السوريون مستمرون

السوريون مستمرون

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٤ مايو ٢٠١٤

من ذلك الماضي الموغل في القدم، والمقدَّر بعشرات آلاف السنين، يؤكدون بقاءهم في المستقبل، بذات الزمن الذي قضى منه؛ من خلال حقائق تدلّ على تراكمهم وجذورهم الضاربة في أعماق الكوكب الحي، على الرغم من المحاولات الكثيرة لانتزاعهم أو إلغاء وجودهم؛ إلا أنهم باقون بقاء الحياة، فهم مسامرون. ومتسمرّون. خلّاقون. بناؤون. شديدو البأس. عنيدون. وطيّبون. كرمُهم جامع وحضورهم لامع. وحدتهم هدف القاصي والداني؛ الذي يتطلّع إليها بضْعهم بإكبار وبقيّتهم بالحسد والغيرة ونصب المكائد والأشراك..
هم ليسوا بأغنياء كي يشتروا كل يوم شيئاً رخيصاً، مؤمنين بأن الغالي الذي يدّخرون له ويطمحون لاقتنائه قادرٌ على البقاء معهم، يفيدهم، يحميهم، يساعدهم على التطلّع بعد وصولهم إليه لاقتنائه.. قوّتهم تسكن عقولهم؛ لذلك تجدهم يحافظون عليه ويعتزون به، ويفاخرون بما لديهم أمام الآخرين، لا يبيعون ما شروه ولو كلّفهم ذلك حياتهم..
نعم.. السوريون آمنوا بوطنهم فتحوّل إلى نبض، تعلق بعضهم بأخوّة الدم والوفاء والحب، واختاروا قائداً لهم، ومن خلال ظهورهم بين أضلاع المثلث بنوا هرمهم الكبير؛ رغم اختلاف مذاهبهم ومشاربهم الروحية والفكرية والثقافية؛ إلا أنهم آمنوا بالتكامل الذي قادهم من إيمانهم بالعيش المشترك، إذ أدركوا أن ما ينقص هنا ستجده هناك، فما بينهم أكبر من فكرة العيش، وأقوى من روابط العشيرة والمنطقة والمدينة والحي؛ وحتى البيت.. عرفوا بعضهم، تجاوروا تداخلوا تزاوجوا، حبُّهم متطور جداً، إلى أن وصلوا به إلى مصافّ "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"، وإيمانُهم بوجودهم تجاوز الخطباء من الأئمة والكهنة والرهبان، خرجوا عن التفاسير المفرِّقة والمبرمَجة، وصاغوا دستور عيشهم المؤمن بالتكامل من خلال الأداء؛ مبدع الوفاء والولاء الأمين، فكانوا أمناء على حضارتهم وتحضِّرهم، ومدنيّون من مدنيّة مدنهم.
السوريون أمّة قائمة من بشر وإنسان، شكَّلوا شعباً تشير إليه قدرات التمتع بالحرية والحب والسعي الحثيث للحصول على السلام، كمثل باقي الشعوب والأمم، يخطئون ويصيبون، يتعلّمون، ويشعرون، تملؤهم الأحاسيس، ليسوا بملائكة لكنهم عاقلون ينفعلون ويفعلون، وفي الوقت ذاته تراهم دائماً وأبداً باحثون جادّون،  كذلك ينشدون الهدوء والاستقرار، إنهم مسالمون متعلقون بفلسفة السلام، يرفضون الحرب، إلا أنهم محاربون أشدّاء على الأعداء وعلى من يريد انتزاع ما آمنوا به، وأحبّوه، لذلك هم معرّفون عند وبين جميع الشعوب والأمم؛ في قارّاتهم الخمس، وحتى تحت الشمس يومِئ إليهم ضوء القمر والكواكب الأُخرى، والنجوم تحرسهم وترمي كلَّ من يسيء إليهم بشهُبِها الثاقبة، نواياهم صادقة وطيّبة يفحصون أفكارهم ويدققون فيها كما لو كانت أفكار غيرهم، وطنهم بقاؤهم، تواقون للأفضل على الرغم من توقّعهم - بسبب ما يؤمنون به ويسعون إليه - أنه الأسوأ، فهم مستعدون دائماً للعطاء والبناء والاشتغال دون الالتفات لما جرى وكان، فتجاربهم الحياتية التي مرت بهم لم تعصف بهم؛ بل زادتهم إيماناً ببعضهم، وقوة أمام أعدائهم، يشهد جميعهم بأن الفجر ينبثق دائماً من حالك الظلام الذي يُرخى به عليهم؛ فيخلِّصهم منه بإخلاصهم.
السوريون أهل حق، لذلك هم منتصرون دائماً وأبداً على الباطل، حيث أنهم محافظون بقوة على ما عاهدوا واشتروا بأفكارهم قيَمهم وقاماتهم، قادتهم وقياداتهم التي هي منهم وهم منها، متعاهدون على الحفاظ على ما عاهدوا عليه، لهم خصوصية متفردة جداً على بساطتهم العامة؛ يمتلكون قدرات ومزايا خاصة الخاصة، وكلما حكَكْتهم بدا لأصحاب العقول وغيرهم جوهرَهم البراق والأخّاذ والشفاف، لدرجة أن من يحضر إليهم ويمكث بينهم تؤلمه مغادرتهم، فلقد أثبت التاريخ أن جميع من أتى إليهم مُحبّاً أو مُبغضاً صديقاً أم عدواً تغيّر قبل أن يصل إلى أسوارهم، لماذا؟.. لأنهم محبّون وأهل كرم وعطاء، لذلك تجدهم متغيِّرين؛ فإما أن يتغيّروا أو يتحولوا إلى أصدقاء بقوة الإيمان بالصداقة والأخوّة بعد أن كانوا أعداء، وإما أن يتطوّر حبّهم وعشقهم وتعلّقهم أكثر مما كانوا يتوقعون.
هكذا نحن السوريين، تراكمٌ حضاري نتزنّر ببعضنا، ننسج وحدتنا، مؤتلفون متراصّون، بناؤنا التاريخي ينبئ عن العلاقة القوية المتداخلة من الشكل المعماري للبيت السوري وشوارعه وحواريه، نواقيسه وأهلّته يبنونها ويرفعون عمدها بالتآخي والمحبة، فالناظر إليها يشهد على إعجاز تكاملها، فكيف بنا لا نسعى وراء الغالي والنفيس؛ مدّخرين إياه للحظات صعبة وعصيبة، نستحضره دون أن يغادرنا، نرنو إليه، نتأمّله، نجد أن فيه خلاصنا من المحن التي تعصف بنا أو تحاك لنا، فنخلص به ويخلُص بنا، كيف بنا وآباؤنا وأمهاتنا وأجدادنا علّمونا بأن الغالي غالٍ وقيمته تسكنه، فمن يراه يدرك على الفور قيمة وقوة ما نشتري ونصبو إليه..
   
د.نبيل طعمة