في بلادي

في بلادي

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٨ نوفمبر ٢٠١٥

كان لكل مدينة وحي وحارة وقرية اسم ولقب، فدمشق تزهو بياسمينها، وحلب تزهو بقدودها وطربها، وهناك فيها لاذقية العرب والجبل الأشم يطل على حورانها، يثير في النفس العجب، مآذنها وأبراج كنائسها كانت وما زالت تثير لدى كل زائر وسائح الاستغراب، وتمنحه فسحة من الأمل، في دير زورها التأم فيها أرمنها، والتقى في باديتها الطالب بالطلب، كل بقعة فيها أثر لحضارة، أو عمارة، أو رُقَمْ، تدل على طاقة ملأى بالحب والعلم والأدب.
في بلادي كل واحد أكل من خبز الآخر، وبات في مدينة الآخر، إن لم يكن في بيته، ودرس إلى جانب الآخر من الابتدائية حتى الجامعة، وعمل مع الآخر في القطاعين الخاص والعام، والتحق بمعسكرات الفتوة والجامعة، وخدم الجيش وحمى المدن والحدود بالتعاون من دون تذمر أو قلق.
ما الذي جرى؟ بعد أن حل ظلام الرعب والخوف والعتب، تاه العلم بين أسباط المتعلمين، انتهت معه فكرة الإيمان، وغدا الكل متدينين، صار الجهل سيد الموقف، وانتشر انتشار النار في الهشيم، وبسرعة لم تعهدها حتى سرعة الضوء، لم يعد في بلادي للكياسة حضور، ولا للسياسة تأثير وحبور، لم تعد تعرف بلادي قواعد التجارة، ولا بشاشة التجار، والكل منهم تحول إلى صقر أو نسر. لم يعد في بلادي شهبندر للتجار، وفي أحياء مدنها انتهى وجود الزعيم والمختار، الزعيم الذي يُحتكم إليه عند حصول خلاف أو شجار، وفقد التاجر لقبه المبني من الحروف الأربعة؛ تقي، أمين، جريء، رحيم، المختار صار موظفاً، وانكفأ من بينها رجالاتها، صغارها حملوا السلاح؛ سكيناً وخنجراً وطبنجة، والتفوا بالشال والميتان، كسروا الأحذية، وتكلموا بالفجر بين بعضهم، وبالتهديد والوعيد، الكل راح في بلادي إلى حالة الاستكبار، لم تعد تمر في سماء بلادي طيورٌ مهاجرة، ولا تحطّ على أرضها، إنما سكانها أصبحوا -حتى في داخلها- مهاجرين يعبرون الحدود، يحملون الهموم والأحزان والحنين، غدوا كنازحين يلجؤون إلى بلدان عبر البحار، يصلون إلى أماكن مجهول فيها المصير.
سواد أبناء بلادي لا يعرف السباحة، ولا يدرك معنى المغامرة، جلهم يعرف النكاح على أنه إنجاب، يأكلون ويشربون, يتكلمون بالإشارة مع الآخر، فلم يتعلموا اللغات، فقدوا فنون اللياقة واللباقة، وكذلك كياسة اللقاء والالتقاء، تملكهم الذل والإذلال.
أجل، كل هذا حدث في بلادي نتاج بنائنا الهش الذي تعلمناه من بناء العنكبوت لبيوته، ولم نتعلم كيف يبني النحل البيوت، فما إن عصفت بنا الرياح حتى تشرذمنا فرقاً وجماعات، تاه الأب عن بنيه، راحت الأمهات إلى الخوف على البنات من الجهاد وفلسفة النكاح فيه، بينما الشباب انقسموا بين مدافع عن البلاد ومنشغل بالحور العين والوصول إلى الجنان، وهارب من الجندية والاحتياط، انشغل الجميع بحمل السلاح، أصبحنا وأمسينا نتداول الأحقاد، وكيف يكفّر بعضنا الآخر، والتفكير في كيفية الخلاص بالقتل والتدمير. الجميع امتلك ميزة صناعة الأفخاخ، وتلغيم الطرق، وصناعة الخوازيق، والصلب بالمقلوب، والحرق بالزيت المغلي والنار.
في بلادي الدموع تجري كالأنهار، لا يخلو بيت من صورة شهيد، أو قتيل سقط بين هنا وهناك، الآهات تتحشرج في الصدور، والنطق يتلعثم تائهاً بين القيل والقال، والسمع تأتيه سين التسويف المرافقة دائماً لمقولة قريباً سينتهي القتال، سنعود أفضل مما كان، سنصبح أحراراً، سنذهب إلى حيث نريد، سننتصر، سننهزم، سننكسر، سنقف، سنموت، سنحيا بين انفجار وانفجار، بتنا لعباً بين أصابع الكبار والصغار، إلى أين؟ متاهة لا مخارج فيها، ونفق بلا شموع، نتدافع فوق بعضنا، نحتاج إلى من يضيء لنا شمعة عند انقطاع الكهرباء. هلا توقفنا قليلاً لالتقاط الأنفاس، وصحيح أننا عنيدون، ولكن أمام وطن وناس نقول مرة ثانية: هلا كففنا الأذى عن بعضنا، وهلا كففنا مقاطعة إنسانيتنا، فبدلاً من أن نقاطع الشر والإرهاب، ونحاربه من داخلنا، أخذتنا العزة ليحارب بعضنا بعضاً، نتصارع على هويتنا وجنسيتنا وأرضنا وسمائنا، غدونا نحارب بأنانا، وبدا غريباً علينا أن نتحاور فيما بيننا، وأن نواجه الواقع، فرضينا التناقض، ورفضنا كل ما لا يشبهنا، لم نفرق حتى اللحظة بين العقائد الدينية ومفاهيم السياسة، لم نميز الأفكار الخلاقة من الأفكار الهدامة. في بلادي صرنا عبيداً للشهوات نتاج تحويلنا العبادات الحقَّة إلى عادات، وغدا القتل عادةً، وكذلك الخيانة في الحب والسياسة والوطن، وللمبادئ والقيم، حتى أخذنا نتقبل خيانتنا لأنفسنا، رغم أنَّ الكل يتحدث عن المشتركات، ولا يعمل لها، وصامت أمام الفساد المستشري، والكل مقتنع به.
الكل في بلادي مستفيدون من الظروف الطارئة، بغطاء أو بدونه من عامل النظافة إلى الموظفين والموظفات، المواطنون راضون، التجار ينهبون الناس، الناس مع الموظفين ينهبون الدولة، الدولة ترفع الأسعار، أي إنها تعيد نهب ما نهبوه.
في النتيجة الكل صامت، القذائف تنزل بين هنا وهناك، غدا الناس يسأل بعضهم بعضاً: من أصيب؟ من مات؟ المهم أننا سالمون، فسادَ بين العامة القول: (حوالينا ولا علينا)، الجميع يكملون يومهم، وكأن شيئاً لم يكن. تدير المذياع والتلفاز، فلا تجد سوى المحللين الصارخين بوجوه بعضهم، يصف بعضهم بعضاً بالعمالة، خمس سنوات مرت على بلادي، لم يحدث حتى اللحظة أي تطور على المشهد، بينما العالم شاغلناه ويشاغلنا. تسأل الناس بماذا أنتم منشغلون؟ يجيبونك بأنهم يفكرون بالتفكير، وما هذا التفكير؟ يدعونك مباشرة لتفكر معهم، وجوه هائمة، التفكير الأول والأخير هو أن تبقى موجوداً، وألا تخطفك رصاصة طائشة، أو قذيفة لا تعرف أين ستسقط، أو اعتقال من جهة ما نتاج تقرير وهمي، أو خطف من أناس مجهولين ومعلومين في آن.
هذا هو حال بلادي الذي بدأ منذ خمس سنوات إلا قليلاً، والخمس تعني القبضة، وهل في تمامها تتفكك هذه القبضة الشائكة أو القصة، ونخرج على الحياة من جديد؟ أم إننا لم نعد نستحق الحياة، لأننا غدونا مشوهين فكرياً، كم نحتاج لإصلاح هذه التشوهات يا بلادي، صرخات نطلقها من عمق الألم و سيرورة الحياة، والغاية أولاً وأخيراً هي بلادنا التي لا نمتلك سواها؟!
د. نبيل طعمة