«أرض القرمز» والحمضيّات: حسرة على ماضي الرزق الوافر

«أرض القرمز» والحمضيّات: حسرة على ماضي الرزق الوافر

أخبار سورية

الجمعة، ١ فبراير ٢٠١٩

صراع بين الزحف العمراني والغنى الزراعي، هو سمة أراضي ساحل اللاذقية الشمالي. أرض الحمضيات تفقد أشجارها تدريجاً لأسباب عدة، فيما يتواصل استجداء الحكومة للتدخل، بغية حماية المنتج الزراعي الحيوي من فقد مرتقب، وسط الخسائر السنوية لمزارعي الحمضيات
 لم يكن استحداث طريق «مُتحلّق شمالي» يشطر مزارع القرية إلى نصفين حدثاً عابراً في تاريخ المنطقة. قرية دمسرخو الشهيرة بتسميتها السريانية القديمة، على رغم تغيير اسمها إدارياً منذ عقود، نموذج من تصاعد التشويه في بلاد تفقد ملامحها، بفعل الحرب مرة، وبفعل التخطيط الفاشل مرات أخرى. القرية التي توسّعت عمرانياً بنحو غير منظّم على حساب الأراضي الزراعية، جاء ضمّها إلى المخطط التنظيمي وبالاً عليها، بعد إتباعها بأحياء المدينة، بوصفها أقرب القرى إلى مركز اللاذقية، فضاعت سمات المنطقة بين المدنية والريف. فمن ناحية، حفّز ذلك انتعاشاً اقتصادياً جديداً ساعد أهلها المعتادين على الاستفادة من موقعها الغني عبر جميع المراحل السابقة، ومن نواحٍ أخرى أفقد القرية هويتها الحقيقية وقضى على أصالة وجودها. أراضٍ زراعية استحالت فجأة إلى مبانٍ سكنية، وأخرى أضحت جرداء، فيما أشجار الليمون التي مثلت روح القرية وعلّة وجود فلاحيها بدأت بالاندثار. بعض الأهالي اعتبروا الفورة العمرانية في القرية مجرد فقاعة، سرعان ما ستنجلي عن خسائر لا تُعوّض. الكثير من الفلاحين امتنعوا عن جني محصولهم بسبب قلة الأرباح، باعتبار البرتقال أرخص الفواكه الشتوية في سوريا.
«خلّيه يموت ع أمّو»
تبدأ معاناة الحمضيات السورية، بحسب شكاوى الفلاحين، منذ سماح الدولة في ثمانينيات القرن الماضي باستيراد أنواع أخرى من الفواكه الشتوية، وخفض سعر بيعها، ما يسمح للمشتري السوري بتفضيل المستورد أحياناً. فلاحو المنطقة يجنحون نحو نظرية المؤامرة، فيقول أبو محمد، الفلاح الستيني: «لم ننل من المسؤولين سوى الكلام. إنهم يواصلون استيراد الموز وخفض سعره بالتزامن مع مواسمنا. وسيخفضون سعره بمجرد انتهاء الموسم. ومع هذه الملاحظة، نحن مطالَبون بحسن الظن». امتنع الرجل عن جني محصوله هذا العام، ويقول: «نبيع محصولنا اليوم في سوق المدينة بـ 45 ليرة (أي ما يعادل 0.08 دولار)، فلماذا أجنيه؟». ويعود للتعليق بقهر: «خليه يموت ع أمّو».
حال الرجل يقابله حال الآلاف من مُزارعي الحمضيات في الساحل السوري، الذين يعترضون على التعاطي الرسمي مع قضية هذا المنتج الزراعي. جزء من إشكالية الملف تتعلق بالإنتاج الذي يفوق التسويق بمراحل، إذ يُقدر إنتاج العام بما يفوق مليوناً و200 ألف طن من الحمضيات. يأتي تدخل الشركة «السورية للتجارة» الحكومية على خط التدخل الإيجابي، من خلال شراء ما يقارب ألف طن يومياً من المحصول، على ذمة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، فيما يُصدَّر 300 ألف طن يومياً، بمعدل وسطي، نحو الخليج. أما من طريق البحر، فيُصدَّر نوع واحد من البرتقال إلى روسيا، وهو ما يسمى «ماوردي»، وبكميات غير منتظمة، بعدما مرت قضية التصدير إلى روسيا قبل أكثر من 3 أعوام، بمشاكل تعلقت بسوء إدارة هذا الملف أيضاً.
وشكّل توقف التصدير إلى العراق أزمة كبرى بالنسبة إلى التجار، أدّت كذلك إلى تأثر المُزارعين، باعتبارهم الحلقة الأضعف، ليصل سعر كيلو البرتقال مطلع الشهر الماضي إلى ما دون 30 ليرة، تزامناً مع امتناع بعض التجار عن الشراء، قبل أن يعاود ارتفاعه قبل أيام بشكل طفيف. وعلى اعتبار أن وقف التصدير إلى العراق غير مرتبط بإرادة سورية، فلا يمكن حياله القيام بأي إجراء تعويضي. ويلفت علي، فلاح أربعيني، إلى أن سعر أجود أنواع البرتقال كان قد وصل إلى 200 ليرة، قبل إغلاق خط التصدير إلى العراق. ويرى أن الاعتماد على التصدير وحده لا يمكن أن يحلّ مأساة المنطقة، في ظلّ عدم قيام مشاريع صناعية كبرى كمعامل العصائر ومشتقات الحمضيات، التي لم يجرِ التركيز على تنفيذها طوال العقود الماضية، على رغم تكرار المأساة كل موسم.
 
تاريخ من الغِنى!
إنعاش المنطقة بدأ تدريجاً مع اعتماد شاطئها المتنوع مركزاً للشركات الفرنسية التي قصدت البلاد بهدف الاستثمار في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، ليستيقظ أهل القرية وقد صاروا جيراناً لروّاد منتجعَي «الميريديان» و«الشاطئ الأزرق»، وما يترتب على ذلك من أشغال سياحية غيرت في طبيعة السكان وزوار منطقتهم أيضاً. استثمار محال تجارية ومطاعم و«شاليهات» لتأجير المصطافين أنعش الواقع الاقتصادي للمنطقة، بأكثر مما كانت عليه. فهي الشهيرة بمواسمها الزراعية الغنية التي تعتبر الحمضيات على رأسها، ولطالما وُصفت بأنها أغنى قرى الريف الشمالي. مواسم وافرة من أفخر أنواع البرتقال والتبغ وبعض الخُضر، بحكم تربة المنطقة المواجهة مباشرةً لشاطئ رأس ابن هانئ، حيث يقع مقام «المسعود ابن هانئ». وهُنا لا بد من الإشارة إلى توزع إقامة عائلات من أحياء مركز اللاذقية في محيط المقام، إذ يمثّل ذلك تنوّعاً إضافياً للمنطقة، ويتشارك ابن المدينة والريف الاسترزاق بالصيد جنباً إلى جنب، بصرف النظر عن الانتماء الطائفي، وهو ما يُعَدّ نقطة لمصلحة أهل المنطقة، الذين عُرف عنهم سابقاً الامتناع عن بيع أراضيهم لـ«الغرباء»، ليصل الأمر ببعضهم إلى حصر التزاوج ضمن عائلات القرية نفسها، دون باقي القرى المجاورة. 
ترسّخ عادات الاعتداد بالنفس في المنطقة تجلّى في وصف أهلها بـ«الدم الحامي»، إذ كان يصعب الشجار مع أي من أبنائها بسبب جنوحهم إلى العنف في حال التعدّي. فكان من البديهي على أهالي القرى المجاورة تجنّب الصدام معهم في مختلف المراحل، وحتى في ظل حكم البلاد من قبل حزب البعث، الذي تفهّم خصوصية أهل المنطقة. العادات القديمة ما زالت تصارع في وجه الاندثار، غير أن الغنى المادي يتجلى في معظمها، إذ اعتمد الأهالي لتزويج أبنائهم على مواسم الليمون المتعاقبة، فكان الشبان ينتظرون بيع المحصول السنوي لإقامة حفلات الزواج وبناء بيوت الزوجية. وتقام الأعراس على مدار يومين في العادات القديمة، إذ يبدأ اليوم الأول بحنّة العروس على وقع الطبول واجتماع أهل القرية وعجائزها اللواتي يرتدين الزي التقليدي الريفي، وعلى رؤوسهن المنديل الحريري الذي تصنعه معظمهن يدوياً من حرير دود القز. وفي المناسبات الدينية اشتُهرت القرية بالمبالغة في ذبح الأضاحي وتوزيع لحمها على الأهالي وجيرانهم في القرى المجاورة، في ما يمثل نوعاً من التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء.
 
شباب «أرض القرمز»
حراك شبابي جديد برز في المنطقة التي تعاني تحت وطأة الإهمال وسوء التخطيط وطمع بعض الأهالي. فريق تطوعي أسّسته مجموعة من الشبان والفتيات من أبناء عائلات القرية الأساسية، تحت اسم «فريق أرض القرمز»، على اعتبار أن اللون القرمزي يرمز إلى الحضارة الأوغاريتية التي تحتضنها المنطقة. يقول هادي قنجراوي، المسؤول عن الفريق: «طائر العنقاء الذي صبغه الأوغاريتيون باللون الأرجواني أو القرمزي مثّل رمزاً للنهضة والقيامة. من هذا المغزى، انطلقنا في تحركنا لإنقاذ هوية المنطقة وفكرها وسط معاناة الحفاظ على الأرض في هذه الظروف». 
ما يقارب 50 شخصاً من الطلاب الجامعيين والمتخرجين استهلّوا نشاطاتهم بإقامة دورات صيفية للأطفال، وسط محاولات تثبيت هوية المنطقة الأساسية في أذهانهم. كذلك فُتحت معارض شعبية في مناسبات عدة لتسويق منتجات الأهالي اليدوية والحرفية، إضافة إلى المنتجات الزراعية. وقام أعضاء الفريق بالعمل على عصر البرتقال وتوزيعه على المارّين في منطقة دوار هارون، القريبة من مركز المدينة، مع نشر كتيّبات لتشجيع الاستهلاك المحلي، في نداء واضح من أرض الحمضيات لحماية هذه الزراعة. ويعمل المتطوعون على الإعداد لمهرجان الحمضيات، الذي يهدف إلى عرض كل ما يتعلق بالمنتجات التي تعتمد على هذه الزراعة، من المربى والعسل، وصولاً إلى العصير، إضافة إلى عرض أنواع مختلفة من المحصول الزراعي.