متى نستيقظ؟

متى نستيقظ؟

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٨ نوفمبر ٢٠١٥

من أحلامنا المعيشة التي أخذتنا للتعايش مع مكابدات التشظي المتوالدة نتاج وصولنا إلى سن اليأس الوطني المسؤول الأول والأخير عن حدوث مجموع التمزقات الفكرية، التي أحدثها زمن الحرب الشعواء وطفو رؤى لا تمتلك من القيم الثورية سوى عناوينها، ليقع في أشراكها جميع أصحاب الطموحات التجريبية، ليظهر من خلالها تيه التشتت المعزز للفردية، جريان البحث عن الهوية، وقلق تطور العبثية والبوهيمية على مساحات زمنية، أنبتت تلك الانفعالات الحداثوية في مظهرها الماضوية المتمكنة من جوهرها خالقةً معها لغة تصادم الواقع بالطموح وسيطرة عاملي الأقوى والأفضل، صراعات يهرب منها الزمان بعيداً عن الحدث المكاني، فيبيت الكل المجتمعي تحت غطاء زمن اليأس، لتظهرنا الصورة كاللوحة على جدار، انقطع فيها التواصل الاجتماعي، وتوقف عامل الدورة الدموية، وعقم فكرياً، جمدت العقول، ولم تجمد الأعضاء.
وطن يضع جميع العالم أصابعه على جغرافيته، لماذا؟ لأنه أجمل أسماء نساء الأرض، وهو الوحيد الذي لم يصبه سن اليأس مذَّاك التاريخ الموغل في القدم، مروراً في الحاضر، وإلى ما سيأتي من المستقبل الذي لا تحده مساحة. لماذا أيضاً؟ لأن وجه الله رسم عليه، ووجهه وحده يستحق التمتع فيه، ولنا الإذن في أن نستعير من لغة اللاهوت بتصرف ومن طرق المؤمنين القائلين، لا تبقنا يا رب خائفين من ضعفاتنا، لئلا نموت فيها، ولكن دعنا نعترف أننا لن نكتسب من القوى إلا تلك التي تعطينا إياها، لا تدعنا يا رب في فقرنا، ولا تضع محيطنا في عماه، ومعه أرى أن المثل التاريخي، ينطبق على وطننا ومحيطه الذي يقول: إنه ولد للعميان، ولد باصر، فمن كثرة ما تلمسوا عينيه أعموه.
وطننا تجلى عليه وجه الرب، فكان لنا وله الحياة، أعطانا خبزنا فيه، وأكل جميعنا خبزه، رحنا بعده نبحث عن أهوائنا وشهواتنا وأنانا التي أفقدتنا حرية التعبير وقانون الحياة معاً، لنجد أنفسنا في أتون ماديتنا، نحاول إثبات وجودنا ونحن نحترق.
من قال إنَّ هذا الوطن الأنثى يصل إلى سن اليأس؟ وهل انقطاع الطمث يعني نهاية الأنثى؟ أم إنه بدء التحول إلى الحياة ذات القوى الفكرية الهائلة التي يحدثها ذلك التوقف، هذا الوطن الأنثى يكابد ويعاني، يقول لنا بعد أن أوقف العواطف: تعالوا إلى الحياة، أعيدوا لي وجهي، وجه الله وجه الحب، فإذا كنا نتحدث عن ولادة جديدة وجيدة ناضجة ومتكاملة، فها هي الآن تحصل بفضل تلك المكابدات والمخاضات العسيرة، والجراحات القيصرية التي نحياها على أرضنا، التي ينبغي أن تظهر واقعاً جدياً، يؤمن بالحياة بعد كل تلك الانفعالات العنيفة من ذات الحلم، بل الأحلام المرافقة لحالات الاستثناء.
الدم يعرف الألم، يصرخ لحظة خروجه من الجراح، السكين لا تعرفه، وكذلك الرصاصة، إذاً أين تكمن المعضلة، ومن يمسكها، أو يطلقها، أو من يدفع بها؟ ومؤكد أن من يفعل ذلك فلديه ألم وأمل متحدان في الوصول، إما إلى الشرِّ الجارف، وإما إلى الخير العارف الذي يحتاج إليه الكل، لنتفكر أنَّ المشكلات مسكونة في جوانب الضعف، وعلى حواف الهاوية مقابل الحياة، تتجلى فيها معادلة البقاء، تضعنا أمام طريقين، إما إلى هنا، وإما إلى هناك، يقف إلى جانبهما ذاك التشظي الوطني على جغرافيا أتعبت أجسادنا الممزقة ذاتياً في ظلال التشتت الوجودي الذي يعزوه جميعنا لإرادة الله ومشيئته، وهو براء من كل ما نرمي به إليه، لأننا دائماً نتقاتل بضعفنا الروحي وقوانا المادية، لا بإيماننا الإنساني الذي ينهي مآسي الرعب، ويعيد اللحمة لتعدد ألوان الصورة، ومن دون ذلك، يبقى العار والقبح والتعاسة والفقر، يتجول كل ذلك على جغرافيا وطن، تنظره السماء، و تدفنه الأرض بلا حياة.
شروخ وجراح تخلف الندوب، تشتغل عليها شظايا الالتقاء وعدمية العمل والاستسلام للأمل، نبح الفقر على أبواب الغنى، وعواء الذئاب على الاثنين معاً، الكل لا يريد الموت، ويريد البقاء، ولكن مع البغاء والدعارة السياسية والاقتصادية؛ أي مع التشظي. كيف نكون على هذه الشاكلة والدموع تحتفل على طريقتها بحصاد الموت الذي يطالبها بالاستمرار، يسير معها على الوجنات إلى القبور التي تنتظر القتلى من كل الأشكال والألوان، وتحت التراب يتساوى الشهداء مع الأنبياء، مع الأشقياء المتاجرين بالدماء، يحصدون نوبل من كل عام، يزرعون الموت لدى فقراء العقول، ينتشون على منصات أسست من رفات الباقين، وكل من غادروا إلى الوراء.
هل نستيقظ مما نحن فيه وعليه؟ ونعي اللعبة الكبرى، وأن نؤمن بأن علينا أن نذهب معاً، نتكئ على بعضنا، ونتكل على أنفسنا من دون تواكل، نولد الثقة من ذاتنا، نمنحها إلى الله ضمن عملية تبادل فهم نوعي للحياة بعيداً عن فلسفة الاحتمالات، فلا نندب حظوظنا، ولا نسأل عن حظوتنا عند هذا أو ذاك، فناقوس الأخطار لن يستثني أحداً منا، والجو السائد الآن، يتطابق مع ذاك الذي ساد مجتمعاتنا قبل قرن من الزمان، ومع تمامه نرى أن المناخ الاستعماري مازال هو السائد، يتقدم بوجهه الكولونيالي، ولكن بصور شبه طيفية، يتحرك خلفها، غايته الوصول إلى أهداف تحقق ما نراه الآن، ومن ذات القوى وبدعم هائل من أدوات طيعة، استسلمت قديماً له، تدعم تحركاته خوفاً وهلعاً من ظهور هذا الوطن القائد التاريخي لهذه الجغرافية ومحيطها.
هل نستيقظ من أجل أن نلملم التشظي الذي أصاب وجودنا، صورتنا، هويتنا وجنسيتنا، الذي شوَّه وجه الله على أرضه؟ متى نفتح الآفاق من أجل توسعة مفهوم الحرية المقيد في فكرنا المحجب لمشاهدة بعضنا، والذي نحمله من دون وعي، نحاصره بالممنوع، فيحاصر تقدمنا بين الفينة والأخرى. هذا المفهوم الذي ينبغي أن يكون أداة تطوير، نجده في مجتمعاتنا رمزاً للقتل والتشدد والتدمير. متى نستيقظ من هذا الكابوس البغيض؟
د.نبيل طعمة