(الدون جوان) رجل بلا قلب

(الدون جوان) رجل بلا قلب

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٤ فبراير ٢٠١٥

  لم يذكر التاريخ أنّ امرأة غدت نبياً، أو رُسِّمت بطريركاً، أو وصلت لمرتبة الولي، لماذا؟ لأنّها رمز الحبّ، والحبّ لا يعرف صغيراً أو كبيراً، معاقاً أو سليماً، لذلك كانت آلهة للحبّ. وبدونها لا حياة، أي لا حبّ، وبسبب مشاغباتها الهائلة ضمن مسيرة أي رجل، تسبّبت بوقوعه في الخطيئة التي انحصرت به. يتوبون.. يتقلدون أعلى مراتب الكهنوت بين مثلث القداسة، لماذا نسأل لحظةَ أنْ نستعرض حالةً تاريخية نعرّج من خلالها لذكر ما دوّنه التاريخ رجلاً بلا قلب، شَعر وفي غفلة من مسيرة حياته أنّ له قلباً يخفق لأول مرة في عمره الواصل إليه، وأدرك في تلك اللحظة أنّ رحلة مجونه انتهت بعد أنْ اتحدت نظراته مع نظرة سيدة فاتنة جاذبة ساحرة وفتاكة، أخذته من طرقاته إلى عالمها، ليعتزل بعدها العبث واستباحة النساء اللائي قضى على مستقبلهن بعد أنْ هوى بشرفهن إلى الحضيض، والسبب كان دائماً.. لحظات حبّ لن تتكرر يقضيها معهن ومن ثم يدعهن باحثاً عن غيرهن.. سارت حياته بحثاً دائماً عن مراكمة أكبر عدد من النساء.. حتى بلغ عدد عشيقاته في أقل من سنة عدد أيام السنة وأكثر، واجتاحت بسببه أوروبا صورة الإباحية انطلاقاً من موطنه إسبانيا ومدينته برشلونة، واعتبره رجالها عدوهم اللدود، واشتركوا جميعاً بعداوته، آخذين بنصب الأشراك له، حتى إنّهم طلبوا منه المبارزة، بارزهم وانتصر.. فاعتبره الناس أنّه ليس من البشر، إنّما شيطان ساحر.. يفتن بجماله الذي يتبختر فيه على حصانه حين يطوف بين شوارع مدينته والنساء ينظرن إليه بالعشق والهيام، يرسلن مع الريح له أحرّ القبلات، ليدوّن بعدها أجمل وأجرأ مخاطرات مرّ بها الحبّ التاريخي، واعتبرت مسيرته أقوى من شخصية كازانوفا أو قصص الفايكنغ، وحتى من (إيساف ونايلا) اللذين مارسا فعل الحبّ قبل ظهور الإسلام، حينما كان الطواف في كعبة قريش يستلزم التعري الكلّي، فالتصقا ببعضهما تداخلاً ولم ينفصلا، بل تحولا بعد ذلك إلى صنمين، إلهين للحبّ، وعنتر وعبلة، وقيس وليلى، وروميو وجولييت، مسيرة تخصصت في اختراق المرأة وقضاء الوطر منها، واستطاعته في جعل حبّها وقفاً عليها وحدها، أي أنْ يبقى في ذاكرتها دون تسجيلها في ذاكرته. 
كلُّ شيء مصيره الفناء وليس لشيء قيمة بعدها، بعد أنْ غدا له قلبٌ.. افتتن بحبها.. شغف بها ولجأ معها يقضي حياته بعد أنْ اعتقد سواد الناس أنّها حالة عابرة، إلا أنّه عاش معها عشر سنين، قضت بعدها نحبها، وبقي هو يزحف كلّ صباح من منزله إلى قبرها، حتى غادر الحياة، وفي عامه الأخير أخذ يُكفر عن ذنوبه بعد أنْ شعر بواجب التكفير عنها، حيث حلمه اليومي يُعلمه بأنّها دُونت في السماء ضمن السجل الرباني الكبير، وأنّ الحساب منه قريب، وبدأ منذ أنْ غادرته امرأة حبه الوحيدة التي أحبها بجوارحه وعشقها من فكره، حتى ملامحها لبسته، ليلقي بذاته بعدها في بحور التقشف والزهد والتقوى وغايته الوحيدة التوبة، وهب نفسه للربّ، حمل صليبه وسار على درب الآلام والخلاص بعد أنْ تنازل عن كلّ ما يملك إلى المحتاجين والفقراء باحثاً عن المغفرة، طالباً الدخول إلى مملكة الربّ الخالدة الممجدة من أجل الراحة الأبدية ليصلها وتدركه الرحمة الإلهية، ويعلم الجميع ذلك من خلال حدوث المعجزات المشعّة من قبره لكلّ مؤمن بالحب، حيث يجد المريض عنده شفاء لدائه، والعاشق الحائر بلسماً لقلبه، والعذراء العانس زوجاً لربيعها، والمرأة العاقر وليداً لأمومتها، والأرمل أرملة يضعه في طريقه أو طريقها، وتتكرر المعجزات ليقيم الرهبان حول قبره مزاراً يبيعون الزيت الشافي، ويجمعون المال من أجل تحقيق أمنيتهم للوصول إلى الفاتيكان، ويمضون في ذلك ما يقرب من مئتي عام، وتتحقق أمنيتهم المتجلية في تطويبه قديساً تربع على مجونه وحبّه على عرش التوبة والفضيلة، فكان رمزاً للحياة وفلسفة عميقة جسّدت حضوره الشهوة وسقوطها.
ها هو ذا يقترب من نظرية حضور القديس (فالانتين)، الذي اقتربت أفعاله منها إنّه (دون جوان) عصره والعصور، (ميكائيل دي مانارا) قديس الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية الذي أحب امرأة واحدة بعد أنْ عاشر آلاف النساء وتاب على يديها، إنّها السيدة (جيرو لا مادي مندوزا)، هذه التوبة كانت بفضل الحب وقوته الروحية الحياتية الهائلة، والتأمل فيه يمنحنا رومانسية الإبداع واستنباط فكرة الحياة الثنائية، ليس فقط بين الرجل والمرأة، إنّما عملية متكاملة بين جميع ثنائيات الحياة، فيحدث الإنجاب الفكري الذي يأخذ بنا لإحداث عملية التطور والمشاركة في إنجازاتها، الحب في عيده يصنع المعجزات، أسطورة أم حقيقة كان يدعونا للعمل على أنْ تكون حياتنا ملأى به، وأنْ لا يُكتفى باختصاره في يوم واحد، وأنْ لا يكون ذكرى عابرة، فما معنى أنْ لا نتمتع به طيلة العمر، وما معنى باقي أيامنا من السنة، هل تعي حياتنا لهذا المفهوم..؟
رجل بلا قلب، يشبه جميعنا قبل توبته وسعيه للغفران، فهل نسعى لامتثال الشيء الثاني من حياته.. أي حينما غدا له قلب امتلأ بالحب وانتشى بالحياة أكرم بحبه محيطه فأُحدثت له المكرمات..؟ هل ننتفض على الضغائن والمكائد ونلفظ مفاهيم الكراهية والبغض لنتكامل كحبيبين عاشقين للحياة، ولنقرأ الحبّ ونبحث عنه كالسوسنة بين الأشواك..؟ دعونا نتغزل بحبّنا ونخاطبه كما نخاطب أنثى نعشق.. قائلين: قومي يا حبيبتي وتعالي أريني وجهك لأنّ وجهك جميل، أسمعيني صوتك لأنّ صوتك لطيف، عيناك حمامتان أبعدي شعرك عنهما، شفتاك كسلكة من القرمز، وفمك حلو باسق كياسمينة، خدك كفلقة رمانة، رأسك بشكله وكأنه قمر في تمامه، عنقك كبرج كنيسة أو مئذنة معبد، ثدياك كخشفتي ظبية توءم يرعيان بين خميلة من سوسن إلى أنْ يفيح النهار وتنهزم الظلال في يوم الحب، لذلك تجدني أقول للحب: لا تختفي.. إنّنا نتمسك بك.. لن ندعك بعد الآن.. إنّنا نعلن أنّ باقي العمر كلّه حبّ من أجلك.. من أجلنا.
د. نبيل طعمة