الإيمان سياسة

الإيمان سياسة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٥ نوفمبر ٢٠١٦

الكيان والدولة يرتسمان ويرسمان من خلال واقعية الحياة المتعلقة بين الدين والسياسة، وظهور جدلية الاتفاق والاختلاف المنضوية دائماً تحت ألعاب الإثارة المشبوهة التي تفصل بينهما، يعيدنا إلى مفاهيم أن لا عداوة مطلقة أو دائمة في السياسة، وكذلك تكون الصداقات، حيث لا استمرار فيها، فصديق اليوم عدو الغد، وعدو الأمس صديق اليوم، هكذا هو الحال في السياسة التي تعني فنَّ إنتاج الممكن، وارتكازها على نظرية المصالح. أما في الأديان فإنها جاهزة دائماً، تسكن تحت الرماد، لا تقبل التقنين بحكم تمسكها بقوامها ومقوماتها، وبشكل خاص الديانة الإسلامية ذات التنوع الكبير في فرقها وشعبها وتضخم فوارقها، على الرغم من أن منشأها واحدٌ، حيث من المفترض أن بها اكتملت وحدة الأديان، وحينما نسعى للبحث عن أسباب انقسامها ندرك بسرعة أنها نتاج خلاف أو اختلاف على منهج أو حقٍّ أو فكرة، فإن لم يبادر الكل إلى إيجاد حل وإحداث ذاك التطور في المنهج والفكر، الذي يؤدي إلى إفناء من يذكي النار فيها، وإلا بقيت عناصر العداوة التي تذهب بالأطراف لما لا يحمد عقباه. ولنأخذ أمثلة خلافية قائمة بين فروع الشجرة الإسلامية الواحدة التي يعترف جميع المسلمين بها، وبأركانها الإيمانية المشتركة، والمتجلية بالله والرسول والكتاب المكنون، والكيفية التي يختلفون عليها في السنن والأحاديث والتعاليم، ويتهمون بعضهم بعضاً بالباطنية (التقية)، وأحقية الخلافة لمن، ومَنْ مِنَ الخلفاء الأربعة الراشدين كان يستحقها أولاً، ويستحضرون دائماً على طاولات حواراتهم وموائدهم أحداث السقيفة، ومعركة صفين، وحادثة الجمل، وولاية الفقيه، وتنوع الأرباب تحت مظلة الكلي، واستمرار الخلفاء، ومن جوهر من، وعلاقة الباب بالمدينة، وعتب إغلاق باب النبوة، وعلمية أمير الأمراء، واستمرار التأويل الديني اللاعلمي، وثقافة إخفاء الحقائق، وتعميم التجهيل من خلال تأكيد أمية الرسول، على الرغم من علميته وعلمية الباب، ثنائية لولاها لما كان هناك إسلام ولا مسلمون، وجاهلية ما قبل الإسلام التي كان التحضر الراقي يسكنها من دمشق، إلى بغداد، إلى طيبة مصر، وصولاً إلى ما كان بين بكة والقليس، حيث كان الحنيفيون والوثنيون والصنميون والصابئة، ومع اليهود والمسيحيين، وقبل كل ذلك الآمونيون (آمون) المتحول إلى (أمين) ضمن بواتق جعلت منهم نماذج للحياة الإنسانية الراقية في هذه المدائن، وجلها -إن لم يكن جميعها- عمليات تجهيل خبيثة، برمجت بغاية اصطياد الإيمان وتعزيز التخلف، في الدين الواحد، وأيضاً بين الأديان ومنبتها الواحد وترسيخ ذلك في ذهنية المسلم الذي لم يدرك حتى اللحظة ماهية الفرق بين الإيمان والإسلام، صناعة يمررها الأئمة والمفسرون بدهاء الماضي الذي استسلموا له، إضافة إلى وجود المرتزقة المؤججين المضخمين المستمرين والمعززين لنقاط الخلاف، المتجاهلين لركائز التوافق، الذين جعلوا من السلم حرباً، ومن الود عداوة، ومن الاتحاد فرقة، هكذا هو حال اللاعبين المشتغلين في قضايا التفاصيل، التي تسكنها الشيطنة، نراهم يدققون في الفواصل والنقاط وإشارات التعجب، ورمي الأسئلة الحاملة للفتنة بين الأطياف الإسلامية وتمتع الكل بالخرافات والأساطير والحكايات التي نسجت حول كل منها ترمى باستمرار، يتناولها العامة، كلما طفت حالة تقارب أو محاولة للقاء ومن كل الأطراف، فندرك أنّ من يسعَ لتحجيب العقل فغايته إبقاء هذه الأمة متخلفة ومشرذمة، والذي يعتبر أخطر من حجاب الرأس وقلنسوات الأئمة والكهنة الذين أسكنوا تحتها كهن الخلاف والاختلاف وتفاسيرهم المفرقة بين فروع الشجرة الأصل التي يحمل جسمها الإيمان، يغذي فروعها منه، وإني لأعتقد أنه حان وقت استنباط الوعي من الوعي، واسترجاع الذات المنطقية، كي يتم التخلص من كل هذه القضايا الخلافية التي توالدت بسبب الانهيار والانحطاط الإسلامي الذي حضر مع الغزوات المتتالية لجحافل الغرب والشرق والشمال والجنوب، وظهور الحالات الهجينة، ودخول الدونمة التي عززت الخطيئة، وتمسكت بها، وأعلت من شأنها، حتى غدت واقعاً، فبنت الحواجز، ومنعت حضور أي اتفاق أو وفاق.
الدين كيان، السياسة دولة، فمهما بلغ أيّ كيان، نجد أن ارتكازه الرئيس على دين أو مذهب أو طائفة، أما السياسة فارتكازها على الأرض والإنسان والحدود والمجتمع، ومنه ندرك أن المال يحتاج إلى السياسة، فمن دونها لا يستطيع الحركة، لأن أدبيات السياسة تتعلق بفن حكم الشعوب، والمال حياته، الدين يرتكز إلى المنظومة الخلقية القادمة من الإله إلى أنبيائه ورسله وكتبه وأوليائه وثوابت تعاليمه، تتملكه الشمولية والدعاية، وفي الوقت ذاته يحتاج إلى الرعاية، لأنه إذا انفلت أطاح بكل شيء، وأباح له، واستباح كل شيء، المال متحرك الأديان، ثوابت ذلك لا يمكن أن يلتقي المال والدين، لأن الدين يدعو لإنفاقه في سبيل الله، والسياسة تدعو لتكون قوية، ولا يمكن لها أن تكون كذلك، من دون امتلاكها للمال.
السياسة دولة اجتماعية اقتصادية عسكرية أمنية، والدين كيان يتوطن الإنسان، ويشار به إلى ديانة السياسة؛ أي ديانة الدولة، لم ينجح أي دين في السيطرة على السياسة؛ أي على أي دولة، إنما نجحت السياسة في السيطرة على الأديان، وأكثر من ذلك جعلته في خدمتها، أو على الأقل في خدمة مشاريعها الاجتماعية والاقتصادية وحتى الدينية، لذلك نجد أن العلاقة بين الدين والمال فاشلة، بينما بين المال والسياسة ناجحة إلى حدٍّ كبير، وأيضاً هناك جدلية تستمر بين كل ذلك، وبشكل خاص بين الدين والسياسة، ما يمنح فرصاً هائلة للتأمل والبحث، حيث نجد ليس الإثارة المشبوهة فقط، إنما إثارات مذهلة يقف العقل الإنساني المؤمن بالحياة عندها، فإما أن يتوافق معها، وإما أن يرفضها ذاهباً إلى البحث العلمي والجدلي، وغايته اكتشاف المزيد من الشبهات المثيرة تحت مسمى العملية التكوينية.
هي الحياة ونظمها التي وُجدت عليها، وأخذت بالحركة الدؤوبة التي علمت أنَّ الإيمان وزع بين الأناسي حيث حولته السياسة إلى أديان، فابتعدت عنه، وقسمتها إلى مذاهب وطوائف، فكانت منها الكيانات الدينية التي فاقت آلاف المرات عدد الدول التي تديرها السياسة بحنكة وفن وتلاعبات، متى ندرك أنَّ الإيمان بأي شيء إيماناً حقيقياً يحوله إلى مُعَرّف، ويكون السبيل الوحيد للنجاح شريطة أن يمتلك الإخلاص.
د. نبيل طعمة