كل عام والأمهات السوريات بألف خير..قدمْنَ للبشرية دروساً في حبّ الوطن وفلذات أكبادهن على مذبح حريته

كل عام والأمهات السوريات بألف خير..قدمْنَ للبشرية دروساً في حبّ الوطن وفلذات أكبادهن على مذبح حريته

أخبار سورية

الثلاثاء، ٢٠ مارس ٢٠١٨

إلهام العطار   
مع اقتراب عيد الأم ومنذ الصباح الباكر، تحرص أم محمد، وهي السيدة الستينية، على الجلوس أمام مدخل البناء، سنوات مرت وهي على تلك الحال، وهو ما جعل الجميع يتساءل: هل من خطب تنتظره هذه العجوز المتعبة؟
في هذا اليوم قررت التحدث إليها، ولم يكد فضولي الصحفي يبدأ بالسؤال حتى اغرورقت عيناها بدموع حفرت أخاديد على قسمات وجهها، واستفاضت بالكلام عن حلم تدعو الله تحقيقه ألا وهو عودة ابنها الذي فُقد منذ أربع سنوات في إحدى قرى الغوطة، وحتى اليوم لا تعرف عنه سوى أخبار من هنا وهناك، وبعد تنهيدة طويلة انتهت بنظرة نحو الأفق قالت: قالوا لي إنه استشهد لكن قلبي لم ولن يصدق، فقلب الأم دليلها، وأنا أسمع صوت طرقات «بوطه» العسكري وهو يحث الخطا نحوي في عيد الأم ليقبلني ويقول لي: «كل عام وأنت بخير يا ست الكل».
ودعت أم محمد وفي القلب غصة وفي العين دمعة، فخواطر وهواجس وأحلام تلك الأم لا تقتصر عليها وحدها، فمعظم الأمهات السوريات يمضين- ولسنوات ثمان متتالية- عيد الأم وهن يتقاسمن الحزن وألم الفراق والدموع التي تنهمر مع كلمات أغنية «ست الحبايب يا أغلى من روحي ودمي» وأغنية «يا أمي يا أم الوفا» حيث يمر شريط طويل من ذكريات تدمي قلوبهن على أبناء منهم الشهيد أو المفقود أو المخطوف، ومنهم من اختار الهجرة طريقاً، وكل ذلك الألم – رغم قوتهن وصبرهن وأملهن بأن يكون اللقاء قريباً- لا ينتهي إلا بعبارة: عيد بأي حال عدت يا عيد.
 
يوم للمواجع والبكاء
تقول أم الشهيد أدهم عز الدين الذي استشهد في حمص أثناء تغطيته لزملائه الذين كانوا يصدون هجوماً إرهابياً على المشفى: عيد الأم يوم لتقليب المواجع التي لم تهدأ منذ استشهاد ابني الغالي، دفاعاً عن الوطن وكرامته، فيه نتبادل الأدوار فأنا أذهب لمعايدته، أحمل صورته، أقبلها وأنقل له كل ما يدور في خاطري، أحدِّثه طويلاً عن أمورنا وأحوالنا، أشعر بروحه ترافقني في كل مكان، أحكي له عن أخواته وأخيه الصغير ومرارة الفراق تملأ قلبي، ولكن إيماني بأن هذا قدره وقدري يخفف عني مصابي الكبير ويواسيني، فالشهادة شرف لا يعلوه شرف، ووطننا الغالي يستحق التضحيات الجسام.
قناعة أم أدهم انتقلت إلى أم الشهيد زياد عامر الذي استشهد في معارك حلب، التي رأت أنه لولا ابنها وأمثاله من الشهداء لما بقينا حتى اليوم، وتابعت: صحيح أن ألم الفراق كبير وقد أصبت بأمراض كثيرة من ضغط وسكري ومياه بيضاء في العين وغيرها بعد أن جاءني خبر استشهاده، ولكن يبقى عزائي الوحيد أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأنا أفتخر بشهادته وأضعها وساماً على صدري، وأرى أن انتصارات جيشنا العظيم التي أذهلت العالم هي أكبر هدية لكل الأمهات السوريات، وبصوت يكاد يختنق قالت: لم يبق لعيد الأم طعم أو نكهة من بعد زياد، فهو كان «دينمو» البيت في هذه المناسبة حيث يبدأ بالترتيب لها مع إخوته وأخواته الذين يحرصون على إحيائها في كل عام، ظناً منهم بأنهم يدخلون الفرح إلى قلبي الحزين.
خيالات في الذاكرة وصور على «اللابتوب»
أحزان أمهات الشهداء الأبرار لا يمكن أن تنتهي، وهي تتأجج في هذا اليوم لتتلاقى مع عذابات أمهات فقدن أبناءهن وباتت صورهم خيالات في الذاكرة، أو أصوات عبر شاشات جليدية لا تدب فيها الروح رغم ما يذرف أمامها من دموع، فهاهي السيدة أم سالم الورع الذي اختطفته العصابات الإرهابية منذ ثلاث سنوات على طريق مطار دمشق الدولي أثناء عودته من عمله، ما إن تذكرت قدوم عيد الأم، حتى أخذت تذرف الدموع من شدة خوفها أن تموت قبل أن تعانق ولدها الوحيد وتراه في بيته وبين بناته اللواتي أعيا قلوبهن الصغيرة طول الانتظار، تقول أم سالم: منذ أن غاب قرة عيني قسرياً عني وعيد الأم يمضي وأنا أقلِّب ألبوم الصور، أضم بناته إلى صدري وأعود بما يسمى بالذاكرة إلى سنين خلت كان يحرص فيها على إحضار الورود والهدايا وقضاء اليوم بأكمله مع عائلته عندي، وأحياناً كان يصر على أن نخرج وأخواته وأولادهم للسيران على طريق المطار، في كل عيد أدعو الله أن يلهمني الصبر وأن يجمعني في ابني بالقريب العاجل.
أما أم طارق العلي فلا مساحة للفرح في هذا اليوم عندها ففيه تتسمر أمام شاشة اللابتوب تقسمها بين أبنائها الأربعة الذين هاجروا إلى ألمانيا بسبب الحرب وظروفها القاسية، حتى لا يضيع عليها كلمة من طارق أو ضحكة من ربيع، أو نكتة من حبيبة قلبها رنا، أو دندنة من طليع أصغر إخوته، الذي يحرص على غناء «راجعين يا هوى راجعين» لتهدئة نار قلبها والتخفيف من حرقة غيابهم عنها، وتضيف: بعد وفاة والدتي وغياب أبنائي غاب الفرح، ومعهم غابت تحضيرات العيد التي كنا نبدؤها من بداية شهر آذار، أفراحنا أصبحت مؤجلة حتى يعود الأمن والأمان لبلدنا الغالي، وها هي بشائر النصر قد بدأت تلوح في الأفق بعد سيطرة الجيش العربي السوري على الغوطة وغيرها من مناطق سورية الحبيبة.
وفي قلوب الأبناء لهفة واشتياق
على الضفة الأخرى من يوم عيد الأم يجلس الأبناء يتذكرون أغاني الأم التي كان يفرحون حين سماعها آنذاك، والآن أصبحوا يبكون عليها، يتلهفون لكلماتها لعلها تطفئ نار الحنين في صدورهم وتخفف من لهفتهم وشوقهم لأمهاتهم، فالبعض منهم حرمته ظروف الحرب من تقبيل يدي والدته في هذا اليوم وسماع عبارة «الله يرضى عليكم، وما يحرمني منكن»، بينما وقف الموت أمام آخرين حارماً إياهم من نعمة وجود الأم في الحياة، فباسل مثلاً الذي لبى نداء الواجب الوطني، لم يحالفه الحظ منذ بداية الأزمة لمعايدة والدته وجهاً لوجه، وفي ذلك يقول: كل يوم هو عيد للأم، فهي نبع الحنان الذي لا ينضب، ورمز العطاء والحب في هذا العالم، في كل عام أتحدث مع والدتي مع إشراقة الشمس لأعايدها وأطلب منها أن تدعو لأمنا الحبيبة سورية بالخلاص من أزمتها، وعلى البعد منه كان زميله كفاح يحاكي والدته في حمص ويقول لها: «يلا جاي.. إن شاء الله هذا العيد رح كون معك».
أما نسرين حسن تلك الفتاة العشرينية التي وقفت أمام إحدى الواجهات، فكانت تبتسم قليلاً ثم تعود للعبوس، لتترحم بعد ذلك على والدتها وعلى العيد الذي مات مع رحيلها، وفي لحظة حزن قالت: قبل عشرين عاماً رحلت أمي عرفت حينها معنى الحزن العميق، ومنذ ذلك الوقت لم يعد للعيد طعم، كلما واجهتني أزمة تمنيت أمي وكلما ضاقت علي الدنيا تمنيت أمي حتى كلماتي تصبح عاجزة حين أتذكرها، هكذا أنا منذ فراقها فلا الأماني عادت ولا عادت أمي.
بدورها زينب السعيد الطالبة في الصف السادس التي توفيت والدتها منذ ثلاثة أشهر بمرض عضال بعد تهجيرهم من بلدتهم المليحة، لم تعرف التعبير عن حزنها مثل نسرين ولكنها قالت: «بتمنى ترجع ماما ع البيت، انا اشتقتلها كتير واشتقت لصوتها وللمسة إيدها ولأكلاتها الطيبة.. هي كانت رفيقتي بالمدرسة وبالبيت، وبعيد الأم إن شاء الله رح شوفها وأحكي معها وخبرها إني طلعت الأولى ع الصف».
وأخيراً
في سورية لا يمر عيد الأم كما بقية دول العالم، فما من أحد يشبه الأمهات السوريات اللواتي قدمن للبشرية دروساً في معنى المواطنة وحب الوطن وقدمن فلذات أكبادهن على مذبح حريته وعزته وكرامته، فكل عام وجميع الأمهات السوريات بألف ألف خير.
تشرين