الحصان والثور

الحصان والثور

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٢٠ يناير ٢٠١٦

يجسدان السلم الأهلي والسلام المستباح، يتصديان دائماً، ويقفان بقوة للحروب المجنونة بأسسهما القوية والمتينة التي وإن وهنت لحين، إلا أنها الوحيدة التي تبقى دائماً تنادي بالعدالة وإحقاق الحقوق من أجل بقاء الإنسانية، التاريخ ليس من نصيب الضعفاء، إنما يخص حركة الأديان والساسة والأقوياء من أصحاب رؤوس الأموال الذين يمتلكون إمكانيات تحريك الأشياء، وهنا إما أن يطوروا قدرات القتل بدماء باردة وعنيفة، وإما أن يتجهوا إلى بناء السلم والسلام عبر التشييد والبناء وتشجيع الاختراع والفكر والإبداع، انتشار الكراهية يمهد لتحويل المجتمعات إلى مجتمعات مقاتلة، تستثمر معها كل الأفكار الدينية والثقافية، تحولها إلى أدوات بعد أن تغدو بيئاتها مهيأة للقيام بحروب، تبدأ بالعشوائية والفوضوية، وتنتهي بجيوش، وإن لم تصل إلى صورة جيش، تتحول إلى عصابات تنهك أعتى الدول، أو على أقل تقدير توقف تقدمها، وتعيدها إلى التخلف بحكم الانشغال بما يجري، ومن ثمَّ، تنتشر حالات الضياع والتشرد، ويتجه كل فرد أو مجموعة للتعلق بمعتقد ديني أو سياسي، ومعه تظهر حروب الطبقات الاجتماعية، ويبدأ تصنيف المتقاتلين وفرز المجتمع لبعضه، وتظهر شعارات تضاد حول الثورات، تقتل السلم الأهلي بلا أخلاق، وتنسلخ الأمة، الدولة، الأفراد، عن كامل القيم الروحية والفكرية والأخلاقية، تنتهي معها روادع الأديان، ويتجه الكل للثأر ممن؟ من بعضهم!! تتمزق الوحدة الوطنية التي كان يحملها السلم، تداس الكرامات، ينتشر الفساد، وتغدو الأحقاد أكبر من أي مشروع مسالمة، يتشنج الجميع، ويتدخل كل من ليس له علاقة، غايته استثمار النتائج أو الحصول على ما يصبو إليه، يتورط الجميع، يقعون بين المطرقة والسندان، ينشدون الخلاص، الحقد لا يدمر الإنسان فقط، إنما يدمر كل شيء، وأهمه السلم الأهلي، حيث يذهب بعده الجميع إلى الانفلات على الحيوان والنبات والجماد، يتشابهون معها.
انهيار السلم الإنساني يعني فرط العقد الاجتماعي والاتجاه للوقوع في أتون الفتن الضاربة نتاج مؤامرات دقيقة خبيثة غير واضحة على عامة الناس المجسدين للكثرة، وبها تختلط دماء أبناء الأرض الواحدة مع مفردات الأخلاق والتخلق والفساد والإفساد، تدفنها الحروب من دون تمييز بين هذا أو ذاك، حيث يعود الواقع ليسأل أين نحن؟ من نحن؟ هل نحن ضحايا تآمر دائم على شخصيتنا العربية، وعلى قوميتنا، وعلى ما ندين به؟ أم نذهب بسبب ديانتنا الإنسانية التي شوهت بكثرة التفاسير وفوضى الفتاوى، أم بسبب ما أسكن في عقولنا من تفاسير حاربت التطور من خلال الحياة الأخرى التي تحمل كل ما حلم به إنسانها، هل هناك من عربي في زمننا الحاضر لم يعد يعلم بأن هناك تآمراً على وجودنا، نسهم فيه بقوة، وإن ضرورة إبقائنا في حالة من التخلف والاقتتال وتدمير السلم الأهلي، كلما وصلنا إليه، إنما هي ضرورة للعوالم الأخرى، أوَلم ندرك بعد، أنه كلما اقتربنا من النمو والتعاون وبناء قوة ما، يرمون بشرارة تصطاد وجودنا، فتشعله، هل نحن شعب سطحي؟ يتحدثون عنا بأننا جاهليون، بدائيون، عقلية الصحراء والقبيلة والعشيرة تغزو عقولنا، وأننا لم نمتلك يوماً فكراً أو منهجاً باستثناء تعاليم الدين الإسلامي الذي يعمقونه فينا، كي نقتل السلم والسلام في جوهرنا، نظهره على وجودنا، فنقتتل دائماً مع بعضنا.
أين نحن من جدلية الحياة الروحية والمادية وحدتهما وفصلهما وبناء تكوين فكريّ واعٍ نوعي، يحتاج إلى منطق القوة والمال مع الحكمة والعقل، وهذان موجودان لدى الأمة العربية، إلا أنهما يحتاجان إلى فكر المدير الناجح الذي يؤمن بتعاليم الدقة وعدم التهاون فيها، وامتلاك العلمية ونشرها بين مجتمع مفكك روحياً، كي يعيد إليه التلاحم وجدية الإخلاص في قيادته، وطبيعي أنَّ تراكم الشرور، وانتشار الفساد، وفقدان الرحمة، وضياع الإيمان الحقيقي من العقل، وانتفاءه من القلوب، يؤدي في مجموعه وتراكمه إلى حالة الانفجار التي تتكون منها نظريات الحروب وعملياتها المدمرة، وإذا كان الذي نمرُّ به كأمة عربية من حالات التصارع على بعضنا بين يمين ويسار، مؤمن وملحد، قومي، عروبي، أممي، وجودي، لتنتصر بينهم دائماً ثقافة أنا الأفضل، ما كان ليكون لولا انفجار مخزن الشرور الذي امتلأ بما تحدثت به محدثاً هذه المجابهات المرعبة والمؤلمة والممزقة لصورة وصيغة السلم الأهلي، إنه واقعنا المزري، هل من أحد يستطيع تجاهله أو الصمت عليه، إنه واقع صدمنا فيه من الأعماق إلى الآفاق، كشف عن فراغ القلوب ونبضاتها فقط لغاية البقاء وامتلائها بالكراهية لديمومة السلم المنشود الذي بتنا نحلم فيه، لذلك نقول: كفانا تعثراً في مناهجنا السياسية والثقافة التربوية والدينية، كفانا نهلاً من مدارس الشرق والغرب التي فرقتنا، وباعدت فيما بيننا، لنذهب إلى المدرسة الوطنية، نتعلم فيها من جديد بناء التكامل بدلاً من التنافر، وثقافة العيش بدلاً من التعايش، ولا ضير في أن نستفيد من مدارس الآخرين المتقدمين علينا بما يفيدنا، ويفيد علومنا، ويغني أدبياتنا شريطة تجسيد وحدتنا وسلمنا الأهلي، لا ينبغي لنا أن نفكر في أن نستحضر طائفاً عربياً ولا جنيفاً استعمارياً.
كي لا نخسر جميعنا ومن أجل ألا نموت برخص، أدعوكم أيها السادة للعودة إلى التمسك بالسلم الأهلي والسلام العاقل، ودراسة واقعنا المقيت، هل تتقبلون مصارحات واقعية نهرب منها؟ أم إننا نريد أن نستمر في رحلة الخداع والنفاق على بعضنا، نحن دولة قائمة على أسس منطقية لحظة أن فقدنا المنطق تعثرنا، فماذا يعني لنا أن يدخل جميعنا في نفق أطلق عليه ثورات التي مفردها ثورة، والثورة أنثى، كيف نواجهها، ونواجه انفعالاتها التي تؤدي إلى هدم الصيغ، إن لم يجرِ التعامل معها بعقلية الخبرات التراكمية والحكمة التي تمسك بالإسفنجة، تمتصها، ومن ثمَّ تعصرها بعيداً عنا، لا بعقلية الثور الذي لا يرى إلا اللون الأحمر، فيثيره رغم ظهوره الهادئ والبارد، ويبقى الفرس منتظراً بحكم مسالمته، تنتهي الثورة بحكم انفعالها، وتبقى علاقة الثور والحصان، تجسد السلم الأهلي وضرورة الحفاظ عليه، وعلى توازن العلاقة فيما بينهما.
د.نبيل طعمة