اللمس الآدمي

اللمس الآدمي

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢١ مارس ٢٠١٧

الرغبة في الهمس حيث لا شيء يضلل أكثر من الحقيقة لحظة التحدث بها، لن يصدقك أحد، لأن النسبة العظمى من البشرية لا تدركها، فالغريزة شيء شهي جداً، لذلك نجد أن أي شيء تكسبه يغدو أحد مكونات جسدك، فكرك، حديثك، حركتك، وأيضاً أي شيء تنجزه سلباً أو إيجاباً يكون لك أو عليك، وأن يتقدم أحد ما ليربت على كتفك بالصدق العفوي مهنئاً أو معاتباً محاسباً، تظهر حينها الرغبات الخجولة بالحب للحياة الأكثر وعياً والأكبر نضجاً، ومعها تلد العاطفة المختبئة بين ثنايا الاحتياجات، يتقدم العالم بقسوته وعنفه ولطفه وطيبته مقدماً لمساً آدمياً، حيث منه  تُمنح دفئاً نادراً، يعيد كل شيء من جديد إلى نصابه.

هي هكذا الحياة، إن لم تعمل لك فاعمل عليها، كيف ننجو منها كي نستطيع أن نقوم بما نحلم به من دون الرجوع إلى الوراء، نصنعه في الواقع، يجذبنا إليه جميعاً في الأمام، حينما يكون مفيداً. الحياة تبدأ من لحظة امتلاك الحب صاحب الصراع مع الذات، وحده يؤدي إليه، فتنجب من أبنائها ما يستحقها، وغير ذلك بعيداً عنها، يمتلئ حضورها بالوحوش، بالقتلة، بالغدر.

كيف بنا نمتلك الأحلام ولا نقدر على تحقيقها؟ نسأل أنفسنا لماذا؟ هل لأنها أحلام مفيدة أم شريرة، تريد السطو على أحلام الآخر؟ أجل هي كذلك، لأنها لا تمتلك الحب ولا الإيمان الحقيقي بما نريد الوصول إليه، الأحلام ليست في السماء، إنها في العقول القابلة لتحويلها إلى حقائق. إذاً الحياة تقف بين نعم ولا، بين الحب والكراهية، بين الإيمان والإيمان، هوى تحتاجه روحها الكلية الموزعة في أجساد أحيائها، حيث لا كفر، لا حسد، لا كراهية، لأن الأمور الجيدة تحصل مع المؤمنين، تُعلمهم بأن ما بين الصخر والصخر ينبت الزهر، وما بين العسر والعسر يظهر اليسر، ولو أن الحياة سهلة وبسيطة، لما ولدت أكفاء يديرون وقتها ونظم التعامل معها.

كيف بنا نمضي حياتنا من دون أن نرى أضواءنا المسكونة في جوهرنا، ألا يبدو أن كل شيء مختلف بيننا وبين أحلامنا، بما أننا لا نستطيع أن نطلع عليها أحداً. عالم قاسٍ ودامٍ، ما أن يرى بصيص ضوء يستشعر به الأمل، يسارع لقتله ووأده حياً.

إنَّ الرغبة في استحضار تعاليم الحب التي تؤمن بالإيمان ولا تؤمن بالأديان وفردها بأسلوب مرن تلغي العبودية المخفية ضمنها، وترمي بمفرداتها في مهالك التاريخ.

ما معنى الحرية العاقلة، أو أن تكون حراً مسيّساً؟ كيف يبدو المستقبل القريب ومفهومه البعيد؟ أليست الأزمان متصلة ببعضها؟ نحن البشر من اخترعنا الأمس واليوم والغد، واستقينا المعرفة من تكوين المكون الكلي الذي دعانا للتأمل في مصنوعه ومنجزه، عندما تمتلك شيئاً يماثل ابتكار عمل فني مجيد، تنتشي الروح بعد أن تدور طويلاً في فلك الألم، فتحصل على الإيجابية التي ترسم سلوكاً فكرياً إنسانياً مهماً، في تلك اللحظة تتوالد الطاقات البناءة التي تعمل على إظهار الإيمان الدقيق والنوعي بضرورات منح التفاؤل والسعادة والأمل لإنسان اليوم المأزوم من معاصرته للواقع الذي يريد مغادرته إلى المستقبل، هل يمكن أن تشهد إنساناً بلا قلب، بلا عاطفة، بلا ضمير، مؤكد لا، لكن من الممكن أن يمتلئ كل ذلك بالقسوة والشقاء والعذاب والرغبات في السيطرة الجزئية أو الكلية، لينتهي معها الفعل الإنساني الإيجابي.

أين تكمن مأساة الإنسانية؟ هل هي متراكمة في معاني الحضارات أم في خوف العبادات التي أنتجت السلطات الدينية، أو في لحظة أن تخور قواها لتقترب بمشاعرها من النهاية التي تحكمها متاهات السياسة وغموضها المدار من الكوني؟

ماذا يعني اللمس الآدمي للأشياء؟ هل يؤدي إلى إحداث الهدوء والاتزان بفعل من المكون الكلي، ومن ثم الاستقرار لغاية تفعيل النظر المديد واكتشاف القادم من الحب والكراهية وفرزهما عن بعضهما، والانطلاق لبناء حياة واقعية بدلاً من تلك الحياة المنحطة التي انتشرت وهيمنت على مجريات انفعالات البشر مشوهة صورهم؟! مريع جداً أن نبقى فيما نحن عليه، ويقع على عاتق المقاومين لمشاعر العزلة التي تؤدي إلى إقصاء الذات أولاً عن الآخرين، ومن ثم عزل الآخرين عن المشهد ما يعني قتل الحب، كالموت لا يعترف بالتنوع البشري، أو بالثروة أو الجاه، وهو بالنسبة للحياة شيء يختلف تمام الاختلاف كما الحال في الرجل الذي يطلبه، لأنه بعيد عن وجوده، وللمرأة يشكل وجودها وكيانها، فالحب بداية المعرفة، كما إن النار من الشمس بداية النور، كلما أشرق أضفى على الإنسانية معاني الأخلاق الفاضلة.

هي هكذا الحياة التي نطلق عليها أنها عصرية ومعاصرة وحداثوية وحديثة، لذلك نجد إنسان الواقع تاه في الخيال، ودخل في متاهات المبالغات الغرائبية التي تحولت في فكره إلى مواقف عادية، تحمل صرخات استثنائية، ما يظهر المشاهد المقلقة وابتذال الأخلاق السائدة التي تعلن الحاضر بإرادة استعادة الأحلام الفائتة.

إلى أين تتجه الرؤوس الباحثة عن التسلق حينما تنحني للأرض؟ وهل تكون في حالتها تعبيراً عن «التحايا» أم تعزيزاً للإجلال، أو أنها تخفي الرهبة والارتياع من أولئك العابثين المسيطرين الواصلين إلى القبض على مصائر الناس نتاج الحرمان من الحب والعاطفة وخيال المرأة المؤنسة التي تَربتُ بحنانها على الأكتاف، أو بفعل من ذاته ليكون لها.

إنهم المحتاجون والمحرومون في آن إلى ذلك اللمس الآدمي الذي ظهر أول مرة مع حضور الحياة، حيث كانت عفوية الخطيئة لا تدرك معنى الكره الجشع القتل، فصنع فيها الجمال الأبدي الذي لا نظير له.

من منا لم يُلمس أو يُلتمس من أحد ما، ولو لم يكن ذلك، فهل كنا وصلنا إلى ما نحن عليه، ليتفكر الذين وصلوا، فهم سيجدون أن هناك في حياة كل واحد لمسة نقلته مما هو فيه إلى ما لم يكن يتوقعه، وعندما ندرك ذلك، أو نصل إلى معرفته، هل نبحث عنه، ونتمسك به، حتى وإن كانت قوى خفية غير مرئية أو مرئية؟ كيف بنا نبادر لتقديم الشكر لها؟ أم إننا ننكرها، ونحادث ذاتنا، بأننا نحن من صنع ذلك بعد وصولنا إلى تلك التي تعيدنا ربما إلى البداية، أو تسقطنا في مجاهل التيه والألم؟

موضوع أطرحه يخص المؤمنين بالحياة والباحثين عن التألق فيها، لذلك كان عنواني اللمس الآدمي الذي نحتاج إليه.

د. نبيل طعمة