منعطفٌ تأمّلي

منعطفٌ تأمّلي

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٧ يناير ٢٠١٧

يأخذ بنا لاكتشاف اللحظة التي ترينا الوجود.. الكون.. الإنسان.. ومنه ينشأ سؤال يفرض حضوره في الواقع المعيش الذي يفسح المجال كثيراً الآن، لاكتشاف ماهية الماضي واستشراف ما يحمله المستقبل من مفاجآت، وخاصة أن النقطة العمياء تمنع اللغة البصرية من الانتشار، لتبقى البشرية في حالة الظلمة الفكرية على الرغم من سطوع الأنوار وتكاثف الأضواء، وعليه نجد أن اختلاف زمن الماضي عن الحاضر والتقاءه مع زمن المستقبل يسمح بتخيله بحرية تامة والتجول فيه وبقاء الزمنين المتلازمين من دون السماح بكشفهما له وتمتع وجهيهما بالتضليل الهائل الذي أوقع الفكر الإنساني في حيرة بين الغيبي والعلمي، بين الاستسلام والتسليم والشك، بين الإقدام والانتظار، وأنشأ معهما سجالاً بين الواجد والوجود والطبيعة، بين البحث عن البقاء وحتمية الفناء وصعوبات البحث في الماورائيات التي قدمت مفاعيل الفهم والمعرفة، ومنحت ترخيصاً للبحث واكتشاف الكينونة المتبدّية على وجوه الموجودات الحيّة والجامدة ككائنات باقية فانية متجددة متحولة قابلة للتطور، وأن لجميعها أصواتاً تتردد في تدفق الأحياء المتوالدة.
اكتشاف اللحظة يحتاج من الإنسانية استحضار الوعي العاري، ليتشابه مع عريِّ الطبيعة والجماد والسماء والبحار؛ أي مع عريِّ الخلق الأول.
نحن في الشرق وعالم الجنوب قبلنا بلهفة الماورائية الغربية التي تلاعبت فيها تلك العقول المتحركة فيه بعد أن أنجزت تاريخاً بسيطاً ومركباً، كانت غايته الأولى والأخيرة إنجاز نسيان الكينونة؛ أي البدء وفلسفة الخلق الإبداعي، وقد اتحد فلاسفة الغرب وكتابه وإبداعيوه بغاية العمل على جعل البشرية جمعاء بمن فيها شعوبهم في حالة توهان من أجل تحقيق النسيان، والغاية دائماً كانت ومازالت تعميم النسيان وإخفاء عملية عريِّ الوجود الكلي الحامل للوضوح والحقيقة المجردة المالكة لمساحات الإذهال المقابل لهذه العملية التضليلية الكبرى، هذا الذي حضر في فلسفات البسطامي وابن سبعين وابن عربي والخيام والرومي ورابعة والسهروردي، وقبلهم كان التنزيه المحمدي والثالوث المقدس العيسوي والتظهير الإلهي الموسوي؛ أي إن مثلث القداسة مع الفلاسفة العرفانيين، كونفوشيوس، وزرادشت، هؤلاء الذين أنجزوا الذاكرة، ما دعا فلاسفة عالم الشمال والغرب لإنجاز فلسفة النسيان بعد اعتبارهم لهذه الذاكرة أنها قادمة من الورائيات، وقاد ذلك غوته ونيتشه وهيغل وفورباخ وصولاً إلى هيسلر وهيدغر وبونو وكوبان.
منعطف تأملي يدعونا للخروج عن هذا الراكب البشري المتكاثف والمتصارع والمتلاطم لبرهة، كما هو حال البحر حين هيجانه، كي نرى من ذهب ومن بقي، ونقوّم الحاصل بغاية أن نستخلص منه رؤى تفيد الباقين، وتنجز للقادمين لغة جديدة، أو على أقل تقدير تجديد القائم وإصلاح الخرب وإزاحة المخلفات بغاية بناء الجمال أو تجميل المهتك، فالإنسان قادر دائماً على صناعة المستحيل وامتلاكه قدرة التأمل، فاللاعبون لا يرون إلا أنفسهم لحظة أن تضرب سلطة الطبيعة وجودهم أو قيامهم بضرب بعضهم، لذلك نجد أن الباقي مدعو لسماع صوت الوجود الذي يعلو دائماً في داخلنا، فلماذا نتجاهله والشهود تحيطنا طبعاً، إن لم نعد إلى عريِّنا الخلقي، فلن نصل إلى سماعه ولا إلى فهم مشاهداته الشاهدة علينا، هاتان القيمتان العظميان هما المسؤولتان عن أفعال الاستماع والإنصات إلى صوت الوجود وتردداته في مسارات حضورنا المتقد والمتجلي في التدفق الحي والحيوي.
الكل عمل على صوت الوجود وكنهه، تأمل فيه إلى أن وصل إلى الانعطاف المهم المتجلي في اكتشاف اللحظة التي تعني عين الحقيقة وشجرة الحياة المثمرة وإنشاء الدوائر عبر زهرة الحياة الذهبية التي تتشكل من تسع وتسعين دائرة، ومنها يكون تسعة زائد تسعة ثمانية عشر، وثمانية زائد واحد تسعة، حيث الولادة الجديدة التي وصل إليها ابن عربي وآخرون من فلاسفة الإيمان العرفاني مبتعدين عن إشكالات التدين وانقساماته التي بعدها توقف العرفان عن التأمل، وابتعد كثيراً بحكم ظهور الهوات بين الإيمان والتدين، كما حدث الامتناع عن قول الأشياء قبل تعريفها، داعياً إلى منع التحدث عن الوجود، والاكتفاء أولاً بالاستماع لصوته الذي يكشف لنا عن مساراته، والاختيار الواقعي مثالها، فهل تعلمنا الإنصات لصوته، وتركناه يرشدنا عبر تدفقاته التي تحضر لنا من الوراء إلى الأمام، فنرى ما لم يُرَ، ونصبح ونمسي على كشوف تظهر وتغيب، تنير وتحتجب، تثير وتدهش، وها نحن الآن نحيا طاقة العماء التي لا تعرف سوى سلاح القتل وأدوات التدمير الشامل بناء وهدم عيش وموت لا حياة بينهما، والسبب أننا غادرنا التأمل ومعارف العرفان، وفقدنا التمسك بحبائل الأنوار التي ترشدنا إلى فهم الحياة.
إن العودة لاكتشاف أسباب وجود الرسالات الثلاث والامتلاء من الرسالات التأملية والوجودية، يعني فهم أسباب حضور الماورائيات إلى الحاضر ومرافقتها لنا نحو المستقبل، وأن نجري معها حوارات من أجل الحياة التي نحت نحو الغرابة، بعد أن ظهر ذاك الرواج التجاري الهائل في كل شيء، فأدى إلى نزوع تقليدي لفهم الحال الحاصل على المعرفة القادمة من عالم الشمال والغرب بشكل خاص، وإني إذ أفتتح باب التأويل المتناقض بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب على مصراعيه، فإني أؤكد أن النفوس البريئة غدت ضد رؤية العالم التأملي العرفاني، وراحت لامتلاك مفاهيم القوى المادية وأسلحة الدمار الشامل والانقلاب على الحياة لهاثاً خلف العيش.
اكتشاف اللحظة لا يتم بالمصادفة، ولا اعتباطاً، نعود للبحث عن الاختيارات المتاحة لنا الآن، بعد هذا التهتك الفكري المذهل الحادث للبشرية واختبار منظوماتها الإنسانية التي تحولت إلى بشرية قميئة، وحينما نطرح المفاضلات التي ترتبط بتكوينات الأمم ثقافياً ونفسياً واجتماعياً، والمصالح العليا للعقل البشري، نجد الخلل الهائل الذي أصابه، لذلك نسعى للنهوض من الواقع وتحيزاته الأيديولوجية التي فصلته عن التأمل والعرفان، وأخذت به رويداً رويداً إلى النسيان، والسبب هذا الستار الحديدي الذي شكل سداً أمام العودة للاحتكاك بتلك الرؤى التي اعتبرها فلاسفة الغرب ما ورائيات غير مجدية، وهنا أشير إلى أني أتحدث عن جماع التكوين الفريد بين زمن الماضي والحاضر، من أجل إظهار بنية إيمانية لقافية نوعية واجتماعية متميزة.
د. نبيل طعمة