الوطن والدين

الوطن والدين

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٤ أكتوبر ٢٠١٥

ليحترم كل واحد منكم إله الآخر، ولتكونوا جميعاً تحت مظلة ربِّ الأرباب، المنطق يفرض حضوره على جميع فكرنا، ما يقودنا للخوض في غمار أن كل شيء للوطن، بحكم أن الوطن هو أول ما اكتشفه الإنسان، وبحث عن تخصصه فيه، وحينما حدث التزاوج والإنجاب والإنتاج، سوّر ملكه وأنجز كينونته، التي أنبتت في داخله الخوف الأول، لا على مصيره كفرد؛ بل على سوره، وما احتواه ضمنه، تطلع بعد كل ذلك إلى السماء، وعرف سلطتها وقوتها، لجأ إليها متضرعاً، كلما دعاه شعور الحاجة للحفاظ على تسلسله وممتلكاته، إذاً بدأ بمسيرة البناء، لتتوافر له نظم أخلاقية، ظهرت من أحاسيس الحب والانتماء للمكان الذي مكنه من فهم قيمة الزمان، بحكم الفقد الطبيعي والقسري، ومنه نجد أن الوطن أولاً، لأن الدين يحتاج إلى المكان، والتخصص في الوطن يمنح الإنسان فرص الإبداع، من خلال الاستكشاف والاختراع والاشتغال بمنظومات الفهم والمعرفة، ومن ثم العلوم، فالتأمل أدى به إلى معرفة وتعريف سواد الأشياء، كيف حدث له هذا، بعد أن امتلك موطئ قدم وامتلكه هذا الموطئ، بشكل أو بآخر، وتبادل معه حمايته، لأنه اصطبغ به، أطلق عليه الاسم، فغدا به لا يفارقه، مهما حاول الانتقال أو الابتعاد أو البحث عن مواطن جديدة، لأن بناءه الأول، كان من ترابه الأول، ومهما حاول مرة ثانية، أن يستعير غيره، يبقَ في داخله الأول.
الوطن ليس مجرد كلمة صغيرة، مؤلفة من مجموعة حروف، إنما في ذاك المعنى العميق الذي لا تحده حدود، سوى جوهر الإنسان الذي آمن به، وتعلق فيه، وأنشأ معه رابطة عميقة، ضاهى في عمليته معها أعقد المعادلات الكيميائية والفيزيائية، لتتفرد هذه العلاقة بصعوبة الفك، للربط أو الحل، واعتبر أن حريته من حرية وطنه، فلا سعادةٌ حقيقيةٌ لأي مواطن، إلا من حرية وطنه، ومهم أن يفديه الإنسان، والأهم أن يخدمه بكل ما أوتي منه، فتظهر وطنية المرء عاملةً أو فاعلةً من دون أن تتكلم، وتسعى للذود عنه، فهو المبتدأ والخبر، المهد واللحد، الحياة والمصير، وبهذه اللغة التي تعلق بها الإنسان، فعلمته كيف يكون حراً، ومن الممكن للحر أن يخسر، ويستعيد خسائره المادية، لكن خسارة وطن تعني العبودية لغيره، مهما علا شأنه، ومهما اكتسب من صفات، الوطن ليس كلمة تقال هنا أو هناك، أو تذروها الرياح بعد خروجها من الأفواه، إنه قصة الأداء والولاء والانتماء، والسؤال المهم يكمن في تخيير الإنسان بين الوطن والدين، فأيهما يختار، هل يستطيع أن ينكر الإنسان وطنه، ومن الممكن مع هذا السؤال أن ينتمي لأي دين، أو مذهب، أو معتقد سياسي، أو اجتماعي، ما يقودنا إلى سؤال تلو سؤال، الأديان شمولية، فهل كان لها أن تتخصص في مكان، كيف كان حال الإنسان معها؟ ولماذا هناك مدن ودول وأمم اختلفت أسماؤها، وكان لكل إنسان وطن، ولم يكن لكل إنسان دين حمل جنسيته، لأن الوطن حالة مادية، وأهم ملكية ينبغي أن يخاف عليها الإنسان، وأنشأت خوفه عليها، هي المادة والصراع في حال قام على المادة، والدين حالة لا مادية، ونظم بنيته لتفيد الأخلاق التي وجد عليها الإنسان، وتصحح له ما هو عليه، لا يستطيع أحد أن يحرمك من وطنك إلا عندما تقرر فقدانه، أو الارتحال عنه، ولن يكون لك أي اعتراف من دونه، هل لاحظتم هذا الفارق؟ إن تؤمن بوطن وبأبناء جلدتك، فأنت مؤمن بالله، حتى وإن لم تدخل معبداً، أو كنيساً، أو كنيسة، أو مسجداً، وإن لم تملك ذلك الإيمان، وحتى أيضاً لو دخلت كل معابد الله المنتشرة على وجه الأرض، فإنك لن تجد وجه الله.
ليس هناك من أحد بلا وطن، كما أنه ليس هناك من أحد بلا دين، فالمؤمن مؤمن بالله، وبالوطن، والكافر مؤمن بدين الكفر وبالوطن أيضاً الذي يجمعهما هو الوطن، ولذلك كان على الجميع الإيمان بأن الوطن أولاً، فلك أن تؤمن، أو أن تلحد، أن تكفر، أو تنكر وجوداً معيناً، إلا أن الكل يجمع على الإيمان بوطن، ولم نجد أحداً يكفر أو يلحد بوطنه، قد يحزن منه، وعليه، لكنه يحمله بين جنباته إلى أين ارتحل، ولكن في النهاية حلمه أن يعود إليه، ففيه عزه ورفعة شأنه، وكما هو الوطن لك كذلك ما تؤمن به، هو لك، وعندما تصلي للسماء بغاية التعبد، عليك أن تعرف أن ليس هناك من أحد يسمع صلاتك في واقع الأمر، وأن عليك أيضاً أن تستوعب، أن الذي تصلي له هو في داخلك. إن الله المسكون في أعماقك تقف على أرضه، فهو مسكون فيك فقط ينبغي عليك البحث عنه، واكتشافه من خلال «وفي أنفسكم أفلا تبصرون». إن الانتماء إلى دين، أي دين، لا ينفي أبداً الانتماء إلى وطن، فالدين لكل فرد موزع بين البشرية جمعاء، لا استئثار فيه، إنما الوطن تخصص لمجموعة بشرية استحقت الاستئثار فيه، والذود عنه، وهذا الذي يأخذ بيننا لإحداث الفرق بين الوطن أولاً، والدين بعد ذلك، فلا دين بلا وطن، ولا وطن بلا إنسان، ولا إنسان بلا هوية وتخصص فيه، فالهوية يطبع عليها اسم وطن، ومن أين أنت آتٍ، ولا يطبع عليها من أي دين أو عرق تحمل.
إن نظرية الدين لله والوطن للجميع ممكن القبول بها ضمن تحديد مفهوم الوطن أولاً، لأن الوطن هو الأرض، والدين انتشار، ولا يمكن للأرض أن تحدد الهوية، إن لم تكن محددة، لتحمل اسم وطن، وحرية الإنسان في الاعتقاد حرية حقة شريطة حماية وطنه من أي عدوان، أو اعتداء على أي ذرة من ثراه، وتجسيد هذا المعنى يعني أن الوطن يمكن أن يحمل مجموعة معتقدات وأديان وآلهة، فالحق لكل فرد أن يؤمن بمعتقد وإله، لكن على الجميع أن يؤمنوا بالوطن، والصحيح الذي ينبغي أن نقوله، وقد يتفق أو يختلف حوله الكثرة أو الندرة، إلا أن الواقعية تسكن هذه الجملة، الأديان للآلهة، والوطن لمن يحيا عليه، ويؤمن به أولاً وأخيراً.
 د.نبيل طعمة