إعلام الواقع

إعلام الواقع

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢ يونيو ٢٠١٥

عالمي، غربي شرقي، عربي عربي، عربي سوري، مهمته الأساسية، تكمن في حمله رسائل الجهات الأربع، التي يتطلع إليها، ويتجول على إحداثياتها، يسير على جبالها الهشة بتؤدة، يحمل خبرة اللعب بين التوازنات، بحكم وجود تنافس المصالح وتنافرها وتضاربها، يريح هنا، ويضرب هناك، المتلقي يحاول أن يعي ما يجري، اللاعبون يرغبون في إيصال ما ينشدون الوصول إليه ضمن فلسفة المغامرة والمناورة، الكلُّ يسعى لخدمة أهدافه، اقتصادية اجتماعية سياسية، عبر وسائل معولمة، تبثّ السمّ في الدسم، والعكس صحيح، أيضاً تسارع مرعب في زمننا الحاضر، حول نقل المعلومات، الأخبار، الفضائح، الانهزامات والنجاحات، التفوق والتقهقر، الخسائر والانتصارات، أخبار الجنس والمال، الدين والسياسة، مشكلات الفرد، ذكراً كان أم أنثى، تنافس لم يعد تقليدياً، لا شريفاً ولا نزيهاً، روائح المؤامرات غدت من صلب معلوماته، الإشاعات، التكاذب، الغزو الفكري؛ ثقافي.. جنسي.. ديني.. تمييع الواقع.. حالات لم يشهدها الماضي، بدأت تسيطر على الواقع، وتهدد بقوة شرف المهنة الإعلامية، وانتهاك مبادئها الأخلاقية. ثم غزته الضبابية والفوضى، ولم يعد التوازن العلمي موجوداً، وأصبح الانتماء لهذا الطرف أو ذاك ضرورة من أجل التمويل، وبالتالي يخدم من يمول تحت مسمى الراعي، أو الجهة القوية التي تحميه اقتصادياً، وتغطيه أمنياً، والمثل الواقعي يتحدث عن أنَّ من ينفق يشرف، يتدخل، يفرض، يلغي، يمنح، يسمح، ولحظة حدوث تغير في موازين القوى، نجده ينقلب مباشرة من هذه الضفة إلى تلك، نظراً لحالات الانفلات الدولي الذي يشهد تبدلاً دائماً في المواثيق والمعاهدات والتحالفات والمواقف، بسبب لعبة المصالح والنفوذ والأطماع التي لم يعد يحدّها حدٌّ، أين تكمن لغة استشراف المستقبل؟ أو على أقل تقدير التحذير مما سيأتي، لنسأل أنفسنا: هل نحن مضللون وفقدنا الشعور بالاتجاهات السليمة؟ كيف بنا لا نستفيق ونحن محاصرون بكمٍّ مخيفٍ من الصدمات؟ ماذا تعني لنا الأخبار البراقة القادمة كلّ صباح، وكلّ مساء إلى مسامعنا، تعلمنا عن فقدنا لمساحات مهمة من خياراتنا المتاحة، ألا يسبب لنا كل ذلك مضافاً من الحيرة والإرباك، إلى درجة تظهرنا غير قادرين على اتخاذ القرارات الصحيحة أو السليمة اللازمة، من أجل استمرارنا، كيف نعمل، ولا نعمل على دفن أعمالنا الفاسدة تحت أقدامنا؟ كيف نتقدم إن لم نعترف بذلك، نحن كشعب وإدارة يبدو أننا لم ننتبه، أو نلاحظ حتى اللحظة المعيشة، أن تغيير المفاهيم التي نستند إليها، لا يتم إلا بعد أن نقوم بتغيير جذري لطريقة تفكيرنا السياسية والدينية، وأهم منهما الإعلامية، حيث نقدمهما بها كما نقدم حضورنا أمام بعضنا أولاً.. وثانياً أمام العالم.
إنَّ ما وصلنا إليه، ما هو إلا نتاج إهمالنا للمجتمع، وعن قيامنا ببرمجته علمياً على محوري البقاء والنضال من أجل ما سيأتي في المستقبل، نعم.. وليكن هناك مؤامرة مرعبة وشنيعة، يحياها جميعنا؛ فكيف بنا نواجهها بهذا الشكل اللاواعي واللاعقلاني؟ وكيف بنا نجهد لتبرير هذه الأحداث المفجعة بالشكل التقليدي القديم والبالي، ونفاخر بأننا نمتلك إعلاماً وطنياً، من دون أن ندرك أن الزمن قد تغير منذ زمن، وأن الواقع أقوى بكثير من الماضي.
إعلام الواقع يفترض أن يجسد الوسيط الناقل بين الشعب والسلطات، يخبرهم بما يريد الطرفان، ويعبر عن الآراء والأفكار والبرامج والعلاقات، يقرّب وجهات النظر، كي تنجح معادلة السلطة والدولة والغاية دائماً تطوير اللغة المشتركة، التي ترسم الصورة المتحضرة. هنا نسأل: هل فقدنا قيمة احتراف مهنة الإعلام، ليظهر العاملون به هواةً، يبحثون عن صيد الجوائز بخبثٍ استراتيجي، ولم نعد نجيد أساليبه المحترمة التي تتعامل مع عقل الإنسان المنتظر، على أنه محترم وواعٍ، ومدرك لما يجري، وأنه يستوعب لغة الإعلام، أكثر مما يستوعبها الإعلاميون من باب وسائط التواصل المنتشرة بكثافة، وأنّ للخبر آلاف المحللين القادرين على تفصيله، واكتشاف غاياته. من يمنح الإعلامي الثقة، الجهة الراعية أو الداعمة، أم المتطلعون إليه، والمهتمون بشؤون بلادهم وأخبارها من المواطنين، سواء أكانوا مثقفين وأدباء ومفكرين أم مواطنين بسطاء، يستقبلون الأخبار ويتداولونها بشغف؟
الاستماع لذلك، يدعو لاحترام وجود المتلقي المتابع ووعيه وإنسانيته، على الرغم من أنّ إعلامنا اليوم يواجه كمّاً هائلاً من التحديات، ويحتاج حقيقة إلى تطوير هائل، لا في الوسائط فحسب، وإنما في الذهنية العاملة عليه، والمتفاعلة معه، ما يشير إلى الحاجة الماسة لإنبات طموحات جديدة.
هل أصبح الإعلام طرفاً هنا وطرفاً هناك في مسائل الانقسام والتعصب الحزبي والمذهبي والطائفي؟ وأيضاً هل غدا مسوّقاً؟ وهل فقد قيمة وقوة الحياد؟ ما معنى كلمة إعلامي؟ وهل تحول الإعلام إلى شماعة تتحمل أخطاء ممارسيه؟ كيف ينحاز الإعلامي إلى هنا، أو هناك، من دون أن يستوعب الواقع، يقدمه كمن يقدم الهمّ لمجتمعه، ما يؤدي إلى فقد المجتمعات للغتها وحضورها، على الرغم من أنّ الرأي والشارع الاجتماعي كريمٌ وإنساني وأخلاقي، لا يتطلع إلى حالات انتقاص الإعلام منه، واستغلال طيبته بإشغاله بقضايا، لا تغنيه فكرياً، ولا تغذيه معيشياً، فقط يثيرون في داخله الغصص، ويحركون الفتن، فكيف بنا لا نتأمل ما فعله، ويفعله الإعلام بعالمنا العربي، وما بقي منه، فلا أحد يدري إلى أين يسير الباقي؟!
د.نبيل طعمة