أعجوبة الصمود

أعجوبة الصمود

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١١ مايو ٢٠١٦

 تؤدي إلى أعجوبة البقاء، ومن ثمَّ أعجوبة النهوض التي تعني أن الانتصار على الهدم قد تحقق، وأن نعمة الحياة استعادت حضورها بقوة، بعد أن سيطرت عليها ثقافة الموت والقتل بشتى أشكاله، التي سادت مجتمعاتنا، وما زالت مستمرة في بعض منه، وطن حاولوا إحراقه بالكامل، لم يقدروا، فأحرقوا بعضاً منه، أرادوا أن يتحول إلى رماد تذروه الرياح، إلا أنهم فشلوا، لأن السوريين لهم حلم واحد يراودهم ليل نهار، وأينما حلوا أو ارتحلوا فهو الوطن، والانتماء إليه قبل الانتماء إلى مذهب أو طائفة أو دين، ولأننا آمنا بثقافة العيش والتكامل، ورفضنا التعايش، حاولوا حرقنا، أو كسرنا، وتحويلنا إلى فتات، ولأن إرادة إنساننا وانتماءه كانا أكبر وأرقى وأسمى من تلك النعرات التي عملوا جاهدين أن يرموه بها، إلا أن هاجسه الوطني والقومي العروبي بقي أكبر من أيِّ آخر محيط، وظهور وعيه وتفوقه على وعي التضاد معه، أنجز أعجوبة الصمود التي تأخذ بنا رويداً رويداً لتحقيق ما يشبه أعجوبة الالتقاء مع الإله، أو أعجوبة الصعود أو العرج إلى السموات العلا، هي كذلك كانت آلهة الكتلة التاريخية السورية ورسالاتها التي اتجهت بها إلى البشرية جمعاء، عبر رسلها وأنبيائها وأوليائها، ليتناقل شعبها لغتهم، وليؤمن دائماً بقدرته على القيامة بعد أن يمر بآلام أخيه الإنسان التي يرميها عليه شعب مؤمن، خرج عليه جزء منه.
لكن الحضور السوري كان أقوى من الخروج وأسفاره التاريخية والحاضرة، فهما ذهبا بعيداً، إلا أن أمل العودة والدخول من بواباته يسكن الحلم والهدف، لذلك نراه يتخطى الانقسامات، ويقفز من فوق حواجز التفرقة إلى أمته وجغرافيته، فإيمانه الأول والأخير الذي كان ومازال وسيبقى وحدة الجغرافية السورية، ووحدة إنسانها المبني في الأساس على فكرة الوحدة وتكاملاتها، فالدولة القائمة في سورية دولة حديثة، أسست على ثوابت قابلة دائماً للتطوير والتحديث، لأن منطقها يتحدث عنها، وصحيح أن هناك عتباً، سكن عقول وقلوب الكثيرين من السوريين تجاه دولتهم، إلا أنه عتب المحبين العاشقين، والمثل المتداول يؤكد ذلك، حينما يقول على قدر المحبة العتب كبير، ثلاثية الصمود والبقاء والنهوض، أظهرت لنا أننا اخترقنا كل الأفكار السلبية، وتجاوزنا الحرب الكونية، وأبعدنا الحرب الأهلية، وأخذنا بالتحرر من العزلة الدولية، ودخلنا إلى عمق المسارات، ووعينا وحده يأخذ بنا للبدء بالعملية البنائية التي أرادوا تأجيلها إلى أجل غير مسمى، وحده التأمل العميق فيما جرى معنا منذ سنوات يمنحنا فرصة استعادة الأنفاس، ومعه يحق لنا أن نسأل: لماذا وجدنا أنفسنا فيما نحن عليه، هل فقدت المبادرات من بين أفكارنا، ونحن شعب خلاق، وتاهت خيارات الحلول والتسويات، وغدا الانحلال واقعاً أمام تحدي الفشل في المناحي الاقتصادية والاجتماعية، وحتى في بعض من المحاور السياسية، وأصبح السواد الأعظم مستسلماً لذلك، وحوله إلى واقع أمام وقاحة الفكر السياسي العربي والعالمي، وإغراءات السيطرة على الشعوب، واستلاب قرارها ومكوناتها.
فسورية متكونة في الأساس من متحف كبير ومدن الثقافة والمسارح، وما تعطيه لأبنائها لا يمكن لدولة أن تمنحه، وما أعطته للآخر من أجل الاطلاع عليها، لم تعطه أيضاً دولة في العالم، فبواباتها المشرعة قادت العالم الذي تقاسمت معه خبزها وملحها، وللأسف سوادهم خان ما قدمت، وحاولوا انتهاك كرامتها، نجحوا في بعض من مفاصلها، لأنهم استخدموا الغدر والطعن من الخلف، والتسلل في الظلمات، أعاجيب القيامة والصعود والإسراء والمعراج خصت الآلهة والنبوات، آمنت بها شعوب الأرض، وأقنعت هنا، ولم تتوافق مع هناك، فكان فيها الاختلاف لا الخلاف، واعتبر ذلك منطقاً واقعاً ورحمة، كي لا تبقى الإنسانية على دين واحد، أو مذهب واحد، أو طائفة واحدة، قد يقول قائل: ما معنى هذا؟ وما مدى علاقته بما يجري لهذا الوطن السوري العروبي القومي من نشأته، وهواه الذي يتنشقه يتحدث عنه، نعود نسأل عن تجاوز الخطايا إلى عبودية الصح الذي هو غاية وهدف، رسمته الطبيعة الإلهية، لكن الطبيعة الدنيوية مبنية على الخطيئة، ومن لا يخطئ لا يحيا، لأنه لا يعمل، والعمل يحمل الخطيئة والفكر، ومهما حسب فلا بدَّ له أن يحدث الجدل والخلاف، وحتى الاختلاف معه، إذاً علينا أن نقول للعالم أجمع: لا توجد دولة إلا ومارست الخطيئة هي وشعبها أفراداً ومجتمعات، إلا أن خطيئة بحجم ما مورس على مجتمع ودولة، قامت بها مجموعة هائلة من الدول والأفراد والجماعات طبعاً على سورية التي تحملت أخطاء الشقيق والصديق والعدو، وأقصد الذين كانوا أشقاء وأصدقاء، ولأن العدو معروف لدينا، أما أن يغدو الإخوة والأصدقاء أعداء، وتصمد سورية الوطن والإنسان، فإنها تستحق لقب الصمود وأعجوبته النادرة.
نعم الفوضى صناعة تنتج عن تصميم وتخطيط مسبق، والانضباط صناعة، والأخلاق صناعة، وكل شيء في هذا الكون صناعة، لذلك كان لهذا الكون صانع، وكل ما ننجزه تقليد مستمر مما صنعه، فالطائرة صنعت من الطير، والغواصة من الحوت، وقسْ على ذلك، لكن ما يهمنا ونحن نتحدث عن أعجوبة الصمود، أن هذا الوطن الذي تمت صناعته بقوة، يُحاول هدمه، ولأنه إن هدم فلن يتكرر، فإن صموده حالة نادرة وضرورة حتمية، فالطامعون المستحدثون والمصنّعون بدرجة رديئة، حاولوا ويحاولون إحداث الفوضى، لنعترف أنهم نجحوا إلى حدٍّ ما، لكنهم لن يقدروا، إنهم يريدون دخول التاريخ، طبعاً سيدخلونه كما دخله قاتل سقراط الحكيم، الذي قال لقاتله نحن الاثنين سندخل التاريخ، أنت كقاتل، وأنا كمفكر حكيم، الأهرامات لن تتكرر، تدمر لن تتكرر، حلب لن تتكرر، دمشق لن تتكرر، والكثير الكثير مما صنع لن يتكرر، المجرمون يتكررون، الطغاة يتكررون، القادة العظماء لن يتكرروا، لأنهم وجدوا كي يدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه.
د.نبيل طعمة