لا برجوازية في الفكر

لا برجوازية في الفكر

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٧ مارس ٢٠١٧

كما أنه لا ترابط بينها وبينه، بحكم أنَّ الأولى تمتلك حالات مظهرية، تعتبرها النظم الفكرية حالة أولية أو ابتدائية للوصول إلى منظومة الرأسمالي الذي استمد فكره من المكون وفلسفة كتبه المقدسة القائمة من اعتماد مبدأ المقايضة: (تعطي أعطيك)، ومقاييس الأجر التي دعمت بلغة الثواب والعقاب بدءاً مِن (مَنْ آمنَ بي وإنْ ماتَ فسيحيا) وصولاً إلى العمل المقاس بمثقال الذرة، فإما إلى هنا، وإما إلى هناك، فإن علاقتها محكومة للمادة وتوافرها. بينما الثاني لا مادي عندما يعمل، يعمل من أجل إنتاج المادة واستخدامها في عمليات تطوير الوجود الإنساني، يستثمر في الحياة موجداً لها رفاهية تساعده على الاستمرار ضمن رحلته المنظومة منه بين البداية والنهاية، حتى إنه لا يفكر كثيراً في النهاية، لأنها تمثل له العمر الفني، حتى وإن استمر بعمره الزمني بعده، فإنه يدرك تماماً أن البقية غير مجدية، لذلك نجده يستمر منتجاً إلى أن تختطفه على حين غفلة، أو أنه يعرف اللحظة الأخيرة، وأنها قادمة حين يصل إليها.
ما دعاني لأخط هذه الكلمات حوار جرى بيني وبين الدكتور إسكندر لوقا الأديب والمفكر، حينما كنا في حوار حول الحاجة إلى تطوير الفكر الاجتماعي والإنساني والأخلاقي، من خلال مواجهة التخلف المعرفي والثقافي المنتشر بشكل خاص بين الطبقات ذات الظروف الجيدة، أو المقلدة لها، أو تلك التي استحدثتها الظروف الراهنة، حيث نراها في لباسها، أو تزيينها، أو حركة طعامها وشرابها ولغتها التي تعمل على ترقيعها بطريقة مضحكة، نأخذ منها أمثلة: مررت على المطب (المتب)، والوطن (الوتن)، وبطيخ (بتيخ)، ولا تعرف من أي لغة عالمية سوى (بونجور) و(إرلي – Early - بكير)، و(باي) و(هاي)، يحملون السيجار الذي فُطموا عليه والنرجيلة تعبيراً للترفيه، يخزِّنون ما يخافون فقدانه معتقدين أنَّ الآخر سيموت، وهم لا.  لا تمتلك من مفهوم الاستعداد للانتقال نحو المستقبل سوى التطلع إلى الموضة التي تعني (المودة - Fashion) أزياء أحاديثها لا تحمل أيَّ همٍّ وطني، أو أيَّ فكرٍ إنجابي خلاق، أو إنتاجي مبدع. قال لي: نبيل لمَ لا تكتب عما نتحاور، ولتكن عناوين صادمة، مثلاً: عن المرددين الذين لا يعرفون تحليل ما يردهم مقروءاً أو مكتوباً أو مسموعاً، أو حتى الاستفادة من مضمونه. وعن أولئك البرجوازيين السذَّج الذين همّهم المظاهر وخداع الآخر بصرياً. لم أجب في لحظتها، لكنني وجدت أنَّ من الضروري أن أخوض غمار العنوانين العبثيين والعابثين في حركة مجتمعاتنا العربية والسورية التي لم تفرق حتى اللحظة بين مفاهيم الرفاهية والأناقة والكياسة، وبين البرجوازية في أشكالها الرديئة، لا في مضمونها كأيديولوجيا رأسمالية ولا كفكر عاقل، مع أنَّ الحق يقف دائماً إلى جانب التطور الفكري الذي يكون ممزوجاً باللغة العاقلة والحركة الجاذبة والحضور النوعي، أما الذي يراه العقلاء على غير ذلك، فهو المنتشر بين مقلديها. سُئلت مرةً عما قدمت البرجوازية العربية لأوطانها، فكانت إجابتي: إنها قدمت التخلف والعمالة والتبعية، لأنها أغريت بفلسفة المظاهر، واكتفت بلغة التكبُّر الفارغة من أي مضمون، وذهبت لشراء منتجات البرجوازية الغربية التي قدمت لبلدانها التطور صناعةً وعمارةً وإبداعاتٍ فكرية وفنية، فبدلاً من أن نطور، نجد أنَّ أحاديثنا اشتُريت بكذا، وهذه الساعة من كذا، وينسحب ذلك على كل شيء نلبسه، أو نحمله، أو حتى نأكله. غاب احترام الفكر، وحضر اللهاث وراء المظهر، بناء لا حياة فيه، إنما أشكال ربما تُبهر في لحظة حضورها، إلا أنها تنتهي بعد قيامنا بعملية تأمل بسيطة إلى رسم «كاركترات» عنها، بأنها منتفخة ومزينة ومتحركة من دون ابتلاء، خواء في فكرها ووطنيتها، ثقافتها التباهي بما تملك من الماديات التي تتنافس جاهدةً لزيادتها من دون السعي لتقديم مفيد لمجتمعاتها.
خطأ البرجوازية العربية الأول أنها وقعت في فخ جمع المال وعدّه وتخبئته في بنوك العالم الرأسمالي، أو تكديسه في بيوتها، لم تسعَ وراء تطوير محيطها؛ بل اهتمت بقشور وجودها، ولم تقم بأي دعم للخلق الفكري الإبداعي والثقافي والمعماري.
وخطؤها الثاني أنها ارتكزت على الروحي؛ أي إنَّ مجملها متدين، وإنَّ الله هو الذي يعطيها، وهو الذي يأخذ منها، لذلك نجدها اتجهت إلى إعمار المساجد والكنائس ودعم المؤسسات الدينية حصراً على أهمية العمل لذلك، إلا أنها ابتعدت عن فكرها الاجتماعي، والأخذ أو الإسهام في إعمار الفكر الإنساني والأخلاقي وبناء المجتمعات والأوطان، أرادت أن تقدم نفسها.
الفكر فكرٌ، علمانياً كان أم رأسمالياً أم اشتراكياً، فهو منتج لقيادة العمل المؤسساتي، تأخذ به الدول والأمم، وتستند إليه كمنهج في حياتها وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وتعتمده في لغتها السياسية متطلعةً إلى ما تمتلكه شعوبها من حالات تدين واعتناق لما تدين به. أما الفكر الإيماني، فهو الفكر الذي يمنح الحضور للأمم بالكليِّ الخالق إيماناً بالإنسان ومحيطه النوعي الراقي والجميل.
قصدت بأنَّ لا برجوازية في الفكر، لأنه ليس هناك فكر برجوازي، فإن اصطنعه البعض فهو فكر تكبري مجوَّف، لا يشير إلا إلى التخلف والنفاق واللهاث فقط وراء ضوضاء الحياة وصخبها الذي لا يفيد حقيقة، ولا يغني واقعاً،  فهلا انتبهنا إلى واقعنا، وما الذي نسير إليه في مسيرتنا، ونحن نبحث عن منهج أو طريق؟ وكم من مرة جربنا سبلاً واستعملنا أساليب في الزراعة والصناعة والسياحة؟ وكم لبسنا من لبوس الاشتراكية والرأسمالية والبرجوازية؟
وكم من مرة وقعنا في مطبات التأثرات الدينية التي كانت غايتها الأخذ بمنهجها، كالإخوانية السياسية التي تمثل الجناح العسكري للوهابية التي سعت لتعميمها ووضع الأمة بكاملها تحت سلطتها، ولولا ثبات الموقف الوطني السوري لساد كل ذلك، وسيطر على إنساننا ومقدراتنا.
إن ما نراه اليوم، ونحن نخلص من محنة أسقطت علينا، عزاه المتدينون بلا إيمان إلى الابتعاد عن التدين، وعزاه البرجوازيون إلى ابتعادنا عن فلسفة الغرب وثقافاته، ونحن نقول: إنَّ في وطننا وأمتنا مؤمنين حقيقيين بالمكون الكلي الخالق الأزلي، يكتسبون من ثقافات الآخر ما يناسب حضورنا، ويزيد في تألقه، ويعزِّز انتصاره لبقائه ووجوده، ويتطلع دائماً ليكون في مصافِّ الأمم في أخلاقه وأدبياته، لأنه شعبٌ يرفض التملق والتكلف والتديُّن الأجوف والبرجوازيات الرخيصة.  

د. نبيل طعمة