ورطة التحضّر العربي

ورطة التحضّر العربي

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٢ سبتمبر ٢٠١٥

مغلفة بالغيوم الداكنة، وبأجواء تملؤها روائح البارود والجثث المتعفنة، يرتسم المشهد العربي بواقعية قل وندر أن تحدث ويراها أحد، لدقة خيوط الألعاب المتحركة من الأعلى، وكأن الإنسان العربي دمية مرتبطة بتلك الخيوط، تسيره على خطوط مأساته، لدرجة تكاد تحوله بشكل نهائي إلى أداة رمادية، ظهرت من مزيج الأبيض والأسود، فتاهت عيناه، واعتلت القسوة جبينه، وكأن به يعشق همجية الماضي، ووحشية الصحارى، وخوف المسير في الغابات الكثيفة، يُعَوّم الحكايات الأسطورية على حضوره، يجيل نظره، يريد النور، ولا يريده في آن، كيف له أن يجمع كل هذه العقد، لماذا لا يبتسم الحظ المتجسد في الحياة للعربي؟ هل لأنه إنسان روحي ممتزج بشراسة العواصف الحامل الدائم للانتقاد المغرض؟ لم يخرج من دائرة شكه بالشعوب الأخرى، والعكس صحيح، حيث لم تترك صفـة سلبية إلا ولحقت به؛ هل لأنه كثير الشهوات، ولا يعرف وضع حدود لها، أم لأنه تاجر الخلاعات وما شابهها، أم لأنه شاعر، لم يستشعر إلا لغة الخيال، فلم يعرف الواقع أو الواقعية، وعرف فقط أن الحياة مبارزة، عليه أن ينتصر دائماً، ومتاجرة همها الأول والأخير الربح، بحكم أن ديانته ديانة متاجرة، لم تتجه إلى الإبداع، أو الإنتاج فيها، ولذلك نراه منكسراً، وأن المرأة أَمَةٌ جسد، وأن عليه الإيلاج فيها ليل نهار، وأن طعامه ينبغي أن يكون حلال الذبح، وهو يمارس كل أنواع الحرام، لا يفرق بين ألوان الأخضر؛ أي تدرجاته، ويعرف أن الدم فدوٌ وقربان، وأن الألحان مقترنة بمقارعة كؤوس القصور، أو في الحانة حيث ظلال المجون، بعيداً عن المشاعر وإنسانية الإنسان، لماذا يفيض بئره بالخيانة والهزل؟ لا جديد من جده، منشغل مشمّر في حفر الحفر، ونصب الأشراك والمكائد، وإحداث الفتن، يمضي عمره، يعد أيامه، ينسلخ منه نهاره، ويتبعه ليله، وتظهر أصباحه، فيلح بالدعاء للإله والطلب منه من دون عناء، حلمه الجنة، كيف يكون وكيفما كان، يستحضر إدراكه المسكون بين الحلم واليقظة، غايته إثارة مواضيع التقدم والارتقاء، يسأل ذاته ومحيطه، لماذا نحن عرب، وما الفرق بيننا وبين الغرب؟ مؤكد ليست في النقطة هنا أو هناك، إنما لماذا نحن مرة ثانية أبناء العصور المتنورة، وغدونا متخلفين، ولم نؤمن يومأ بأن بلوغ الحضارة لا يمكن الوصول إليه، إلا بالمرور بالأحزان، وتحمل تبعيات الدمار، وما كان للإنسان أن يتقدم ويتمدن من دون قسوة الحياة عليه، وقسوة المجتمعات وتجاذبات أطماعها، وإحساسه الدائم أن التقدم مطلب فكري مرغوب فيه، لكن هل نمتلك الإصرار لتحقيقه، وإلا فالتأخير الدائم نصيبنا، وإذابة الجمود وتفكيك المستحيل متعلقان بالخطوة الأولى شريطة أن تتبعها خطوات، ومعها ينبغي تنظيم الفرد العربي المؤسس الرئيس لظهور مجتمع واعٍ  وراشد وأمين ومتعاون، يؤمن بالجماعة لا بالفردية، سمة العربي بين المجتمعات الأخرى وتركه بما هو عليه، يعني ترك أفكار الفوضى تعبث به، وأياديها تطوله أمام أو عند كل محاولة نهوض بالمسؤولية، من كل هذا الذي ذكرناه، حيث دخل العرب في ورطة التطور، وتاهوا فيها، فبقي العربي يتناوبه وتنتابه مشاعر الخوف من الخيبة، وفقد كثيراً من آماله في إعادة حضوره، وضعفت قدرته في تقديم حتى حضارته التي كان يفاخر بها، وخجل أمام التفاخر الحضاري المعلن من الآخر، لماذا؟ لأنه يحب بأناه اعتلاء كل شيء، حتى وإن كان خازوق ثقافته تنافسية على الكرسي، وإن قدر أن يكون إلهاً، فهو مستعد لذلك الدور.
هل نحن العرب أفراداً وجماعات المصطبغين بهذا الاسم، أينما حللنا، وكيفما ارتحلنا، نخوض ورطة التحضر والحضارة والتقدم والتطور حقيقة أم وهماً، ولم نأخذ من فكرة تطور المجتمعات الأخرى إلا فكر اقتتالها البائد على الرغم من عمليات النقل المظهري، التي قام بها الكثير ممن ذهبوا إلى الغرب أو الشرق، الشمال أو الجنوب، إلا أنها جميعها بقيت في إطار الحالة المظهرية، ولم تجر أبداً وحتى اللحظة عمليات بناء جوهر حضاري، فالتحضر بناء جيني، كريات حمر وبيض، تتحرك ضمن الشرايين، فهل أدركنا كل ذلك؟ وأيضاً نسأل: أين الإبداع الحضاري العربي؟ وأين نتاجه الذي فرض حضوره على الآخر؟ نحن لا أكثر، ولا أقل بقايا من مجموعة متاحف وآثار ومصنوعات تقليدية، والباقي وكما تحدثت تقليد لكل شيء، أين يكمن الدافع الحقيقي المتجلي على الواقع لبناء مجتمعات مدنية ذات جاذبية، تزيد من رفع الذائقة الجمالية على الرغم من انتشارها بين لغة البصر، وأعني إحلال الحركة والسكون، وإعلاء أصوات الصخب والضجيج، أمام هدأة الطبيعة، أين عظمة الإنسان العربي وارتقاء ذاته التي إن استطاع بناءها مجَّدته، وأخذت به إلى مصاف الأمم؟ أين القانون السماوي والوضعي الذي يشكل الإنصاف للجميع؟ أين فكرة الإيمان الحقيقية؟ أين المفسرون المجددون المؤمنون بالتطور الواقعي؟ وماذا يعني أن يبقى العربي متمسكاً بإسلامه، وهذا من الأهمية بمكان، لكننا نجده مبتعداً عن إيمانه، وكثير العرب بل سواده مسلم، وندرته مؤمنة، حمل إسلامه الفطري طالباً فرضه على البشرية من دون وعي منه، أنه بما هو عليه مرفوض، إن لم يؤمن بإنسانيته، والعلاقات الإنسانية تحتاج إلى الإيمان والتبشير للإيمان فقط، لأنه وحده يحقق معادلة إنسانية الإنسان والأخوة الحقيقية.
ماذا ننتظر، ونحن نتطلع إلى الأفق البعيد من شواطئ البحار الواسعة، تدور الأيام، و لا يأتي التحضر، حتى وإن ملأ صراخنا عنان السماء، واستغاثتنا وصلت الأقدار، إن لم نقاتل تخلفنا القابع في أعماقنا، والمسيطر على جوهرنا، حتى وإن لبسنا أغلى الثياب، وتعطرنا بأجود العطور، ولم نستطع أن نواجه أنفسنا بالحقيقة التي نحن عليها، فسنبقى ندور في فلك المجهول‘ باحثين لاهثين عن حلول لورطة التحضر.
د. نبيل طعمة