تقمّص الآلهة والرسل .. بقلم: د. نبيل طعمة

تقمّص الآلهة والرسل .. بقلم: د. نبيل طعمة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٣١ مارس ٢٠١٥

بدأ يظهر ويتجلى من بين المجتمعات والأمم بعد تشكل الطبقات المخمليّة التي تربعت على عروش اقتصادات دولها، مترافقةً ومتوافقةً مع مجموعات النخب السياسية التي أفرزت من بينها قيادات اعتبرت ذاتها تستحق البقاء على كراسيها، من دون حق الاعتراض من أحد، وأنها الوحيدة القادرة على إدارة الأرض والإنسان، بعد أن اتخذت من آلائها الدنيوية وسائل للسيطرة على كل ما يقع أمامها، حتى السلطات الدينية ومشاريعها أخضعتها بقوة لهيبتها ونفوذها، وبالتالي غدا كل شيء ثابتاً أو متحركاً، حيّاً أو جامداً، مراقباً وملاحقاً أو مهدداً بالتهم الجاهزة المفبركة والمنظمة المقنعة بقوة على كل محاور الحياة، والانتقام إلى ما لا نهاية من كل ما لا يتوافق معها، والسبب واحدٌ، ألا وهو أنَّ السياسة تطلب ذاتها الممتلئة ببنود الشهوة الدافعة لاستعباد الآخر، بعد أن تقوم بتخريب الناموس واللاهوت الأخلاقي في البناء الإنساني المنشود للحفاظ عليه، والغاية دائماً وأبداً من إثبات حضورها منع الوصول للانعتاق التحرري من سلطاتها.
وكذلك أيضاً نشأ من بين الطبقات المضغوطة في الأسفل مجموعات أفرزت أفراداً، تقمصت ذات عنواننا، وبدأت تقاتل وتصارع من أجل إثبات وجودها، تلك الطبقات الفقيرة والمعدمة أيضاً شرعنت الحقوق على هواها، وأخذت تسعى كي يكون لها إلهٌ أو نبيٌّ أو رسولٌ أو قائدٌ، تقاتل به ولأجله، وبين هؤلاء وأولئك تقف الطبقة الوسطى حيرى، تتفرج، تنتظر إلى أين تميل، على الرغم من أنها خلاقة النخب، بحكم أنّها القادرة الوحيدة على إدارتها لأدوات الإنتاج، أي إنها المنتجة الرئيسة في كامل العملية الثلاثية الأبعاد، والمستهلكة والمنفقة المستمرة في آن، مما تحصل عليه، وطموحها تحسين واقعها، إنما برضائية قلَّ وندر أن نجدها عند الطبقتين العليا والدنيا، لا تبالي بالحكم وثقافته، إنما تكون داعمةً له، فعملت الاثنتان للقضاء عليها، وهذا حدث فعلاً في مجتمعات ودول العالم الثالث الذي أذاب الطبقة الوسطى، فسهل على الطبقة العليا بقاءها آلهةً، والطبقة الدنيا تصارع لإنجاب آلهة، والسؤال يفرض حضوره من أجل ماذا؟ وما الغاية في أن يغدو أيّ أحدٍ إلهاً ما دام الإله الكليّ موجوداً عند الكل بحكم التنوع الذي أراده هو، كي يبقى لدى النوع واحداً.
الإشكالية الحداثوية مسؤولة عن هذه الحالة وعن انتشارها، وبدأت تنمو هذه الظاهرة من لحظة نشوء القطبين العالميين وتسارع الصراع بينهما، إلى أن انتصر أحدهما على الآخر، وضمه تحت جناحه وقال: أنا إله العالم، وسمح بأن يكون دونه من يتقمصه، فهو تقمّص الدور الأول، وحوّل الآخرين إلى أدوار، مستنداً إلى ما ورد في الكتاب المكنون: (تبارك الله أحسن الخالقين) أي إن هناك خالقين مثله، لكنهم دونه، وانتشرت هذه الظاهرة حتى سادت بين مجتمعات الشعوب برمّتها، وبشكل خاص العالم الثالث، ومن بينه العالم العربي الذي كان له إله واحد، تحول إلى عوالم، فغدا لكلّ إله، ومجتمعاته أخذت عنه هذه الصفة التي تطورت من ربّ الأسرة وربتها لينجب أرباباً، يكون منها رب الأرباب، وغدا الرؤساء والملوك آلهةً، والآباء والأمهات تقمصوا الأفعال، وتمرد الأبناء من أجل الوصول إلى هذه المرتبة، وهذا ما يعيدنا إلى ما قبل ظهور الرسالات السماوية، وكيف أن السائد في تلك الحقب الزمنية كان انتشار الآلهة وصناعتها وسيادتها على مجتمعاتها، حيث نجد في آثارها المنتشرة على رقم طينية لغة (ليحترم كلّ واحدٍ منكم إله الآخر) الفرق اليوم أن هذا الانتشار تعمم، لكن من دون احترام، فمن المسؤول عن وصول الحركة البشرية إلى هذه الحالات؟
الإله قوي وكبير، لا يحدّ بزمان ولا بمكان، أنجز كوناً دقيقاً، وحافظ عليه الإنسان، قوي إذا أنجز، وحينما يحمي إنجازه، فإنه يقترب من تقمّص صورة الإله، وأيضاً نسأل: هل السياسة محركة الحياة وخادمتها الرئيسة من باب سيطرتها على (التابو) المتشكل من المال والدين والجنس؟ ما يدعونا إلى التساؤل: هل هناك من سياسة راقية لدى أي طبقة اجتماعية اقتصادية دينية أم إيديولوجية في القراءة والاستقراء؟ أم إن لكل منحى سياسته؟ إذا كان كذلك فمن يدير هذه المناحي، طبعاً يجب أن نقرّ أن ليس ثمة من سياسة نظيفة، وهذا يأخذ بنا بالطبع لمعرفة بوابات استنادها إلى جوهرها القائم من الخداع والمكر وفن حكم الشعوب، وأيضاً اقتناعها بأنها تدير شؤون مجتمعاتها بالأسلوب الإلهي، لكنه نقيض الآلهة والرسل، فاعتبرت ذاتها صاحبة الحق في تقمّص أدوارهم، من خلال اقتناعها بأنها قادرةٌ على قيادتهم بالسرّ ورسم الخطط وتحقيقها والتلاعب بهم ونشر الشذوذ والاعتداء على أي نفس تخالف توجهاتها، فتعتبر فاعليتها لا إنسانية، لذلك تحاول دائماً أن تنتصر على ذات أحوالها أولاً، ومن ثمّ تنتقل إلى أحوال مجتمعاتها، ترخي عليهم ظلال مقاصدها، تخترق أدمغتهم وأفئدتهم، يفتك في الجسوم رصاصها، ليخرب كامل الأجهزة الحيوية، تنهي كلّ ما شبك، وتحبك كلّ ما فرط.
حتى الرسل والأنبياء الذين ظهروا وولدوا ضمن مجتمعات لم تعرف الانقسام، اجتهد من حمل تعاليمهم لتقسيم وتجزئة رسالتهم، وأصروا على إنجاز الخلاف والاختلاف، والغاية كانت دائماً وأبداً تقمصهم، فغدا لكل واحد منهم نبيه ورسوله وحتى وليّه، مقاربين أنفسهم بأفعال الإله ورسله، لذلك غدا العالم يخاف المؤمن بحقيقة وجوده من كل انحراف أو عدوان، يتم مباشرة أو بشكل غير مباشر على الروح والجسد الإنسانيين، وأيضاً أدرك لدرجة كبيرة أن الأفكار السياسية والاقتصادية والدينية لم يعد لها هدف سوى حفاظ هيمنتها على الإنسان، والمراقبة لأحوال مسيرة الآخر السائر إلى جانبه، حيث بتنا نرى تأليب العقول، حتى وصلت إلى أنَّ أيَّ فكرةٍ في حدّ ذاتها حركة قادرة على التغير أو الوصول بها إلى حيث يراد لها أن تصل، أي إنها اقتربت من الفعل الإلهي وأكثر من ذلك بدأت تتقمصه.