من هذه الاستراتيجية، فقد أدرجت وزارة الصناعة في خطتها الاستثمارية لعامي 2017 و2018 عدداً من المشاريع الاستثمارية، ومنها: مشروع لتصنيع الحمضيات، مشروع معمل لإنتاج السيرومات، مشروع لإنتاج الأدوية البشرية، مشروع لإنتاج أقمشة الجينز، إنتاج البلوك الخلوي، إقامة خط لتكرير السكر الخام، تصنيع أجهزة التسخين بالطاقة الشمسية، إنتاج البطاريات المغلفة، إقامة معمل لإنتاج الكونسروة، إقامة وحدات لإنتاج الألبان والأجبان في مناطق جغرافية متعددة، مشروع صهر البازلت لإنتاج الصوف الصخري والخيوط والأنابيب، إنتاج معمل اسمنت في حماة، ومعمل خميرة في تل سلحب، وتطوير واستكمال شركة المنتجات الحديدية والفولاذية في حماة، ولكن بالسؤال عن واقع هذه المشاريع حالياً تبيّن أن معظمها تم إدراجه في الخطة الاستثمارية للوزارة في عام 2018، وبعضها الآخر قيد دراسة العروض الفنية، والمؤمل أن نرى فعلاً هذه المشاريع قيد الإنجاز في المرحلة المقبلة.

ملامح واضحة
يتحدث الخبير الاقتصادي والمدرّس في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور زكوان قريط عن حاجة ماسة لسياسة اقتصادية واضحة المعالم تنتهجها سورية في المرحلة المقبلة، وفترة إعادة الإعمار، تترافق مع قوانين وتشريعات ملائمة، فبعد تشخيص المشكلة، واستعراض الواقع الصناعي في سورية، وتحديد نقاط القوة والضعف فيه على أرض الواقع، نجد أن العديد من المشاريع لا يمكن تطبيقها إن لم ترافقها قوانين وسياسة اقتصادية واضحة تربط كل هذه الأمور، خاصة أن السياسة الاقتصادية الحالية غامضة، فلا توجّه لاقتصاد سوق اجتماعي، ولا اقتصاد سوق حر، ولا أي نوع من الاقتصاديات، وللأسف بعد أن بدأت سورية تأخذ منحى سياسة اقتصادية محددة في بداية الـ 2000، وبدأت الاستثمارات تؤتي أكلها في نهاية الـ 2009، وبدأ الصناعي السوري بالتفكير بتطوير الصناعات البسيطة، وإدخال تقنيات حديثة، أتت الأزمة وأنهت كل ما تم البدء به، فالصناعي لا يمكن أن يفكر بصناعات أكثر تقدماً إلا حين يشعر بالاستقرار، ولا يمكن أن يبدع وهو محصور بقوانين جامدة، ومن ناحية أخرى فالتراخيص الصناعية بحاجة لإعادة دراسة، وللأسف نحن مشهورون في سورية بعملية التقليد، فمثلاً حين يفتح أحدهم محلاً أو استثماراً ما، يقوم الآخرون بتقليده، كما حدث في عام 2000 حين انتشرت ورشات الخياطة بشكل واسع في سورية نتيجة التقليد الأعمى، وهذا الأمر لم يكن ليحدث لو رافقته نظرة اقتصادية مختلفة.

قانون استثمار جديد
ويدعو الدكتور قريط إلى إقرار قانون استثمار جديد يربط السياسة الزراعية بالصناعية بالاستثمار والتجارة، والعمل كفريق واحد، لا أن يغني كل على ليلاه، ويقول: صحيح أننا اليوم نمتلك خارطة استثمارية، لكنها تبدو ورقية فقط، وكذلك وزارة الصناعة تقتصر مهمتها حالياً على الربط والتنسيق بين الجهات الصناعية، لذا نحن بحاجة فعلية لقانون استثمار جديد يغطي ثغرات وعيوب قانون الاستثمار رقم /10/، ويرى قريط أن القانون الحالي جيد ورقياً، لكن التطبيق العملي له سيىء بسبب توجه الكثير من الصناعيين والمستثمرين إلى صناعات استهلاكية خفيفة، لأن هذه الصناعات دورتها الإنتاجية سريعة، وفترة استرداد رأس المال أسرع، وأرباحها سريعة على المدى القصير، ولكن للأسف أغفلت العديد من الصناعات المتقدمة التي تعتمد على تكنولوجيا المعلومات، أو الصناعات الحديثة والمتطورة، وربما يكون السبب أن هذا النوع من الصناعات يتطلب استثمارات ضخمة، ورؤوس أموال كبيرة، كما أن فترة استرداد رأس المال فيه أطول، وبحاجة إلى صبر حتى تؤتي ثمارها، وتحتاج لفترة لجني الأرباح، وهنا لا نلقي اللوم على الصناعي، بل نلقي اللوم على التشريعات والقوانين الاقتصادية.

بوصلة تنموية
ويؤكد د. قريط على أهمية توجيه البوصلة التنموية بما يكفل تطوير الصناعات التي تعتمد على الزراعة، فلدينا ضعف واضح في هذا المجال، والمؤكد أن العجلة الاقتصادية تبدأ بالزراعة والصناعات القائمة عليها، ومن الخطأ الكبير أن نقوم بتصدير المواد الخام دون محاولة تصنيعها، وينبغي العمل على إدخال التكنولوجيا بالزراعة، وهو ما من شأنه أن يحول الصحراء إلى منطقة خضراء، كما تفعل بعض الدول المجاورة التي بدأت فعلاً بزراعة القمح والقطن، رغم أنها مناطق صحراوية، ومن ناحية أخرى يجب أن تهتم وزارة الصناعة بشركات القطاع العام، وتقوم بإعادة هيكلة لها، لأن القطاع العام حالياً مريض، وللأسف لدينا نوع من الشيخوخة والترهل في قطاعات الزراعة والصناعة، وهذه القطاعات تحتاج إبرة تنشيط، فالقطاع العام هو من يجر عجلة الاقتصاد، وعلينا ألا نتوقع أو ننتظر أن يقوم القطاع الخاص بالنهوض بأعباء النهضة الاقتصادية، ويجب دائماً حتى بالمشاريع التشاركية أن تكون الغلبة والدفة فيها للقطاع العام 51- 52% للعام، و48– 49% للقطاع الخاص حتى يكون القطاع العام دائماً هو الرائد، وتحديداً في ظروف الأزمة، فمثلاً نحن لم نر أي تاجر قام بمبادرات خاصة، ودائماً تكون المبادرة من القطاع العام، ومن ثم يقوم الخاص بمواكبتها، وعند النهوض بالقطاع العام فإن القطاع الخاص سيرافقه حتماً.

أفكار منتظرة
اعتماد التكنولوجيا الحديثة، وإدخالها في الصناعة، والتخفيض الضريبي على أساس الإنتاج، والتسويق الذي يسبق الصناعات، أفكار منتظرة قدمها الدكتور قريط كآليات يمكن اعتمادها بشكل موسع في المرحلة المقبلة، إذ قال: يمكن أن نمنح العديد من التسهيلات للتجار والصناعيين  ممن يرغبون بالاستثمار في سورية، ولكن حتى نضمن ألا تكون مشاريعهم ورقية فقط يمكن أن نعتمد آلية محاسبة بحسب الإنتاج لضمان عدم التهرب من الضريبة، وضمان استمرارية الإنتاج، بحيث نقوم مثلاً بالسماح باستيراد مواد خام لقطعتين مجاناً على كل قطعة تنتجها، أو نمنح كهرباء مخفضة، وتتم المحاسبة على الإنتاج، كلما زاد الإنتاج زاد التخفيض، وبالتالي زيادة الإنتاج سيحمل مصلحة حقيقية للصناعي، وينعكس على توفر البضائع في الأسواق، وتدور عجلة الإنتاج، لأنه مع الأسف لدينا صناعيون يقومون بإشادة معامل على الورق، فالمطلوب اليوم هو تحرك اقتصادي سريع حتى في حال شجعنا الصناعات البسيطة في سبيل تحريك عجلة الإنتاج، ودفع العجلة الاقتصادية، وهو ما ينهض بالاقتصاد، ويجعله يقوم تدريجياً على سياسة الاكتفاء الذاتي، كذلك من المهم الترويج لثقافة الإنتاج على أساس التسويق، فمشكلة الصناعة اليوم أساسها تسويقي، وهي أننا ننتج ثم نسوق، وهذه الفكرة تقليدية واندثرت، فاليوم يجب أن نسوق ثم ننتج، ونعرف ما هو المرغوب من قبل المستهلك، ونقوم بالتصنيع على هذا الأساس، ويختم د. قريط: أي منتج يتم تصنيعه وبيعه محلياً هو خطوة إيجابية في دوران العجلة الاقتصادية تكفيك عن الاستيراد وكلفه الباهظة.
محمد محمود