الوجود غير ذلك

الوجود غير ذلك

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٩ أغسطس ٢٠١٥

لا نستطيع مهما حاولنا أن نمسك به، أو حتى تخيله بالشكل المطلق، ولم يقدر أيّ أحدٍ أن يكتبه، أو يروي حكايته، أو ينسج قصته حتى اللحظة، بشكل مقنع، كي يقدمها للكبار، للصغار، إنما كل الاشتغال الموجود من لحظة التدوين الأول، علمياً أم فلسفياً كان محض توقع أو افتراض أو وصول إلى حالة، يعجز العقل العلمي الإنساني والبشري عن تفكيك حضورها، لماذا؟ لأنه متكون من مثلث، أضلاعه الدنيا والحياة والعيشة، ثلاثية أنثوية، لا يمكن لنا أن ندرك جمعها، ففي كل واحدة منها مساحة كافية لمشاغلة أعتى فكر إنساني، وبالتالي إخضاعه لمشيئتها، فالحياة علم وبحث ومعرفة، والدنيا هوى يحمل الحب والكره والمجون والشجون، والعيشة لهاث من أجل البقاء، وقتال جمع وبقاء، نتوه معها بين الدنيا والحياة، إذاً إلى أين نريد أن نصل؟ إلى الحقيقة الواهية، التي نعتقد أننا سنربح كثيراً، إذا وصلنا إليها، لأننا بها نؤمن بانتصار الخير على الشر، مؤكد أيضاً أنه لا يمتلك سر الكتابة السابق للقراءة، على الرغم من أن عدم وجودها، ما كنا لنقرأ، أو إن لم تكن، فماذا كنا لنقرأ؟ وهل كان هناك وجود لفعل اقرأ، الذي يستند إلى البدء، الذي كان فيه الكلمة، وعندما تسرقنا الحياة من عيشنا ودنيانا، وفي غفلة منها، نتوقف لبرهة، كما تكون أقرب لاستراحة المحارب، نلتقط فيها أنفاسنا لنتأمل، ماذا نجد حينما نستطلع منها، بغاية تحقيق معرفة أين وصلنا، فيغدو اعترافنا، بأننا أصبحنا نحب بعض ما نكره، ونكره بعضاً مما نحب، نستعجل حضور الكيفية التي تمكننا من حراسة إدراكات ما وراء طبيعتنا المستترة بين الجهات الأربع، خوفاً من الدخول عليها، نتقبلها، نتفاعل معها، لأن طبيعتنا بشرية، وصفتها الرئيسة قادمة من طبيعة غابية، بدأت معها الحياة، وتأسست منها كلية وجودنا، وعملت الذاكرة عملها، مما مضى، وإلى ما سيأتي من الزمن، مروراً بالحاضر، وبهذه الأشكلة التي لازمت حياة الإنسان، وهيأته كي يكون جاهزاً دائماً لاستقبال الأفكار، ودخولها عليه، والتي تنتقل به إلى التفاخر الدائم، بأنه مؤمن وسيد عظيم، ومقاتل شرس، معتقداً بالنصر، لا يعرف الهزيمة، ما دام  أن لديه كماً هائلاً من الأسلحة النارية، ومدافع وصواريخ، يقاوم بها ذاك الإنسان الواقف على الطرف الآخر، والذي لديه أيضاً من كل الأصناف، التي يمتلكها ضده، والكل يطلب من الوجود أن يُمد له في عمره، ليغزو ليس بعضه فقط، بل العالم بأسره، بعد أن يتكئ على مساعدين أوفياء، ورجال أشداء، يموتون من أجله، من دون معرفة، أن الطرف الآخر، لديه ذات الأفكار، ذات الطبيعة الوجودية طبيعة وجودية، تحيا دنيا اللا معرفة، أو معها، فالقسوة تمتلك القسوة من كل شيء، لا تعرف اللين المحب أبداً، لماذا؟ خوفاً من أن تنكسر، أو أن تفتقر.
ماذا نريد من وجودنا الممتلئ بالأشياء المبهمة، والتي جاهدنا كإنسان مديداً، كي نعرفها، أو نستكشفها، أو نعيد تعريفها من جديد، وسر الكتابة، ماهو إلا بحث عن ضائع أو مفقود في الحاضر، ونبش في الماضي، وإضاءة نرميها على الأمام، كي نرى المستقبل، وفي النتيجة التي تعلمنا، أننا حققنا انتصاراً للخير، أو انكساراً في الشر، أو إنقاذاً للكلمة المفقودة، التي كانت في البدء، بغاية أن نقرأها من جديد، كي نعلم من أطلق على الوجود وجوداً، وكم احتاج الإله من مواد حتى أنجزه؛ وهل هناك من ساعده مع الأدوات المستخدمة من أجل إخراج إنتاج دقيق ورقيق وجميل، ومن قسمة الحياة كانت أنثى، اكتشفت ذكورة نصفها، فأطلقت عليه رجلها الذي استعبدته، بعد أن فشل في فهم احتياجاتها، فدفعت به للبحث عن دنياه التي وجد فيها حواء، احتوت مجونه وشجونه ونزواته وشهواته، أفقرته، فغدا لاهثاً وراء الحد الأدنى، عِيشةٌ دحرجت أمامه رغيف خبزه، فأخذ يجري خلفه، يطوله فينة، ويهرب منه حيناً.
إنه الوجود، غير ذلك الذي نحلم به، نؤمن به، ونكفر حسب ظروف ثلاثية، يعمل دائماً على شكل طرفين نقيضين، لا يلتقيان أبداً ضمن رحلة الصراع، لا منتصر فيه، إذاً لماذا نحن موجودون ضمن وجوده، ما دمنا نقتتل من أجل ماذا؟ الكرسي.. المال.. النساء.. الأرض.. نجمع ونقاتل من أجل من، نحيا في دنيانا من أجل أن نموت، ما معنى أن نبني ونشيد ونحب ونكره، ونترك كل شيء بعد حين، من دون أن نقدر على حمل أي شيء، سوى قبشات من قطن تسد منافذ جسدنا، وقليل من التراب يرش في أعيننا. مرة ثانية أرى أننا لم نستطع أن نزيح المتراكم الماضوي الحاكم والمسيطر على الرؤى البصرية، التي تعمل دائماً على خلط الأفكار، والتي يحاول الفكر حل ألغازها، وإفساح المجال لدخول الجديد المقنع، لتبقى الحالة الإنسانية ضمن لعبة الاضطراب بين القديم والحديث والمستحدث، فيحار العقل بين الدنيا اللعوب والحياة الحية، تلدغه متى شاءت، من دون وعي لفلسفة العيش التي تشاغل دنيانا، وتتلاعب بحياتنا، راسمة على وجوهنا لغة الصراع الوجودي، بين الخير والشر، بين الغني والفقير، تساوي بينهما بالستر والفضيحة، تستر فضائح العلماء والساسة والفقهاء، تتمسك بالكلمة المكتوبة، حيث بها تكمن إمكانية إنقاذ الإنسان من براثن بشريته السائدة على إنسانيته. 
يالجبروت الوجود!! ألا تدعونا مجريات أحداثه لإحناء رؤوسنا أمام عظمته وقوته؟ وأن نرثي ضعف وتفاهة قوانا، مهما بلغت أمامه، لنراقب دورة الأيام التي تجسد الحياة والدنيا والعيشة، تسألنا ثلاثيتها؛ متى نهدأ؟ ألا ينبغي علينا أن نستفيق مما نحن فيه وعليه؟ أليس من الضروري أن نستعيد أنفاسنا، وننزل من أبراجنا العاجية، كي نستريح، ولنواجه ما تحتويه من ألغاز عظيمة، ولنقف عندها ومعها، بدلاً من مواجهة مفتاح موتنا؟.
 
د. نبيل طعمة